إن التدبر في الآيات الكونية يهدي إلى معرفة الحق عبر التوصل إلى كبرى الاكتشافات الكونية وهي تصور عظمة الله من خلال خلقه، ودعا الله الإنسان للتأمل في أسرار وقوانين هذا الكون، ولم يقم المولى عز وجل بالإشارة إلى أهمية التدبر في الطبيعة- أي السعي وراء العلم- فقط، بل دفع الإنسان وأمر العقل البشري إلى استخراج الحقائق الكونية وأسرار الخلق.
فهم العديد من العلماء الذين خاضوا في ميدان الكوزمولوجيا "دراسة الكون" أو علم الفلك "دراسة السماء" هذا المغزى وهذا الهدف ويمكن أن نستشهد هنا بعالمين، أحدهما مسلم من القرن العاشر الميلادي والآخر غربي من القرن السابع عشر عبر كلاهما عن نفس الفكرة القرآنية الآنفة الذكر، فهذا البتاني يقول: "إن علم الفلك يأتي في سلم الأهميات مباشرة بعد الدين وهو أعظم العلوم، إذ يحد العقل ويزين الفكر ويهدي إلى توحيد الله ومعرفة أعلى الحكمة والقوة الإلهية" وهذا دالمبير يقول: "إن كل من يستطيع تصور الكون من منطلق موحد يرى الخلق كله كحقيقة وضرورة واحدة".
وقد فهم المسلمون هذا الأمر- بل نقول هذه الثورة الفكرية والعلمية التي أحدثها القرآن في البشرية - واتجهوا نحو علوم الطبيعة يحاولون استخراج القوانين والحقائق التي من شأنها أن تعرف الإنسان بخالقه أولا ثم بدوره - أي بمغزى وجوده - في هذا الكون، ولكن العقل المسلم بالرغم من ذلك وقع في متاهات أنسته الهدف الأساسي وأدخلته في اهتمامات ثانوية، إن لم تكن خاطئة تماما.
فقد قضى المسلمون ما يقرب من أربعة قرون بعيدين عن هذه الدراسات الكونية الحقيقية، حيث اتسم القرن الأول من التاريخ الإسلامي بالاهتمامات السياسية "بناء الدولة، الفتوحات والدعوة إلى الله.." إن لم نقل بالخلافات السياسية والدينية "الفتنة الكبرى، تمرد معاوية، ظهور الخوارج ثم الشيعة، وغير ذلك.." ثم ظهر بعض من الاستقرار السياسي والاجتماعي مكن العلوم الشرعية من البروز خاصة منها الفقه وأصوله، وذلك خلال القرنين الثاني والثالث، ولم تبدأ النهضة العلمية - بالمعنى الحديث للكلمة - إلا في القرن الرابع للهجرة، إذ أثرت عوامل خارجية كترجمة أعمال الفلاسفة الهيلينيين والعلماء الهنود والشرقيين إلى العربية، وعوامل داخلية كالاهتمام ببناء حضارة عريقة وأصيلة إلى جانب محاولة فهم الآيات القرآنية وتفسيرها بدقة.
أخطاء العلماء المسلمين
ولكن هذه النظريات والدراسات الإسلامية سرعان ما انحرفت عن المنهج العلمي الصحيح وراحت تخلط بين مجالات الفيزياء وعالم الميتافيزيقا، مدخلة في تصورها للكون أفكارا مستوردة من الفلسفات القديمة " اليونانية والشرقية" والفلسفات الإسلامية المتطرفة "خاصة منها الصوفية" بما تضمنته من أخطاء عقائدية وعلمية.
أيضا نود الإشارة إلى خطأ فادح آخر سقط فيه كثير من العلماء المسلمين "خاصة منهم المستحدثين" الذين أرادوا إثبات تطابق بين كتاب الله عز وجل والمعرفة العلمية الحديثة فخاضوا في القرآن وكأنه موسوعة علمية يراد منها فقط إيجاد قوانين الفيزياء والبيولوجيا وغيرها في آياته، وأخطر من ذلك أن معرفتهم وفهمهم للعلوم الحديثة كانا سطحيين، مما أدى بهم إلى ارتكاب أخطاء منهجية وعلمية ضخمة جدا، وخلاصة القول إن الاتجاه العلمي الجديد- مما سمي بميدان الإعجاز العلمي في القرآن " - لفت نظر الكثير من الأشخاص "وأكثرهم عاميون" ولكنه لم يضف شيئا إلى مجال التدبر في الكون والتعرف على الخالق عبر قوانين الطبيعة، بل بالعكس أدى بالمسلمين إلى نسيان هذا المقصد البشري الأساسي والأول.
