ج) آراء إخوان الصفا:
لا نعلم طبعا هوية كاتب أو كتاب "رسائل إخوان الصفا"ولم يتفق العلماء على تصنيفهم ضمن التيارات الفكرية فمنهم من ألحقهم بالمعتزلة "ابن القفطي" ومنهم من أتبعهم بالنصيرية "ابن تيمية" وكثير من ربطهم بالإسماعيلية لأن هؤلاء أبدوا تعلقا كبيرا بالرسائل، وقد اعتبر البعض رسائل إخوان الصفا محاولة تركيبية للفلسفة الشيعية مثلما قام الغزالي بمحاولة تحصيلية للفلسفة السنية، ذلك لأن الرسائل أتت على شكل موسوعة للمعرفة الإسلامية وجل علومها، متخذة نظرة عالمية شاملة. ولكن آراء إخوان الصفا في الكون تبدو لنا بعيدة عن التيار المعتزلي والعقلاني بصفة عامة كما تقربهم أكثر من الإسماعيلية والصوفية بسبب اعتبارهم للدلالة الرمزية للأعداد والأجسام الطبيعية، كما نستنتج من خلال نظرتهم للكون تأثرا عميقا بالحضارات القديمة.
فإخوان الصفا يأخذون بالنظرة العضوية "الحيوية" للكون ويعطونها صيغة شبه صوفية وهي "وحدة الكون" (ونعلم أن ابن سينا وإخوان الصفا كانوا من بين المفكرين الأكثر تأثيرا على رواد الصوفية من أمثال ابن العربي الذي تتلخص نظرته الى الكون في العبارة "وحدة الوجود" أي وحدة الكون والذات الإلهية).
كما ركز أخوان الصفا تصورهم للكون على الرموز العددية وأهمها الواحد الذي يمثل "الوجود" أم "الكائن" (الله) والصفر الذي يمثل اللانهاية، (ونتعجب لمثل هذه العلاقة الرياضية اللامنطقية التي تجعل الصفر يمثل ما لا نهاية) وهي الذات الإلهية بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك ووضعوا صورة كاملة للعالم مبنية على الأرقام "من 1 إلى 9 إذ العشرة عودة إلى الصفر في نظرهم" تقوم هذه الصورة على الترتيب التالي (حسب الأهمية):
1- الخالق الكائن، وهو واحد بسيط أزلي وأبدي ودائم.
2- العقل، وهو من نوعين: فطري ومكتسب.
3- النفس، وهي من 3 أنواع: نباتية وحيوانية وعقلانية.
4- المادة وهي من 4 أصناف: مادة اصطناعية ومادة فيزيائية ومادة كونية ومادة أصلية.
5- الطبيعة وهي من 5 أقسام: العناصر الأربعة (التراب والماء والهواء والنار)+ الطبيعة السماوية "الأثير".
6- الجسم، ويتخذ أحد الاتجاهات الستة، أعلى، أسفل، أمام، خلف، يمين، يسار.
7- الكرات السبع المتضمنة للكواكب السبعة.
8- العناصر الثمانية وهي العناصر الأربعة مرفوقة بالصفات الأربع (الحر والبرد والرطوبة والجفاف).
9- أجسام العالم الأرضي: المعدنية والنباتية والحيوانية، كلها من 3 أقسام.
ونلاحظ أن كل قسم من هذا الجدول الكوني المدهش يتضمن نفس العدد من الأصناف كالعدد الذي يمثل مرتبته في السلم الكوني، مما يوضح أهمية الأعداد في تصور العالم لدى إخوان الصفا.
