المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الفيزياء و الرياضيات


فتحي مكي
12-03-2016, 23:10
الفيزياء و الرياضيات :
"إن الفيزياء لكي تتقدم ومن أجل تناول أحصف للكون النظامي عليها أن تعتمد أساسا على الرياضيات في عين اللحظة نفسها التي تقطع فيها الرياضيات صلتها بالواقع"
رولان أومنيس من كتاب فلسفة الكوانتوم

الجزء اﻷول : جولة مع الأعداد

لا يخفى على أحد مدى تعلق الفيزياء بالرياضيات , تخفي هذه العلاقة في طياتها الكثير من الأسرار و الغرائب ربما تكون من وجهة نظري أكثر أهمية من الفيزياء و الرياضيات نفسيهما .
في الحقيقة أجد أن كتابة مقال بهذا الشأن هو عبء ثقيل لثقل هذا الموضوع و عمق جدليته , ولكني أجد ضرورة ملحة في الحديث عنه وذلك لأسباب عديدة لن أطيل في سردها لأنها سترد خلال السياق و لكني سأذكر أهمها بالنسبة لي هو أن بعض المواضيع في الفيزياء مثل ميكانيك الكم و النسبية العامة على سبيل المثال يصعب جدا التحدث عنها بالمفردات اللغوية العادية بكل لغات البشر دون أن تتسبب بإرباكات في ذهن المتلقي و لكن يصبح لها معنى فقط باستخدام الرياضيات , لماذا يحدث هذا؟ , ولماذا يصعب على اللغات البشرية التحدث عن تلك المواضيع؟ .
تدرس الفيزياء الواقع المحسوس وهو كل ما يأتي لنا عن طريق الملاحظة , ولكي أكون دقيقا , عندما أتحدث عن كلمة ملاحظة فأنا لا أتحدث فقط عن ما يفعله الفيزيائيون في مختبراتهم بل كل شيء يأتي لحواسك ليصبح معلومة في ذهنك فرؤية نيوتن تفاحة تسقط من شجرة يمثل ملاحظة , فالملاحظة هي كل فعل يأتينا بمعلومات من الخارج .
بالتالي تحاول الفيزياء أعطاء تفسير واحد لعدة ملاحظات في إطار نظري واحد , فنظرية نيوتن للجاذبية تعطي تفسيرا واحدا لعدة ملاحظات من سقوط التفاحة إلى دوران الكواكب حول الشمس , و لكن يظل مثل هذا التفسير تحت الإطار النظري بسبب أن تعميمه يحتاج أن يشمل كل الملاحظات الممكنة , وهذا لا ينطبق على جاذبية نيوتن فمدار عطارد يمثل ملاحظة لا تجد تفسيرا تحت نفس الإطار النظري لجاذبية نيوتن, فالتجربة هي أساس كل المعلومات التي تدرسها الفيزياء و أي شيء يأتي من خارج التجربة لا يمت للفيزياء بصلة.
أما الرياضيات فإن لها شأن آخر , فهي تبدأ من الواقع المحسوس و ما أن تغادر خط البداية حتى تصبح تجريدية بحتة لا تمت للواقع بصلة .
تبدأ الرياضيات من عملية العد العادية واحد أثنان ثلاثة ... ما يسمى بالأعداد الطبيعية , و تشير دراسات أن الأطفال يتعرفوا على مفهوم العدد الطبيعي منذ شهورهم الأولى "كنوع من التمييز بين الواحد و المتعدد" , فكما تحتاج عملية العد إلى المعدود فأنها تحتاج لقابلية مسبقة من العقل البشري نفسه "تتعرف الثديات وبعض الطيور على الأعداد كمعرفة عدد البيض و عدد الأعداء و غيرها" ولكن الرياضيات إجمالا تعتبر مأثرة تفرد بها الإنسان , فالبشر الوحيدون الذين بامكانهم فهم ماذا تعني الأعداد السالبة و الكسرية و الحقيقية و الاعداد المركبة و الثمانيات , و يمكن القول أن الأعداد الطبيعية أكثر واقعية من غيرها ليس فقط لأن الحيوانات تشاركنا في فهمها ولو بشكل أقل تجريدا, و لكن لأن الأعداد الطبيعية تمتلك خصائص جوهرية لا تمتلكها بقية الأعداد , كالزوجية و الفردية و الأولية , و هي خواص جوهرية تميز هذه الأعداد عن غيرها فعلى سبيل المثال لم يتفق كل البشر على أن الثلاثة عدد أولي بل هي حقيقة منطقية ناتجة من النسق العام لعملية العد نفسها فنحن لا نبتكرها بل نكتشفها , حتى أن بعض الرياضيون يعتقدون أن للأعداد الطبيعية وجودا جوهريا يقول كرونكر "لقد إبتدع الله الاعداد الطبيعية و إبتدع الإنسان بقية الأعداد" , تبقى بقية الأعداد موضع تساؤل حول ما إذا كان لها وجود في الطبيعة أم لا , لننظر مثلا للاعداد النسبية , تصبح الاعداد النسبية مهمة عند حدوث عمليات مقارنة , كعملية القياس في الفيزياء حيث تعتبر عملية القياس هي عملية مقارنة مع مرجع , لنأخذ قياس المسافة كمثال , لكي تقيس أي مسافة يجب أن يكون لديك أداة قياس تمثل كطول مرجعي كالذراع او حتى نبضة ضوئية على سبيل المثال و لنسمي أداة القياس مسطرة و نسمي المسافة بين نقطتين مرجعيتين متجاورتين على تلك المسطرة وحدة الطول "في المسطرة العادية تكون تلك المسافة بين خطين متجاورين و في نبضة ضوئية تساوي المسافة بين قمتين متجاورتين بمعنى آخر طول موجة الضوء"
http://s20.postimg.org/ky48ilfl9/screenshot_20160306_012231pm.png

