المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ما جاني أمر


ربانة
01-05-2007, 07:55
يخطو نحو العشرين ، دخل المسجد.. يحمل جرحين : آثار حادث سيارة ، خرج منه محطم الساقين .. محطم القلب ، على (أحلام) للشباب مبكرة ، اغتالها الحادث .. و تداعياته على الجسد و (القلب) .. جرحه الثاني ، كان هموم أمة .. حملها صغيرا ، و تفتحت (عيون) القلب على واقع بئيس لها .. تخلف و هزائم ..
الوجع هذه المرة جاء من أفغانستان ..

يتذكره .. كان يوم ثلاثاء ، حينما اجتاحت الدبابات الروسية كابل في أواخر شهر ديسمبر 1978 . كان شتاءا قاسيا .. و ما زال ، ما أطول (شتاءاتنا) ..!

بقي ينتظر يوم الجمعة .. (ستهتز) المنابر ، لهول الحدث .. هكذا حدث نفسه ..!

و طفق يبحث عن (جامع) يصلي فيه .

كان يريد أن يصلي .. و كان وجعا غائراً.. مكتوما ، يصرخ في أعماقه .. يبحث له عن (فم) .. !

أحس .. كأنما دوائر هائلة من الألم تنداح في لجة أعماقه .. آهة حقيقية تتلوى في صدره .. و طوفان رفض عارم يهدر في شرايينه ..

يموت .. مثل موج هادر .. يبتلعه الرمل على شاطئ خاو ٍ .. مهجور..

بلع ريقه المُرّ ، و هويتذكر مقطعا كان قد سمعه ، أول ما بدأ عصفور قلبه الصغير محاولاته الأولى للطيران ..

" بي آهة .. عجزت أبلقى لها فم .."

قد كبر .. و اعتنق القلب(حبا) آخر .. مع حبه الأول ، و كبرت الآهة ..!

ناء القلب .. فوق( حبه) القتيل بحادث السيارة ، بحب أمة مهزومة .. فحمل الهزيمة .. و احتمل الجراح .

اتخذ مكانا في الصف الأول ، قريبا من الإمام . لم يدر لم اختار ذلك المسجد بالذات . كان يبحث عمن يطلق الصرخة التي تتحشرج في داخله .. و تكاد ، و هي تدق جدران صدره بعنف .. و تركض مجنونة بين قلبه وعقله و حنجرته .. بحثا عن مخرج ، أن تمزق أحشاءه .

الصفوف طويلة .. و كل شيء كان داكنا : الإضاءة الضعيفة ، لون الفرش ، الملابس الشتوية الملونة ، و وجوه (المخبرين) .. و روحه المثخنة .. المظللة بلون الدم :

أمة تنزف .. و عصفور قلب جريح ..

يبلع ريقه المر ، و يتراءى له وجه أمه ، تقرأ الوجع في عينيه .. ليست تدري من أي الجرحين يشكو ..!

يتراءى له وجهها .. تصب فنجان القهوة ، و تكاد تمد يديها ، تلتقط حطام وجع يتصبب من عينيه .. و تردد :

" و الله ما خليك و أنت اليوم خالجني .. إما اتلف الروح .. أو آخذ معك سجة .."

كثيرا ما سمع منها .. مثل هذا الشعر ، الذي يُحدّث عن الألم .. إذ يعذب الروح ، و يفريها حتى القرار ..

بعض الحزن لا يحتمله القلب ..

و بعضه لا يحتمله الجسد ..

فيفيض من العيون ..

كأنما تريد أن تقول له : أعرف معنى أن يخفق القلب .. يرف عصفوره الصغير بجناحيه !

فتصطخب الجوارح ..

لا تدري أي الجرحين يشكو..!

تخاف أمه من شيئين : أن يفرط عصفور القلب في (التحليق) ،فتغرس فيه الصبابة جرح عميق ، أو أن يفرط في حب (أمته), فتخطفه ( كتائب ) المخبرين ..!

فيما بعد ، حين منحوه الحرية بمكرمة (!!) .. قال لأمه :

- كنتِ تخافين ..!

و تعاقبت امام ناظريه ومضات لوجهها .. و وجه السجان ، و( أربع) مملوءة بصلصلة الحديد ، و ألوان القضبان الرمادية .. و حذاء المحقق يهوي على رأسه ..

و هامات مغموسة في الذل ..

كان يظنه صوتها ، ضجيج الحناجر.. صدى الباب الحديدي الضخم ، و هو يدقه بقبضته ..