د) وجهة نظر ابن رشد:
إن ابن رشد أبا الوليد محمد بن أحمد (1126- 1198) يعتبر من أعظم الفلاسفة المسلمين وأكثرهم تأثرا بأرسطو وقد لقب بالشارح لما قام به من شرح لمعظم كتب الفيلسوف اليوناني، منها- فيما يهمنا- كتب " السماء" و"الكون والفساد" و"الطبيعيات" وكتاب ابن رشد المعروف باسم "تفسير ما بعد الطبيعة لأرسطو" ويعرف ابن رشد خاصة بكتابه "تهافت التهافت" الذي رد فيه على هجوم أبي حامد الغزالي على الفلاسفة في "تهافت الفلاسفة"، ثم أظهر ابن رشد اعتزازه بالفلسفة الحقيقية "أي المشائية" وهي في اعتباره حق ولا يمكن أن تتعارض مع الشريعة لأنها حق كذلك، كما قام بالدفاع عن العقل ومكانته ووجوب اتخاذه أداة أولية في النظرة التحليلية.
ولكن الفيلسوف يذهب إلى أبعد من ذلك، إذ يلح على وحدة العالم ويستنتج من ذلك أنه لا يمكن له ان يكون على غير ما هو عليه، فيرفض نظرية الخلق من العدم ما دامت الصورة لا تنفصل عن المادة وكلتاهما أزلية، أي بتعبير الفيزياء الحديثة ما دام هناك حفظ للمادة والطاقة. وهو تحليل منطقي غير أنه ينطلق من فرضية "أو مسلمة" خاطئة وهي قدم العالم، ومع ذلك فإن ابن رشد يعطي للكون بعدا تيليولوجيا أساسيا أي السير نحو هدف مرسوم، ولكنه يحاول في نفس الوقت الابتعاد عن التصور الأنطروبو مركزي إذ يرى أنه ليس معقولا أن نقول إن كل الطبيعة موجودة من أجل رفاهية الإنسان، ونفهم عندئذ لماذا عانى ابن رشد وفكره من هجومات كبيرة من طرف علماء الكلام، فذلك بسبب التعارض "الظاهر على الأقل" بين بعض آرائه وبعض الآيات القرآنية.
ثورة القرن العشرين
شهد القرن العشرون حدثين علميين من أهم ما عرفته البشرية هما وضع آينشتاين لنظرية النسبية "الخاصة ثم العامة" ثم اكتشاف هابل أن هناك مجرات مماثلة لمجرتنا وأن الكون كله في توسع مستمر وتبع ذلك وضع نظريات جديدة للكون ولتسلسله الفيزيائي عبر الأزمنة، وأهم هذه النظريات ما سمي بالانفجار الكبير، وقد استفادت هذه النظرية منذ وضع صيغتها الأولى في الثلاثينيات من التطورات الأخرى التي عرفتها الفيزياء، خاصة في المجال النووي والضوئي والكهرومغناطيسي، فتمكنت الفيزياء من تقدير عمر الأرض "والمجموعة الشمسية" بحوالي 4,6 مليار سنة وعمر الكون بحوالي 10- 15 مليار سنة وذلك بعدة طرق علمية ليس هنا مجال للتطرق إليها، وربما أهم من ذلك أن هذه النظرية أخرجت لنا صورة عن الكون تثق فيها الأغلبية الساحقة من العلماء رغم أنها مناقضة لكل التصورات القديمة فالكون الآن محدود العمر والحجم متغير ومتطور في حالته الفيزيائية وفي شكله، لا متجانس في توزيع المادة عبر فضاءاته، لا إقليدي الهندسة (فهو رباعي الأبعاد) وفي توسع مستمر.
وقد وعى العلماء أن هذا التطور في التصور لدى البشر وكل هذه الاكتشافات العلمية تكاد لا تصدق، فقال مارتن شميث أحد كبار علم الفلك المعاصر إن ما يدهشه هو أن الكون مع بعد أطرافه "يقدر قطره بحوالي مائة ألف مليار مليار كلم " يمكننا التطلع إليه بالمشاهدة بمجرد استخدام عين "تلسكوب" لا يزيد قطرها على بضعة أمتار! وعن الجانب النظري قال ألبرت أينشتاين إن أغرب خاصية للكون هي أننا نتمكن من فهمه!.