أما الخطأ الأخير الذي ارتكبه عدد كبير من العلماء وخاصة في الفترة الذهبية من الحضارة الإسلامية فهو اعتبار الطبيعة مجرد مجالات تدون فيها الحقائق المشهودة دون محاولة إيجاد قوانين رياضية توحيدية وتفسيرية تمكن العالم والبشرية من التعرف على المبادىء الكونية الأولية التي وضعها الخالق عز وجل، وراح العديد من هؤلاء العلماء يقومون بمشاهدات وأرصاد كثيرة، لا يمكن طبعا التقليل من أهميتها العلمية، ولكنها لم تتجاوز حد التدوين.
نظريات العلماء المسلمين
فيما يخص موضوعنا فإن أهم الكتب التي ترجمت وأثرت على النظرة الإسلامية للكون كتب "السماء" و"الطبيعيات" و"الكون والفساد" لأرسطو، التي جعلت مدرسة كاملة من العلماء المسلمين تعتبر آراء أرسطو المرجع الأساسي للفلسفة والعلم، ثم كتاب "المجيسطي" (من كلمة Mageste التي تعني "الكتاب العظيم") لبطليموس المتضمن لنظريته الكاملة لحركة الكواكب.
ترجم كتاب بطليموس في عصر الخليفة المأمون "القرن التاسع للميلاد" الذي وعى أهمية الترجمة إلى درجة أنه كان يجزي كل مترجم بكمية من الذهب تساوي وزن الكتاب المترجم، وقد علمتنا كتب التاريخ أن المأمون اشترط في إحدى اتفاقيات الحرب مع إمبراطور بيزنطي أن يسلم له عددا كبيرا من المؤلفات والمراجع الموجودة آنذاك في إحدى المكتبات الرومانية.
ويمكن الإشارة إلى أهم المترجمين الذين ساهموا في نقل المعلومات إلى العربية، وبالتالي في إقلاع النهضة العلمية الإسلامية:
- بنو موسى، وهم ثلاثة إخوة في عصر المأمون اشتروا وترجموا مؤلفات إغريقية كثيرة في ميدان الفلك والرياضة والهندسة والميكانيك.
- ثابت بن قرة "826- 901 " الذي ترجم العديد مـن الأعمال الهيلينية "بما فيها أعمال بطليموس وإقليدس وأرخميدس" وكذلك السريانية.وهناك مجموعة من العلماء تطرقوا بشيء من التفصيل إلى الكون من حيث خلقه ووجوده ماضيا وحاضرا، وسنرى أن النظريات التي قدموها كثيرا ما تنحرف عن المنهج العلمي، وخلطت بين الطبيعة وما وراءها، ولا نستغرب لأن من بين الأربعة الذين سندرسهم والذين اهتموا بالكوزمولوجيا لا نجد، إلا فلكيا واحدا بينهم هو البيروني.
أ) نظرة البيروتي:
لم يحظ البيروني أبوالريحان بن أحمد "973 - كبير من طرف 1051" "باهتمام كبير من طرف مترجمي عصر النهضة الأوربية ولذا لم تعرف أعماله العملاقة ومؤلفاته المهمة التي نذكر منها كتاب "الآثار الباقية عن القرون الخالية" و"تاريخ الهند" وكتاب " التفهيم"، وأخيرا "القانون المسعودي"، زيادة على كتاب أساسي ضائع سماه "الكتاب الشامل".
أما عن نظرته إلى الكون فإنه كان لا يشك إطلاقا في الخلق من العدم، بل كان يردد كلية فكرة الإغريق أن الكون والزمن أزليان " قديمان" وأبديان، ولكن البيروني رأى أن معرفة زمن خلق العالم "أي عمر الكون" غير ممكنة للبشر لأن الخالق لم يقل شيئا عن ذلك في كتابه الكريم، ولأن الحضارات القديمة اختلفت كثيرا في تقديراتها لهذه المدة بل أعطت تسلسلات تاريخية "كتلك التي وردت في التوراة مثلا" لا يقبلها العلم، ثم ذهب البيروني إلى أبعد من ذلك فقال إن الزمن عند البشر لا يشبه الزمن عند الله (وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) ولذا فمحاولة معرفة عمر العالم من المستحيلات.