لنفرض أنك تريد أن تقيس طول ملعب كرة قدم , ما تريد معرفته هو كم وحدة طول يجب رصها جنبا لجنب على طول الملعب , وتبدوا كعملية عد عادية حتى الآن , ولكن لاتسير الأمور دائما بجانبنا ففي كثير من الأحيان لا نحصل في قياساتنا على أعداد طبيعية و نصبح مجبورين على أن نقتطع جزء من آخر وحدة طول نضعها في الملعب حتى تطابق طوله تماما و هي عملية قسمة عادية سواء كانت تلك القسمة منتهية أو غير منتهية كقسمة واحد على ثلاثة و في هذة الحالة تكون عملية التقسيم دورية و يمكن التخلص من عملية التقسيم الدورية بتغيير وحدة القياس كاستخدام البوصة بدلا من السنتيمتر مثلا , وهي عملية نسبية وتبدوا الأعداد النسبية كامتداد منطقي لحدوث عملية العد نفسها .
ولكن هل يمكن قياس كل المسافات باستخدام مسطرة ؟.
تخبرنا نظرية فيثاغورث أنه في المثلث القائم يكون مربع طول الوتر مساوي لمجموع مربعي الضلعين الآخرين , يمكن إثبات نظرية فيثاغورث بعدة طرق و لن نتطرق لها هنا "تعتمد الهندسة شأنها شأن الرياضيات على المنطق فكل البراهين الهندسية والرياضية منطقية بحتة والمنطق يتعلق بشكل أساسي على طريقة عمل أدمغتنا" , الآن دعنا نسأل هل نستطيع قياس طول وتر في مثلث قائم يساوي طول كلا الضلعين الآخرين وحدة طول واحدة ؟.
نعلم جيدا أن ذلك الطول يساوي الجذر التربيعي للإثنين , لقد مثل ذلك العدد مشكلة أرقت اليونانيين القدماء , فلقد علموا منذ زمن فيثاغورث نفسه أن ذلك العدد لا يمكن كتابته على صورة كسر نسبي , بمعنى آخر لا يمكن لذلك الرقم أن ينتج من أي عملية قسمة بين عددين نهائيا وهذا ينطبق أيضا على كل الجذور الصماء,
فكان الحل هو إدخال مجموعة أعداد جديدة تسمى مجموعة الأعداد الحقيقية , ويمكن القول أنها الأكثر إنتشارا في الفيزياء من بقية الأعداد , ولكن ماذا يعني كل ماسبق؟ .
لنعد لسؤالنا هل نستطيع قياس طول الوتر بمسطرة ؟, نعرف أن الجذر التربيعي للإثنين يجب أن يكون في نقطة ما بين 1 و 1,5 لنختر نصف المسافة أي 1,25 ونربعها نحصل على 1,5625 مازالت أقل من 2 أذا نختار نقطة بين 1,25 و 1,5 ولتكن نصف المسافة 1,375 ونربعها فينتج لنا 1,890625 مازالت أيضا أقل من 2 و هكذا , تجد أن العملية سوف تستمر بشكل لانهائي دون أن نصل للعدد الذي تربيعه يساوي 2 فبين كل نقطتين توجد دائما نقطة , فنظرية