حيث تختنق الحرية .. فلا يبقى لها (نفسا) مسموعا .. إلا صوت قبضة تدق بابا مصمتا ..

ماتت دونه كل الكرامات ..

سألها :

- ما الفرق بين الهاجس و النبوءة ؟

- الآدمية المهدرة ..

ظن أنها قالتها .. و هو يقرأ عنوانا لتقرير ملقى على الفراش .. بجانبها ..!

رأى الباب يُفتح ، و يدلف منه. كان نحيلا يتهادى في أربعيناته . اشتمل بمشلحه ، وهو يهمّ بصعود درجات المنبر . التفتَ ورءاه .. كان المسجد قد امتلأ . اكتظت الصفوف ، فأغلقت الأبواب الأمامية .. لتصد تيار الهواء البارد الذي كان يندفع للداخل .. مؤكدا أنه (ديسمبر) ، و (شتاؤنا) الطويل ..

الأنفاس الحارة ، و الملابس الثقيلة ، أشاعت الدفء ، فبدأت الأجساد تتململ . .

دوي أصوات قراءة القرآن .. خلق شعوراً نقله إلى كابل :

كأن الذي يسمعه .. ليس تراتيل سورة الكهف .. بل عويل الجروح في شتاء مدينة ذبيحة ..!

الخطبة الأولى بدأت .. تحفز .. و زاد تحديقه بالإمام . المسح على الخفين للمقيم ..

أمعن الإمام في حديث الخف و (مواصفات) الحذاء ..

و ازداد هوتحديقا فيه ..



....................يتبع

ربانة
01-05-2007, 07:57
عويل الجرح يزداد ..

حرارة المكان تزداد ، و الأجساد تتململ .. معاطف تخلع ، و أعناق تشرئب ..

الإمام كان ما يزال مستغرقا في الخف .. يتنقل بين ظاهر الحذاء و باطنه ..

التفت .. التقطت عينه مشهد (الأحذية) السوداء اللامعة متناثرة عند الباب الخلفي ..

و الإمام مازال في (الخف) ..!

لون الأحذية .. داكن أيضا ..

صك ما بين أسنانه ، و كتم نفسا حارا ارتفع منه صدره :

سوف يذكر (مأساتهم) في الخطبة الثانية ..

الحدث هائل .. لا بد أن يشير إليه ..

في الاستراحة بين الخطبتين ، أطال الإمام التأمل في الحضور ، و بدا أكثر إصرارا على( استثارة) الحاضرين ، بتلمس (معاناتهم) .. مثلما (فعل) في الخطبة الأولى .. ! يوم كانت الأجساد تتململ ، و الأعناق تشرئب .. و الملابس الداكنة تحكم الخناق عليها ..

و الإمام يمعن (.... ) ..!

و كلام كثير (يثير) حفيظة الصرخة المخنوقة ..

لم يلاحظ الإمام الملابس الداكنة ، و لم يفتقد هواء ديسمبر البارد .. كان ملتحفا بعباءته الصوفية الثقيلة ، و لم يسمع عن أقدام عارية (بيضاء) أكلها الثلج .. تزحف هاربة من شتاء كابل (الأحمر) ..

و كلام يأتي من أعماق قتل (الصقيع) الإحساس فيها ..

كان (غارقا) في الخف .. و في مواصفات الحذاء ، فلم يشعر بشيء ..

الخطبة الثانية .. المسح على الخفين للمسافر ..!

حرارة المكان تزداد ..

و الإمام مازال .. مسترسلا في مسائل الخف ..

و العويل اختنق .. تحت الخفين...

الأحذية السوداء اللامعة تراكمت ..

و أقدام عارية تتهتك ..

و (جورب) الإمام كان سميكا .. متماسكا ..

سيدعو لهم في القنوت .. !

ابتدأ الدعاء .. فأصغى بشدة ..

دعا لولاة الأمور .. و لأئمة المسلمين ..

" اللهم أصلح بطانتهم " ..!

سأل الله الغيث .. و دعى أن يكون على منابت الشجر ..

و بطون الأودية ..

حذر من البدع .. و (موالاة) الكفار ..

ثم حمد الله ..

" على ما أنعم به (علينا ) ، من نعمه الظاهرة و الباطنة " ..

التي (يحسدنا) عليها الكفار ..

ثــم ..

" أقول قولي هذا و أستغفر الله ( لي ) .. و لكم .. "

- أقم الصلاة ..

في الركعة الأولى قرأ :" الذين إن مكناهم في الأرض .. " ..

و في الركعة الثانية : " إنا فتحنا لك فتحا مبينا .." ..