ورغم أن البيروني كان يعتقد أن قوانين الطبيعة لابد أن تكون ثابتة عبر الزمن- وتعتبر هذه الفكرة *الحضارة الإسلامية ونظريات الكون من المبادىء الأساسية للفيزياء الحديثة- فإنه كان يؤمن كذلك بدورية التاريخ ولكن مع تدهور الحالة المادية والمعنوية، وقد بنى رأيه هذا حسب كتاباته، على الملاحظة والمشاهدة العيانية.
أما نظريته الكونية فكانت تشابه التصور اليوناني "أرسطو+ بطليموس" إلى حد بعيد أي الكون الكروي الشكل، الممركز عند الأرض والمشكل من طبقات مكونة من العناصر والصفات الطبيعية التي نص عليها أرسطو، فكان أبوالريحان يقسم الكون إلى قسمين "العالم الأعلى" (عالم النجوم والكواكب) و"العالم الأسفل " (العالم ما تحت القمرى) والمهم في الأمر أنه لم يأخذ بأي من النظريات الميثولوجية الهندية، مما يدل على قدراته التحليلية وطبيعته العلمية القوية.
ب) نظرية ابن سينا:
إن ابن سينا أباعلي الحسـن بن عبدالله (980 -1037) الذي لقبـه اتباعه بالشيخ الرئيس وحجة الحق، من أعقد الشخصيات العلمية في تاريخ الحضارة الإسلامية، فقد كانت فلسفته، خاصة في النصف الأول من حياته، متأثرة كثيرا بأرسطو وأفلاطون وكانت بعض مؤلفاته مثل "كتاب الشفاء" و"كتاب النجاة" تعتبر من بين تحف الفلسفة المشائية "الأرسطية" ولكن بعض النظريات خاصة منها الكوزمولوجية، اتسمت بتأثرات واضحة في تعاليم "العرفاء" ( Gnostics ) وأخيرا أبدى ابن سينا في كهولته وشيخوخته ميلا كبيرا تجاه الفكر والاعتقاد الصوفي كما ظهر خاصة في كتابه "منطق المشرقيين".
ومن أهم كتبه المعروفة التي تطرقت لمسألة تطور الكون يمكن ذكر ما يلي: كتاب "المجموع" وكتاب "الحاصل والمحصول" (في 21 جزءا) و"قيام الأرض في وسط السماء" و"الأرصاد الكلية" و"القانون".
وقد أظهر ابن سينا في كتاباته آراء معقدة إلى حد بعيد، بل كانت تصل إلى درجة التعارض فيما بينها أحيانا، إذ كان يصرح بأن هناك فرقا أساسيا بين الكائن الأعظم (أي الخالق) وبين الكائنات (أي المخلوقات)، ولكنه كان يعتقد كذلك أن الكون هذا فيض من الكائن، وكثيرا ما لوحظ ونوقش هذا التناقض في آراء ابن سينا، وكان الشيخ يصف خلق العالم كعمليتين متصاحبتين: تعقل وعلم لا متناهيان من طرف الذات الإلهية، وما ظهور الكون في نظر ابن سينا إلا تجلي علم الله الأبدي لنفسه.
ثم قسم ابن سينا عملية الخلق إلى 4 أنواع:
- الإحداث: وهو إيجاد الكائنات الحادثة "بعد أن لم تكن" الأبدية أو المؤقتة.
- الإبداع: وهو الإيجاد بدون وساطة للكائنات الأبدية اللافسادية.
- الخلق: وهو الإيجاد بواسطة الكائنات المجسمة أو بدونها.
- التكون: وهو الإيجاد بواسطة الكائنات القابلة للفساد والزوال.
ثم قسم الكائنات إلى 4 أصناف: الملائكة "الأجسام المحركة والمحركة من طرف الخالق" والأرواح السماوية "التي تقوم بدور الوساطة في عملية التحريك" والأجرام السماوية، والأجسام ما تحت القمرية "أي الأرضية".
أما تصوره للكون فكان شبيها للنظرية اليونانية، إلا أنه اعتبر 9 كرات عوض الثماني الإغريقية "الأرض وما حولها من عناصر+ المدارات السبع للكواكب، إذ زاد ابن سينا واحدة لتفصل في ذهنه بين العالم الطبيعي والعالم الإلهي، وهذه الكرة مجرد سماء فارغة، ثم قرر الشيخ أن كل سماء يحكمها عقـل " intellect" أو مجموعة ملائمة تسيره روح أو مجموعة أرواح، والكل يخضع لكائن موجود في أعلى السلم مع إمكان الرحلة عبر الكون إلى العالم الغيبي!.