fermi
17-06-2008, 10:51
النظرة السطحية للموجودات, فينا, ومن حولنا, كانت تقسِّم المواد إلى حيّة يكتنفها الإدراك,وجامدة لا تُدرك. لكن العلوم الأحدث تثبت أن للجوامد نوعًا من الإدراك ودرجات من التدبير, وهو ما يكشف عنه هذا المقال, ويعيدنا إلى أفق التأمل الروحي ورحاب احترام الفطرة, وإن كان يستخدم تعبير (التنظيم الذاتي للمادة) عِوضًا عن (العقل ) .
تزخر الحياة الواقعية, بالقصص التي يضحي فيها الإنسان بنفسه أو يرتكب جريمة أو يصاب بالجنون بتأثير العلاقات الإنسانية المختلفة. ويبدو من مثل تلك المواقف أن علاقة الإنسان بالإنسان, على وجه العموم, تخضع لقوى تبدو حتمية وقادرة على أن تقهر إرادة الإنسان, تماما مثل القوى الحتمية المادية. فنحن نستخدم ضمنا في تعبيراتنا عبارات تدل على مفاهيم وعلاقات مادية, وربما قوانين مادية تقديرية أيضا. فهناك قواعد للتجاذب والتنافر بين البشر, وهناك تطبيقات لقانون رد الفعل على المستوى الإنساني. والإنسان قد يكون (مرنا) أو (صلبا), (خشنا) أو (ناعما), (باردا) أو (حارا), والمجتمع مثل (النهر) مكون من (تيارات) فكرية, أو مثل الغاز يمكن أن (ينفجر) إذا زاد الضغط عليه..وهكذا .
وفي مقابل ذلك فإن المادة الجامدة هي الأخرى ليست في كل الأحوال خاضعة للقوانين المادية الحتمية الصارمة, وإنما هي في أحوال كثيرة تقوم باختيارات لا يمكن تفسيرها بواسطة تلك القوانين. فالمادة على وجه العموم تتحرى الاقتصاد في الطاقة, والتشكيلات الجمالية, دون سبب مفهوم, كما أن المادة بشكل غامض أيضا تتحرى الصورة الرياضية سواء بشكل محدد أو بشكل احتمالي, وهذا التوجه هو منشأ القوانين الرياضية الطبيعية .
أي أنه على وجه العموم يمكن القول إن الطبيعة المادية ليست في كل الأحوال خاضعة للسببية الصارمة. وكذلك فإن الطبيعة الإنسانية ليست في كل الأحوال معبرة عن الإرادة الإنسانية الحرة, وأن هناك علاقة غامضة بين الاثنين. وقد درج الإنسان في الفكر القديم على الاعتقاد في حيوية المادة, وعلى الاعتقاد بصفات خاصة بالمواد المختلفة مرتبطة بالحياة الإنسانية. أما في الفكر الحديث فقد وضعت تفرقة أساسية بين المادة الجامدة الخالية من الحياة, والمادة الحية التي يتكون منها النبات والحيوان والإنسان. وكذلك بين المادة الحية الخالية من العقل والإنسان الحي العاقل. وقد ترتب على ذلك أن أصبحت المادة شيئا خاملا جامدا لا يتحرك إلا بتأثير مؤثر خارجي هو القوى المادية, وأن حركة المادة بتأثير تلك القوى يمكن التنبؤ بها بدقة كاملة من خلال القوانين المادية .
الكون الواعي
ابتداء من الثلث الأول من القرن العشرين وظهور نظريات النسبية وميكانيكا الكم والنظرية المعيارية للذرة واكتشاف ظواهر الفوضى المنظمة (الكاوس) واكتشاف آليات عمل الخلية الحية والشفرة الجينية وآليات التفاعل الكيميائي ووظائف المواد العضوية وتطور أبحاث المخ والأعصاب, بدأت النظرة إلى المادة في التغير مائة وثمانين درجة .