الأعداد الحقيقة تنص على أنه يوجد عدد لانهائي من الأعداد الحقيقية بين كل عددين حقيقيين , بالتالي لايمكن أبدا قياس طول وتر مثلث قائم بمسطرة ما نستطيع فعله هو فقط التوقف عند حد معين ثم القول أعتقد أن هذا تقريب مناسب و استطيع التغاضي عن الفارق البسيط المتبقي , و على عكس القسمة الدورية لا يمكن تعديل الوضع هنا بمجرد تغيير وحدة القياس فدائما يجب عليك أن ترضى ببعض الخسارة .
هناك الكثير مما يمكن قوله بشأن علاقة الأعداد الحقيقية بالفيزياء ويمكن القول أن التساؤل حول حقيقة الأعداد الحقيقية أحد أركان الفجوة الكبيرة بين توحيد نظريتي النسبية العامة و ميكانيكا الكم في نظرية واحدة , حيث تبنى النسبية العامة على أن الفضاء متصل بمعنى أنه يتكون من عدد لانهائي من النقاط "أي أنه يوصف بمجموعة أعداد حقيقية" , بينما لايوجد في ميكانيكا الكم أي معنى لوجود النقطة من الأساس " هل تستطيع تعليل ذلك ؟؟" و يصبح للأعداد الحقيقية معنى تقريبي في العالم الواقعي و ليس لها وجود جوهري إلا في عالم مثالي هو عالم الرياضيات فنحن نفترض وجودها و لم نكتشف ذلك فهي لا تنتج بشكل منطقي من أي عملية عد .
تعتمد ميكانيك الكم بشكل أكبر على نوع آخر من الأعداد يبدوا أكثر غرابة من الأعداد الحقيقية وهو الأعداد التخيلية , وهنا لا يصبح للمعدود أي قيمة منطقية , نحن هنا مع قمة التجريد الرياضي , ليس فقط أنها لا تنتج من أي عملية عد بل إنها إبتكار رياضي , تصبح الرياضيات في مرحلتها التجريدية نتاجا للمنطق حيث يتم إفتراض صدق قضية ما كنوع من المسلمات أو البديهيات ثم السير منطقيا بنقل صدق القضية من المقدمات إلى النتائج .
كمثال إذا كان أ > ب و ب > ج فأن أ > ج .
وبالتالي أصبح متاحا للرياضيات أن تشق طريقها بعيدا عن حواسك فقط داخل عالمنا العقلي تنتج بصورة محضة عن المنطق وذلك يجعلها جلفاء غليظة و صارمة على نحو قاطع .
تنقل الأعداد التخيلية الرياضيات إلى مستوى آخر هو إجراء العمليات الرياضية على أشياء تختلف عن مفهومنا المألوف للأعداد , كالنقطة الهندسية في سطح ثنائي الأبعاد , يكون لكل نقطة في الفضاء الثنائي إحداثيين يحددان موقعها الفريد بالنسبة لنقطة تقاطع بين محور أفقي و آخر عمودي نسميهما غالبا س و ص "x , y" و يكتب أحداثي النقطة على شكل زوج مرتب من عددين حقيقين (3,5).

