الإجماع على ثبات الأرض
قال القرطبي في تفسيره عند قوله تعالى : (( وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا )) الآية .
قال : والذي عليه المسلمون وأهل الكتاب القول بوقوف الأرض وسكونها ومدها وأن حركتها إنما تكون في العادة بزلزلة تصيبها . إنتهى . فهذا إجماع المسلمين وأهل الكتاب على ثباتها .
وقال عبدالقادر الإسفرائيني في كتابه ( الفـَرْق بين الفِـرَق ) : وأجمعوا - يعني أهل السنة - على وقوف الأرض وسكونها وأن حركتها إنما تكون بعارض يعرض لها من زلزلة ونحوها خلاف قول من زعم من الدهرية أن الأرض تهوي أبدا .
والآن ننظر في كلام قاله البعض حول دوران الأرض :
قال : دوران الأرض من الأمور التي لم يرد فيها نفي ولا إثبات لا في الكتاب ولا في السنة ثم ذكر أن بعض الناس يستدل على دورانها بقوله تعالى : (( وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم )) ، بأن قوله : (( أن تميد بكم )) يدل على أن للأرض حركة لولا هذه الرواسي لاضطربت بمن عليها .
ثم قال : وليس هذا بصريح في دورانها .
وقوله تعالى : (( الله الذي جعل لكم الأرض قرارا )) ليس بصريح في انتفاء دورانها لأنها إذا كانت محفوظة من الميدان في دورانها بما ألقى الله فيها من الرواسي صارت قرارا وإن كانت تدور .
الجواب أنه قد تقدم ذكر الأدلة من الكتاب والسنة على ثبات الارض وكذلك الإجماع.
أما قول من قال : للأرض حركة لولا هذه الرواسي لاضطربت بمن عليها مستدلا بقوله تعالى : (( وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم )) زاعما أن وظيفة الجبال حفظ الأرض من الميدان أثناء الدوران فهذا باطل والآية حجة عليه لا له ، وسبق وبينت أنه ما احتج محتج بدليل من الكتاب أو السنة على دوران الأرض إلا بتأويل فاسد كهذا التأويل .
ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن الدليل الصحيح إذا بين معناه الصحيح أنه يدل على الحق لا يدل على الباطل .
وبما أن هذه الآية دليلا صحيحا فإنها تدل على ثبات الارض ، لا على دورانها . والمحتج به قد عكس مدلوله وسوف أوضح ذلك ليزول اللبس .
الأرض كما هو معروف يابس وماء واليابس بالنسبة للماء قليل حوالي الخمس ، والباقي كله هذه البحار . فهذا اليابس القليل خلقه الرب عز وجل على تيار الماء فهو يرتج ويضطرب لعدم استقراره لأن الماء محيط به من كل جانب ، فهو كالسفينة في البحر ترتج وتضطرب وهي واقفة .
إذا لا بد من ثقل يسكن هذا الاضطراب والارتجاج لئلا يميد اليابس منها وليكن قرارا ، يعني ثابتا في موضعه لتستقر عليه الكائنات ، فلذلك خلق الحكيم هذه الجبال وألقاها عليها فاستقرت عن الميدان والاضطراب وسكنت وثبتت على تيار الماء كما تقلى الأثقال على السفينة ليسكن اضطرابها مع مافي الجبال من المنافع العظيمة والحكم الباهرة غير هذا .
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا العوام بن حوشب عن سليمان بن أبي سليمان عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لما خلق الله الأرض جعلت تميد فخلق الجبال فألقاها عليها فاستقرت . المراد بالأرض في هذا الحديث اليابس فقط لأنه هو الذي يميد وهو في الماء .
قال عبدالرزاق أنبأنا معمر عن قتادة سمعت الحسن يقول : لما خلقت الأرض كانت تميد فقالوا : ماهذه بمقرة على ظهرها أحدا . فأصبحوا وقد خلقت الجبال فلم تدر الملائكة مم خلقت الجبال .
فقد تبين الآن أن الآية قد قلب مدلولها وتؤولت على غير ما أراد بها من تكلم بها سبحانه .
كذلك مما يبين فساد هذا التأويل أن أرباب نظرية دوران الأرض يزعمون أن الجبال قد ظهرت وبرزت من باطن الأرض وهذا معروف عنهم وقد ذكر الله إلقاءه الرواسي على الأرض وكما ذكرنا من لفظ الحديث السابق أيضا أنها ملقاة على الأرض والإلقاء يكون من أعلى إلى أسفل . ولو كانت الجبال خارجة من الأرض لما صح إطلاق لفظ الإلقاء عليها .
وهم قالوا إنها ظهرت من الأرض لزعمهم أن الأرض كانت أول انفصالها عن الشمس مادة منصهرة أو غازية شديدة الحرارة فما زالت تدور حتى تكثفت وبردت كما سبق وبينت فلذلك قالوا أن الجبال برزت من بطانها أثناء دورانها لتحفظ توازنها فتأمل هذا الهذيان . وكيف يخالف الحديث والقرآن . لأنه وحي الشيطان .
ومراد منه زلزلة الإيمان . والأحالة فيه على ملايين السنين ، فإن من أيسر الأمور عندهم أن يقولوا : مليون سنة وأثقل ما عليهم إذا أرادوا أن يزيدوا في الخيال أن يبدلوا الميم باء ، فيقولوا بليون سنة . فقد بنوا ضلالهم على هذا كما هو واضح في علومهم ومن أحالك على ملايين وبلايين السنين فقد أضلك . أما إحالتنا ولله الحمد فعلى من ابتغى الهدى في غيره أضله الله . وعلى ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فهل نصدقهم وندع خبر ربنا عز وجل خالق هذه المخلوقات الذي أنزل علينا كتابه تبيانا لكل شيء وكذلك أخبار نبينا صلى الله عليه وسلم . وما تصدقه وتستيقن به عقولنا أيضا ؟ قد ضللنا إذا .