فنتيجة لتلك التطورات بدأت تدريجيا في التشكل نظرة إلى العالم ترتكز على الطبيعة الذاتية للمادة في أشكالها المختلفة, وعلى الصور المختلفة للترابط بين أجزاء الكون. وكان من أسباب ذلك فشل النظرية الميكانيكية في تفسير العديد من الظواهر المختلفة للكون, وعدم وجود نظرية فيزيائية متكاملة, وفشل أبحاث المخ والأعصاب في تفسير ظاهرة الوعي في العقل الإنساني .
ففي عام 1974 نشر الفيلسوف توماس ناجل مقالة شهيرة بعنوان (مثل ماذا أن تكون وطواطا), مبينا أن الوطواط يستبدل بالرؤية الموجات فوق الصوتية, ويتساءل عن وعي الوطواط, هل هو شيء مماثل للرؤية أم شيء آخر? ويرى فيلسوف العلوم المعرفية ديفيد تشالمرز في (العقل الواعي) (1995) أن المشكلات الصعبة التي تواجهنا عند تفسير كيفية عمل المخ هي تلك المتعلقة بتفسير الكيفية التي تتحول بها المدركات إلى مشاعر واعية, ويرى أن هذه الأخيرة غير قابلة للتفسير. وهو يتفق مع العديد من كبار الفلاسفة المعاصرين, مثل فرانك جاكسون وجالن ستراوسن وتوماس ناجل في أنه لا يمكن استنتاج الخبرة الواعية من أي نظرية فيزيائية, وأنه لا بد من اعتبار أن ظاهرة الوعي هي ظاهرة أساسية في الوجود, وأنه يمكن بناء على ذلك افتراض أن لكل الموجودات وعيا خاصا بدرجة ما. وهو الأمر الذي حاول تطبيقه جورج روزنبرج في (مكان للوعي) (2004) في نظريته التي سماها (الطبيعية الليبرالية ) .
ويؤيد هذا الاتجاه عدد من العلماء بناء على أبحاث نظرية تطبيقية, فيرصد العالم الروسي إيليا بريجوجين الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1977 الضعف الأساسي في التصور الميكانيكي للمادة, والمتمثل في العجز عن تفسير ظهور التنظيمات المعقدة في الطبيعة. وذلك بالإضافة إلى الانفصال بين النظرية الميكانيكية للحركة والنظرية الثرموديناميكية وتعارضهما. وذلك في حين يطرح العالم فرانك تبلر في (المبدأ الكوني الإناسي) (1994) تصورا مفاده أن الكون في مجمله ليس إلا نظاما لتشغيل المعلومات. المادة هي المكونات الصلبة للنظام (هاردوير) وقوانين الطبيعة هي المكونات اللينة للنظام (سوفتوير). وهو يرى أن التنظيم الذاتي لأي منظومة يعكس كمية المعلومات المشفرة في داخلها, والحياة ليست إلا مستوى معينا من المعلومات مكودَّة بشكل يؤدي إلى الحفاظ عليها من خلال الانتخاب الطبيعي. وبذلك المعنى ليس هناك فرق أساسي بين المستويات المتتالية للموجودات إلا مستوى التنظيم, أو مستوى تشفير المعلومات. ويركز العالم ديفيد بوهيم (1990) على التناقض بين نظرية النسبية وميكانيكا الكم, ويقترح وجود (مجال كامن) على مستوى ميكانيك الكم, ترتكز عليه النظريات التي تربط بين العقل والمادة .
وفي صورة مختلفة يعبر توم ستونير, في (التاريخ الطبيعي للذكاء) (عام 1992), عن نفس الفكرة, حيث يرى أن الذكاء هو صفة أساسية تتميز بها جميع الموجودات بدرجات مختلفة, تبدأ من المواد الجامدة إلى المجتمعات الإنسانية. وتتعدد التصورات التي تعبر عن مفاهيم مشابهة, مثل فكرة سببية الفاعل (أي السببية التي تنشأ من المادة ذاتها) فولمر (1999), أو اعتبار الميول الطبيعية للمادة صفة أساسية للمادة, ممفورد (1998). والصورة النهائية التي تهدف إليها تلك التصورات المختلفة هي ما يطلق عليه (الكلية) أو التصور الكلي المتشابك للكون الذكي ذي التنظيم الذاتي, الذي يأخذ في اعتباره مختلف ظواهر الوجود المادية والعقلية. وهو ما عبر عنه العالم جيرالد إدلمان الحاصل على جائزة نوبل عام 1972 حينما عنون مؤلفه الصادر عام 2001 بعنوان (عالم من الوعي: كيف تتحول المادة إلى تخيلات ؟ ) .