بعد الصلاة نهض .. سار باتجاهه ..

اقترب .. كان ثمة شعرات بيضاء في عارضه نجت من لون الحناء (الأحمر) .. ضحك للمفارقة .. (بيضاء) نجت من (الأحمر) ..!

قال له :

- لم تتحدث عن الغزو ..

- ما جاني (أمر) ..

سحب مكبر الصوت من أمامه .. :

- دعني .. أنا سوف أتكلم ..!

- لا .. ما عندك أمر ..

تجاذب معه السماعة .. أكثر من مرة ..

التفت إلى الصفوف .. كانت طويلة ، و كان ثمة عشرات الأعين تطيل النظر إليه ..

كم ( مخبر) بينهم .. جال هاجس في خاطره ..؟!

يتذكر الآن .. ما كانت أمه تخاف ..

صلصلة الحديد ، و القضبان الرمادية ..

فتنقبض شفتاه على لعاب حامض .. يود لو لفظه ..!

أرخى يده .. غامت الدنيا في عينيه ، و عاد إلى مكانه في الصف ..

و عاد الإمام .. الجمعة التالية ، ليتحدث عن التيمم .. إذا خشي المرء على نفسه البرد ..!

و يدعو : " اللهم أعز الإسلام و المسلمين " .. !

عشرون عاماً و نيف.. مرت ..

أفرط خلالها في حب( أمته) .. و صار الذي خافت منه أمه ..

خطفته (الكتائب) ..

و ظل (الإمام) يحدث الناس في (الشتاء) الطويل .. الطويل ..عن المسح على الخفين ..!

و ثوىهو في (غيبوبة) ..

يحدق في القضبان ، و يدق بابا مصمتا .. يسمع صداه ..

و يخاله .. احتجاج هامات مغموسة في الهوان ..

الإمام (يمعن) .. !

و الأحذية تتراكم ..

اليوم خرج ليصلي الجمعة ..

أمام منصة لعرض الصحف وقف ..

قلّب بعض الصحف و المجلات المصفوفة ..

صور لرجال في (أقفاص) .. و تصريح لـ (شيخ) :

"لا يجوز التعرض للدول و الأشخاص " .. !

و كلمة تتكرر كثيرا :

" غوانتانامو ... يتبع

ربانة
01-05-2007, 07:59
غوانتانامو .."

دخل المسجد .. أخذ مكانا في الصفوف الأولى ..

ديسمبر مرة أخرى .. و (الغزاة) السود .. !

و (رجال ) في أقفاص .. و صوت يجلده :

غوانتانامو .. غوانتانامو ..

و تصريح الـ (شيخ) : لا يجوز .. لا يجوز .. !

ينزع بقية من (إنسانية) يتشبث بها .. اقتلعها (الغزاة) من رجال في أقفاص ..

تحدث الخطيب عن (زكاة الفطر) ..

و سأل الله المطر ..

و دعا لـ (ولاة الأمر) .. و أئمة المسلمين ..

كانت (الأحذية) متراكمة ..

و لعاب مثل الحامض .. يتراكم .. يشوي حلقه ..

و صوت يجلده :

" غوانتانامو .. ما جاني أمر ..

غوانتانامو .. ما جاني أمر ..

لا يجوز .. ! "








......( د.محمد الحضيف )

ربانة
01-05-2007, 08:08
اليكم أنشودة أعجبتني كثيرا .......


http://phys4arab.net/up/download.php?filename=42d8b2aaee.rar




ربــــــــــــــــــــــــــــ تحييكم ــــــــــــــــــــــــانة

bero
01-05-2007, 11:29
مـــــــــا جاني أمر



يالها من قصه راااائعه



دمتِ متألقه ربانتنا العزيزة:p

kingstars18
01-05-2007, 12:00
شكرا لك وبارك الله فيك،،

ربانة
01-05-2007, 23:25
الاساتذة

بيرو


الكنج


سعدت بمروركم حفظكم الله ورعاكم وجزاكم الله كل الخير

عادل الثبيتي
02-05-2007, 00:49
يعطيك العافيه وبارك الله فيك وجزاك الله خيـــــــــــراً ،،،

ربانة
04-05-2007, 00:56
شكرا للأستاذ عادل على المرور وجزاك الله كل الخير وبارك الله فيك

احساس
04-05-2007, 14:23
جزيت خيرا

شموس المجد
05-05-2007, 00:39
بارك الله فيك

ربانة
05-05-2007, 12:14
الاستاذتان

احساس

شمس الاصيل

شكرا جزيل الشكر لكما على المرور العطر
بارك الله فيكما