الحارث
23-09-2009, 01:09
حج عبدالله بن عباس بالناس، ونزل ذات يوم منزلاً، وطلب من غلمانه طعاماً، فلم يجدوا شيئاً،
فقال لهم: اذهبوا إلى البرية لعلكم تجدون راعياً أو خيمة فيها لبن أو خبز، فمضوا حتى وقفوا على عجوز،
فقالوا لها: أعندك طعام نبتاعه؟
قالت: أما للبيع فلا، ولكن عندي ما يكفيني أنا وأبنائي،
فقالوا: وأين بنوك؟ قالت: في مرعى لهم، وهذا أوانهم،
قالوا: وما أعددت لهم؟ قالت: خبزة،
قالوا: أوليس عندك شيء آخر؟
قالت: لا، قالوا: فجودي لنا بشطرها،
قالت: أما الشطر فلا أجود به، وأما الكل فخذوه،
فقالوا: تمنعين النصف، وتجودين بالكل!
قالت: نعم، لأن إعطاء الشطر نقيصة، وإعطاء الكل فضيلة، فأنا أمنع ما يضعني، وأمنح ما يرفعني، ثم أعطتهم الخبز، فرجعوا إلى ابن عباس وأخبروه بأمرها، فطلب رؤيتها، فبادروا إليها
فقالت: وماذا يريد مني ابن عباس؟ قالوا: إكرامـَك ومكافأتك،
فقالت: والله لو كان ما فعلته معروفاً ما كنت لآخذ عنه بديلاً، فكيف وهو شيء يجب أن يتشارك فيه الناس، فألحـُّوا عليها حتى وصلت إلى عبدالله،
فقال لها: ممن أنت يا خالة؟ قالت: من قبيلة بني كلب، آكل الخبز وأكتفي منه بالقليل، وأشرب الماء من عين صافية وأبيت ونفسي من الهموم خالية، فازداد استغراباً وأمر بإحضار أولادها
وقال لهم: إني لم أطلبكم لمكروه، وإنما أحب مساعدتكم بمال،
فقالوا: نحن في كفاف من الرزق فوجـِّه مالك نحو من يستحقه،
فقال: لا بد أن يكون لي عندكم شيء تذكروني به، وأمر لهم بـ10 آلاف درهم، و20 ناقة مع فحلها.
كلمة أخيرة:
جميلة تلك الحكاية التراثية، والأجمل منها وضعها في سياقها الزمني، فلا أظن أن امرأة عصرنا تسنح لها الفرصة بمساعدة من في مكانة ابن عباس وقتذاك، ثم ترفض اعترافه بجميلها،
فإن لم يكن لشخصها فعلى الأقل سبيلاً لمصلحة أبنائها، كما لا أعتقد أن رجال الحاضر يُجمعون على التضحية بإعانة مسؤول لهم، ويطلبون منه توجيه المال إلى من يحتاج إليه أكثر منهم وهم من أحوج الناس إليه،
فماذا حدث؟!
هل نقول إن النفوس اختلفت؟!
نعم، واختلاف جذري بتغيّر الظروف والمعطيات، والذي انعكس بدوره على العبء الخلقي والحضاري،
فانشغال عالمنا بمتطلباته العصرية والملحة أدى إلى تغليب الجانب المادي، وكذلك السطحي السريع على الجوانب الأخرى على أهميتها، فمعظم طموحات شباب اليوم لا تخرج عن امتلاك السيارة والوضع الاجتماعي المريح الذي يحدد معه تباشير المستقبل، بل إن اهتمامات الأجيال على اختلاف مراحلها العمرية أصبحت فردية ذاتية لا ترتبط كثيراً بالشأن العام أو بالترفع الأسمى، وهو أمر واقعي في ظل المغريات الاستهلاكية المعروضة،
يقول جبران: «لو أصغت الطبيعة إلى مواعظنا في القناعة لما تحول شتاء إلى ربيع»،
ومع كل هذا يبقى السؤال:
متى تتشكل أعمدة النهضة العربية التالية من رجالها ونسائها بتجردهم العلمي والموضوعي؟ لن يحدث إلا بانتقال الوعي العربي إلى مرحلة أعلى وأعمق من القضايا المطروحة والمكررة، إنه دور يبحث عن إدراك «أوسع وأجرأ وأنزه» للعقل والضمير العربي. يقول المربي البريطاني»هابولد» ورأيته مناسباً: «الوضع الراهن يوحي بأننا على وشك المرور بقفزة من تلك القفزات التطورية الهائلة التي تمر بحياة الإنسان العقلية والروحية»
ثريا الشهري( جريدة الحياة)
فقال لهم: اذهبوا إلى البرية لعلكم تجدون راعياً أو خيمة فيها لبن أو خبز، فمضوا حتى وقفوا على عجوز،
فقالوا لها: أعندك طعام نبتاعه؟
قالت: أما للبيع فلا، ولكن عندي ما يكفيني أنا وأبنائي،
فقالوا: وأين بنوك؟ قالت: في مرعى لهم، وهذا أوانهم،
قالوا: وما أعددت لهم؟ قالت: خبزة،
قالوا: أوليس عندك شيء آخر؟
قالت: لا، قالوا: فجودي لنا بشطرها،
قالت: أما الشطر فلا أجود به، وأما الكل فخذوه،
فقالوا: تمنعين النصف، وتجودين بالكل!