http://images.sciencelibrary.info/mathematics/topic17/142/Argand_diagram1.jpg

تستطيع الرياضيات أن تجعلنا قادرين على إجراء عمليات الجمع و الطرح و الضرب و القسمة على مجموعة نقاط الفضاء الثنائي "بالطبع تم اﻹثبات رياضيا أن ذلك غير ممكن مع الأبعاد الأكبر إبتداء من 3 وحتى 7 ولكن يمكن فعل ذلك مع 8 أبعاد" , لن نتعمق كثيرا من الناحية الرياضية ولكن سننظر في علاقة واحدة كمثال عام وهي

http://s20.postimg.org/ub9vjtpnx/equations9f566571_4f0c_4463_a003_33ebf5b73deb.jpg

وهي حاصل ضرب نقطة في نفسها , أي تربيعها تقع تلك النقطة على المحور العمودي مباشرة مما يعني أنها لاتمتلك قيمة على المحور الأفقي وتسمى الوحدة التخيليه , و تقع النقطة الناتجة عن عملية التربيع على المحور الأفقي في الجزء السالب منه , مايعني أننا نستطيع إيجاد الجذر التربيعي للعدد -1 ولكن ذلك الجذر ليس عددا بالمعنى المألوف للعدد , نعرف مسبقا أننا قمنا بتربيع نقطة و ليس عددا , بشكل عام نسمي تلك النقطة بالعدد المركب و يمثل الأحداثي الأفقي منها الجزء الحقيقي و يسمى الأحداثي العمودي منها بالجزء التخيلي و هو مجموعة الأعداد الحقيقية مضروبة في الوحدة التخيلية ويمكن كتابة العدد المركب بالصورة التالية :
ع = س + ت ص
Z = x + iy
حيث ت الوحدة التخيلية , تذكر أننا لا نستطيع أبدا تطبيق العملية التالية
ع = 5 + 7ت = 12ت
لايمكن جمع العددين لأنهما ليس من نفس النوع كلاهما يقعان على محورين لا يتقاطعان إلا عند الصفر.
من الغريب أن تبدأ الأعداد المركبة من عملية رياضية مجردة نتجت من فكر خالص لايمت للتجربة بصلة , ثم تجد تمثيلا مرئيا أكثر من ملائم في الهندسة "وهو عالم مثير لا تتسع له المقالة ولكن يمكن الإطلاع عليه في اماكن أخرى " , و من ثم يصبح لها دورا مهما في تفسير سلوك الجسيمات دون الذرية , سنترك تفصيل هذه العلاقة في الجزء الثالث من المقال .
خلاصة القول أن الرياضيات بشكل عام تهتم بصحة العلاقات التي تربط بين الأشياء أكثر من اهتمامها بالأشياء نفسها لا نهتم في الرياضيات ماذا تعني أي معادلة رياضية بقدر ما يعنينا صحتها منطقيا , و لا نهتم ما إذا كان لها حقيقة في عالم الموجودات , يحب بعض علماء الرياضيات بالتمسك بعالم المثل الإفلاطوني حيث توجد الكايانات الرياضية كجذر الإثنين و هو عالم المطلقات بمعنى أن لتلك الكيانات وجود مطلق في ذلك العالم لا يتغير مع الوقت , وينتج ذلك من منطلق أن معرفة العمليات الرياضية و صدق القضايا و خطأها لا يتعلق بطريقتك في التفكير أو نوع الثقافة التي تنتمي لها ولا حتى اللغة التي تتحدثها , أنها شيء جبلنا الله عليه , هيأت عقولنا مسبقا للتفكير بهذا النسق , و هو شيء يجعل علماء الرياضيات يتسائلون لماذا يصدف أن تستطيع الرياضيات التي هي من صنع عقولنا أن تصف ظواهر كونية والتي لا تصنعها عقولنا بل تكتشفها؟ .

فتحي مكي
12-03-2016, 23:27
في الصورة الأولى توضيح لمفهوم المسطرة العام في الفيزياء وهي أي أداة تصلح لقياس المسافة , ولتوضيح حقيقة أنه لايمكن قياس المسافة بدون مسطرة , التعليل المطروح في كل مقال من السلسلة لفتح باب للحوار من جهة ومن جهة ثانية كمحاولة للتوسع جانبيا في نقاط معينة أختياريا لم يكن ليحتملها سياق المقال