(يتبع)
تزخر الحياة الواقعية, بالقصص التي يضحي فيها الإنسان بنفسه أو يرتكب جريمة أو يصاب بالجنون بتأثير العلاقات الإنسانية المختلفة. ويبدو من مثل تلك المواقف أن علاقة الإنسان بالإنسان, على وجه العموم, تخضع لقوى تبدو حتمية وقادرة على أن تقهر إرادة الإنسان, تماما مثل القوى الحتمية المادية. فنحن نستخدم ضمنا في تعبيراتنا عبارات تدل على مفاهيم وعلاقات مادية, وربما قوانين مادية تقديرية أيضا. فهناك قواعد للتجاذب والتنافر بين البشر, وهناك تطبيقات لقانون رد الفعل على المستوى الإنساني. والإنسان قد يكون (مرنا) أو (صلبا), (خشنا) أو (ناعما), (باردا) أو (حارا), والمجتمع مثل (النهر) مكون من (تيارات) فكرية, أو مثل الغاز يمكن أن (ينفجر) إذا زاد الضغط عليه..وهكذا .
وفي مقابل ذلك فإن المادة الجامدة هي الأخرى ليست في كل الأحوال خاضعة للقوانين المادية الحتمية الصارمة, وإنما هي في أحوال كثيرة تقوم باختيارات لا يمكن تفسيرها بواسطة تلك القوانين. فالمادة على وجه العموم تتحرى الاقتصاد في الطاقة, والتشكيلات الجمالية, دون سبب مفهوم, كما أن المادة بشكل غامض أيضا تتحرى الصورة الرياضية سواء بشكل محدد أو بشكل احتمالي, وهذا التوجه هو منشأ القوانين الرياضية الطبيعية .
أي أنه على وجه العموم يمكن القول إن الطبيعة المادية ليست في كل الأحوال خاضعة للسببية الصارمة. وكذلك فإن الطبيعة الإنسانية ليست في كل الأحوال معبرة عن الإرادة الإنسانية الحرة, وأن هناك علاقة غامضة بين الاثنين. وقد درج الإنسان في الفكر القديم على الاعتقاد في حيوية المادة, وعلى الاعتقاد بصفات خاصة بالمواد المختلفة مرتبطة بالحياة الإنسانية. أما في الفكر الحديث فقد وضعت تفرقة أساسية بين المادة الجامدة الخالية من الحياة, والمادة الحية التي يتكون منها النبات والحيوان والإنسان. وكذلك بين المادة الحية الخالية من العقل والإنسان الحي العاقل. وقد ترتب على ذلك أن أصبحت المادة شيئا خاملا جامدا لا يتحرك إلا بتأثير مؤثر خارجي هو القوى المادية, وأن حركة المادة بتأثير تلك القوى يمكن التنبؤ بها بدقة كاملة من خلال القوانين المادية .
الكون الواعي
ابتداء من الثلث الأول من القرن العشرين وظهور نظريات النسبية وميكانيكا الكم والنظرية المعيارية للذرة واكتشاف ظواهر الفوضى المنظمة (الكاوس) واكتشاف آليات عمل الخلية الحية والشفرة الجينية وآليات التفاعل الكيميائي ووظائف المواد العضوية وتطور أبحاث المخ والأعصاب, بدأت النظرة إلى المادة في التغير مائة وثمانين درجة .
فنتيجة لتلك التطورات بدأت تدريجيا في التشكل نظرة إلى العالم ترتكز على الطبيعة الذاتية للمادة في أشكالها المختلفة, وعلى الصور المختلفة للترابط بين أجزاء الكون. وكان من أسباب ذلك فشل النظرية الميكانيكية في تفسير العديد من الظواهر المختلفة للكون, وعدم وجود نظرية فيزيائية متكاملة, وفشل أبحاث المخ والأعصاب في تفسير ظاهرة الوعي في العقل الإنساني .