قالت: نعم، لأن إعطاء الشطر نقيصة، وإعطاء الكل فضيلة، فأنا أمنع ما يضعني، وأمنح ما يرفعني، ثم أعطتهم الخبز، فرجعوا إلى ابن عباس وأخبروه بأمرها، فطلب رؤيتها، فبادروا إليها
فقالت: وماذا يريد مني ابن عباس؟ قالوا: إكرامـَك ومكافأتك،
فقالت: والله لو كان ما فعلته معروفاً ما كنت لآخذ عنه بديلاً، فكيف وهو شيء يجب أن يتشارك فيه الناس، فألحـُّوا عليها حتى وصلت إلى عبدالله،
فقال لها: ممن أنت يا خالة؟ قالت: من قبيلة بني كلب، آكل الخبز وأكتفي منه بالقليل، وأشرب الماء من عين صافية وأبيت ونفسي من الهموم خالية، فازداد استغراباً وأمر بإحضار أولادها
وقال لهم: إني لم أطلبكم لمكروه، وإنما أحب مساعدتكم بمال،
فقالوا: نحن في كفاف من الرزق فوجـِّه مالك نحو من يستحقه،
فقال: لا بد أن يكون لي عندكم شيء تذكروني به، وأمر لهم بـ10 آلاف درهم، و20 ناقة مع فحلها.
كلمة أخيرة:
جميلة تلك الحكاية التراثية، والأجمل منها وضعها في سياقها الزمني، فلا أظن أن امرأة عصرنا تسنح لها الفرصة بمساعدة من في مكانة ابن عباس وقتذاك، ثم ترفض اعترافه بجميلها،
فإن لم يكن لشخصها فعلى الأقل سبيلاً لمصلحة أبنائها، كما لا أعتقد أن رجال الحاضر يُجمعون على التضحية بإعانة مسؤول لهم، ويطلبون منه توجيه المال إلى من يحتاج إليه أكثر منهم وهم من أحوج الناس إليه،
فماذا حدث؟!
هل نقول إن النفوس اختلفت؟!
نعم، واختلاف جذري بتغيّر الظروف والمعطيات، والذي انعكس بدوره على العبء الخلقي والحضاري،
فانشغال عالمنا بمتطلباته العصرية والملحة أدى إلى تغليب الجانب المادي، وكذلك السطحي السريع على الجوانب الأخرى على أهميتها، فمعظم طموحات شباب اليوم لا تخرج عن امتلاك السيارة والوضع الاجتماعي المريح الذي يحدد معه تباشير المستقبل، بل إن اهتمامات الأجيال على اختلاف مراحلها العمرية أصبحت فردية ذاتية لا ترتبط كثيراً بالشأن العام أو بالترفع الأسمى، وهو أمر واقعي في ظل المغريات الاستهلاكية المعروضة،
يقول جبران: «لو أصغت الطبيعة إلى مواعظنا في القناعة لما تحول شتاء إلى ربيع»،
ومع كل هذا يبقى السؤال:
متى تتشكل أعمدة النهضة العربية التالية من رجالها ونسائها بتجردهم العلمي والموضوعي؟ لن يحدث إلا بانتقال الوعي العربي إلى مرحلة أعلى وأعمق من القضايا المطروحة والمكررة، إنه دور يبحث عن إدراك «أوسع وأجرأ وأنزه» للعقل والضمير العربي. يقول المربي البريطاني»هابولد» ورأيته مناسباً: «الوضع الراهن يوحي بأننا على وشك المرور بقفزة من تلك القفزات التطورية الهائلة التي تمر بحياة الإنسان العقلية والروحية»
ثريا الشهري( جريدة الحياة)