هذا لا يعني طبعا أننا تعرفنا على كل ما في الكون من أسرار. لا، فالعلماء لا يزالون يتساءلون عن تطور الكون المستقبلي، هل سيبقى في توسع أم سيتوقف أم يعود إلى عكس ذلك أي التقلص التدريجي إلى النقطة التي انطلق منها؟ كذلك ما زلنا نجهل الكثير عن توزيع الأجرام كالمجرات في السماء وكيفية تكوينها، ومسائل كونية أخرى وطبعا ما زلنا لا ندري أتوجد أجناس ومخلوقات مادية أخرى في السماء أم نحن وحيدون في هذا الكون الشاسع؟ وأن كلتا الإمكانيتين تشكل حالة مذهلة ليس فقط من الناحية العلمية بل الفكرية، كذلك فيما يخص مكانتنا في هذا الكون وعلاقتنا بالخالق، هل هي متميزة ومفضلة أم لا؟..
وأين العلماء المسلمون من كل ذلك؟. إن العلماء المسلمين باستثناء بعض الشخصيات "كالبيروني قديما ومحمد الغزالي حديثا" لم ينضبطوا بالمنهج العلمي الصحيح بل كانوا أحيانا يناقضونه بوضوح، ذلك لأنهم لم يعوا حقيقة كونية رئيسية وهي ان الطبيعة كلها بما فيها الأرض والسماء وما بينهما تحكمها قوانين وضعها الخالق ليسير عليها الكون، وأن هذا الإغفال نتجت عنه انزلاقات خطيرة كثيرا ما أخرجت أصحابها من المجال العلمي تماما، فقد رأينا أن ابن سينا وإخوان الصفا وكثيرين بعدهم اعتبروا الكون فيضا من الذات الإلهية، وأنه عملية تعقل من طرف الخالق لنفسه، وأن هناك نفسا كونية تحكم الأرواح المحركة للأجرام، وأن الرحلة عبر الكون إلى العالم الغيبي ممكنة! كما رأينا أن كوزمولوجيا إخوان الصفا تكاد تقتصر على صور من الميثولوجيا العددية التي نتجت من جهل الحضارات القديمة، ووجدنا أن ابن رشد الذي كثيرا ما دافع عن الفلسفة والعقل كان أيضا يقتصر في أغلبية الأحيان على تبني آراء سيده "أرسطو" حتى ولو كانت تتعارض مع الاعتقاد الإسلامي البديهي كمسألة قدم العالم والخلق من العدم، وغيرها، وربما يشفع لابن رشد أنه لم تكن له دراية كبيرة- بعلمي الفلك والفيزياء. ولكن الأمر أخطر من ذلك لأن هذا المرض "الخلط بين عالمي الغيب والشهادة (الطبيعة)" تفشى في الحضارة الإسلامية عبر العصور، فنجد أن ابن تيمية "1263- 1328" رغم عدائه للصوفية ورده العنيف على الحلاج وابن عربي وأصحاب نظرية "وحدة الوجود" إلا أنه هاجم الفلسفة والعقل والعلماء- بمن فيهم الفلكيون- واتهمهم بالزندقة والنفاق، إلى حد أنه نفى عن الفلكيين قدرة حساب مواقع الكواكب أو منازل القمر، وادعى أن الأجرام السماوية تتأثر في حركتها بدعاء المؤمنين ومثل ذلك! وقد سمعنا أخيرا خطبة لإمام "شاب" فسر الحر الذي شهدناه في سنة ماضية بعملية تنفس تقوم بها جهنم مرتين في السنة!.
إن المنهج العلمي الصحيح وجد صعوبات كبيرة للانغراس في عقول العلماء المسلمين خاصة إثر الهجومات العنيفة التي تلقتها الفلسفة "بمعناها العقلاني" من طرف علماء الكلام، وما زلنا نلاحظ أثر هذا الصراع بين العلماء والمفكرين المسلمين بل نقول لدى الأمة جمعاء.
نضال قسوم
العربي