أما قوله في ان قوله تعالى : (( الله الذي جعل لكم الأرض قرارا )) ليس بصريح في انتفاء دورانها ، فهو غير صحيح ، فالآية صريحة في بيان ثبات الأرض وسكونها وعدم حركتها ، والقرآن نزل بلغة العرب التي يعرفونها . والقرار عندهم هو الثبات والسكون .
أما قوله : تصير قرارا وإن كانت تدور بما القى الله فيها من الرواسي . فغير صحيح أيضا لأنه قال في الآية الأخرى : (( أمن جعل الأرض قرارا )) فمعناها أنها هي بنفسها قارة ثابتة ولم يقل هنا : لكم فهي مجعولة هكذا ولو لم يكن فيها خلائق لانها مركز العالم . ومستقر الأنام .
وقوله : إذا كانت محفوظة من الميدان قد بينت قبل أن الميدان الذي ذكره الله عز وجل وذكره نبيه صلى الله عليه وسلم غير الميدان الذي حرفت آيات القرآن من أجله الذي هو الدوران فهذا غير هذا .
ثم قال : أما رأينا حول دوران الشمس على الارض الذي يحصل به تعاقب الليل والنهار ، فإننا مستمسكون بظاهر الكتاب والسنة من أن الشمس تدور على الأرض دورانا يحصل به تعاقب الليل والنهار .
أقول : هذا صحيح وهو دليل على ثبات الأرض لأنهم يزعمون أن الشمس ثابتة فإذا دار أحدهما حول الآخر لزم أن يكون الآخر ثابتا وإلا اختل النظام لأن تعاقب الليل والنهار يحصل بدوران أحدهما حول الآخر لكن دوران الشمس حول الأرض الثابتة حقيقة ودوران الأرض حول الشمس الثابتة خيالا تخيلوه لا حقيقة له ، فلماذا نشك في ثبات الأرض مع يقيننا بدوران الشمس حولها ؟ وهم لا يقولون إن الشمس تدور على الأرض مع دوران الأرض ، يعلمون أن تناقض ، لكن يزعمون أن للشمس حركة أخرى وهي وما معها من الكواكب التي ضمنها الأرض حول المجرة أو في اتجاه واحد كما ذكر قطب عنهم ، وهذا كله تابع لخيالهم الذي بينا زيفه فيما تقدم . فليس هو الجريان بالفلك .
كذلك فإن جريان الشمس المذكور في القرآن والأحاديث إنما هو في الفلك ، والفلك هو المستدير بلغة العرب ، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما على قوله تعالى : (( وكل في فلك يسبحون )) قال : يدورون يعني حول الأرض ، فمن تأول جريان الشمس المذكور على خرافاتهم فهو محرف للكلم عن مواضعه .
ونزيد المسألة وضوحا بأن نقول لمن يعتقد جريان الشمس ودورانها حول الأرض . أتراه يصح أن توصف الشمس بالقرار مع أنها تجري وتدور حول الأرض ؟
فإذا لم يستقم هذا الوصف ولم يصح لأن جريان الشمس ودورانها حول الارض ضد القرار ولذلك قرأ ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى : (( والشمس تجري لا مستقر لها )) كذلك ابن مسعود قرأها هكذا . فكذلك الأرض لا يصح وصفها بالقرار وهي تدور حول الشمس على زعم من يدعي أن الرواسي تحفظها من الميدان أثناء الدوران . كذلك فإن من يقر بدوران الأرض حول الشمس يلزمه القول بثبات الشمس ، فلابد من ذلك ، فإذا أقر بجريان الشمس كما ورد في الكتاب والسنة ، وكما تعرفه العرب من كلامها أصبح دوران الأرض لا معنى له لأن الغرض المطلوب يتم بذلك كما تقدم . ولا ينفعه إقراره بجريان الشمس أنه دورانها حول المجرة . فهذا مجاراة لهذه النظريات الباطلة بتأويل كلام الله بالباطل ، فجريان الشمس في القرآن هو دورانها حول الأرض بالفلك وهو السماء .
العلم بالباطل من أعظم أسباب تعظيم الحق
يقال :
الضد يظهر حسنة الضد وبضدها تتبين الأشياء
قال شيخ الإسلام رحمه الله : وكل من كان بالباطل أعلم كان للحق أشد تعظيما وبقدره أعرف إذا هدي إليه
وقال ابن القيم رحمه الله : وهكذا من عرف البدع والشرك والباطل وطرقه فأبغضها لله وحذرها وحذر منها ودفعها عن نفسه ولم يدعها تخدش وجه إيمانه ولا تورثه شبهة ولا شكا بل يزداد بمعرفتها بصيرة في الحق ومحبة له وكراهة لها ونفرة عنها أفضل ممن لا تخطر بباله ولا تمر بقلبه فإنه كلما مرت بقلبه وتصورت له ازداد محبة للحق ومعرفة بقدره وسرورا به فيقوى إيمانه به . وذكر رحمه الله كلاما ثم قال :
والمقصود أن الله سبحانه يحب أن تعرف سبيل أعدائه لتجتنب وتبغض كما يحب أن تعرف سبيل أوليائه لتحب وتسلك . وفي هذه المعرفة من الفوائد والأسرار مالا يعلمه إلا الله ... إلخ .
قال ابن القيم رحمه الله : التفكر والتذكر أصل الهدى والفلاح وهما قطبا السعادة .
وقال : وأحسن ما أنفقت فيه الأنفاس التفكر في آيات الله وعجائب صنعه والانتقال منها إلى تعلق القلب والهمة به دون شيء من مخلوقاته .
يتبع