ففي عام 1974 نشر الفيلسوف توماس ناجل مقالة شهيرة بعنوان (مثل ماذا أن تكون وطواطا), مبينا أن الوطواط يستبدل بالرؤية الموجات فوق الصوتية, ويتساءل عن وعي الوطواط, هل هو شيء مماثل للرؤية أم شيء آخر? ويرى فيلسوف العلوم المعرفية ديفيد تشالمرز في (العقل الواعي) (1995) أن المشكلات الصعبة التي تواجهنا عند تفسير كيفية عمل المخ هي تلك المتعلقة بتفسير الكيفية التي تتحول بها المدركات إلى مشاعر واعية, ويرى أن هذه الأخيرة غير قابلة للتفسير. وهو يتفق مع العديد من كبار الفلاسفة المعاصرين, مثل فرانك جاكسون وجالن ستراوسن وتوماس ناجل في أنه لا يمكن استنتاج الخبرة الواعية من أي نظرية فيزيائية, وأنه لا بد من اعتبار أن ظاهرة الوعي هي ظاهرة أساسية في الوجود, وأنه يمكن بناء على ذلك افتراض أن لكل الموجودات وعيا خاصا بدرجة ما. وهو الأمر الذي حاول تطبيقه جورج روزنبرج في (مكان للوعي) (2004) في نظريته التي سماها (الطبيعية الليبرالية ) .
ويؤيد هذا الاتجاه عدد من العلماء بناء على أبحاث نظرية تطبيقية, فيرصد العالم الروسي إيليا بريجوجين الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1977 الضعف الأساسي في التصور الميكانيكي للمادة, والمتمثل في العجز عن تفسير ظهور التنظيمات المعقدة في الطبيعة. وذلك بالإضافة إلى الانفصال بين النظرية الميكانيكية للحركة والنظرية الثرموديناميكية وتعارضهما. وذلك في حين يطرح العالم فرانك تبلر في (المبدأ الكوني الإناسي) (1994) تصورا مفاده أن الكون في مجمله ليس إلا نظاما لتشغيل المعلومات. المادة هي المكونات الصلبة للنظام (هاردوير) وقوانين الطبيعة هي المكونات اللينة للنظام (سوفتوير). وهو يرى أن التنظيم الذاتي لأي منظومة يعكس كمية المعلومات المشفرة في داخلها, والحياة ليست إلا مستوى معينا من المعلومات مكودَّة بشكل يؤدي إلى الحفاظ عليها من خلال الانتخاب الطبيعي. وبذلك المعنى ليس هناك فرق أساسي بين المستويات المتتالية للموجودات إلا مستوى التنظيم, أو مستوى تشفير المعلومات. ويركز العالم ديفيد بوهيم (1990) على التناقض بين نظرية النسبية وميكانيكا الكم, ويقترح وجود (مجال كامن) على مستوى ميكانيك الكم, ترتكز عليه النظريات التي تربط بين العقل والمادة .
وفي صورة مختلفة يعبر توم ستونير, في (التاريخ الطبيعي للذكاء) (عام 1992), عن نفس الفكرة, حيث يرى أن الذكاء هو صفة أساسية تتميز بها جميع الموجودات بدرجات مختلفة, تبدأ من المواد الجامدة إلى المجتمعات الإنسانية. وتتعدد التصورات التي تعبر عن مفاهيم مشابهة, مثل فكرة سببية الفاعل (أي السببية التي تنشأ من المادة ذاتها) فولمر (1999), أو اعتبار الميول الطبيعية للمادة صفة أساسية للمادة, ممفورد (1998). والصورة النهائية التي تهدف إليها تلك التصورات المختلفة هي ما يطلق عليه (الكلية) أو التصور الكلي المتشابك للكون الذكي ذي التنظيم الذاتي, الذي يأخذ في اعتباره مختلف ظواهر الوجود المادية والعقلية. وهو ما عبر عنه العالم جيرالد إدلمان الحاصل على جائزة نوبل عام 1972 حينما عنون مؤلفه الصادر عام 2001 بعنوان (عالم من الوعي: كيف تتحول المادة إلى تخيلات ؟ ) .
(يتبع)