يخطو نحو العشرين ، دخل المسجد.. يحمل جرحين : آثار حادث سيارة ، خرج منه محطم الساقين .. محطم القلب ، على (أحلام) للشباب مبكرة ، اغتالها الحادث .. و تداعياته على الجسد و (القلب) .. جرحه الثاني ، كان هموم أمة .. حملها صغيرا ، و تفتحت (عيون) القلب على واقع بئيس لها .. تخلف و هزائم ..
الوجع هذه المرة جاء من أفغانستان ..
يتذكره .. كان يوم ثلاثاء ، حينما اجتاحت الدبابات الروسية كابل في أواخر شهر ديسمبر 1978 . كان شتاءا قاسيا .. و ما زال ، ما أطول (شتاءاتنا) ..!
بقي ينتظر يوم الجمعة .. (ستهتز) المنابر ، لهول الحدث .. هكذا حدث نفسه ..!
و طفق يبحث عن (جامع) يصلي فيه .
كان يريد أن يصلي .. و كان وجعا غائراً.. مكتوما ، يصرخ في أعماقه .. يبحث له عن (فم) .. !
أحس .. كأنما دوائر هائلة من الألم تنداح في لجة أعماقه .. آهة حقيقية تتلوى في صدره .. و طوفان رفض عارم يهدر في شرايينه ..
يموت .. مثل موج هادر .. يبتلعه الرمل على شاطئ خاو ٍ .. مهجور..
بلع ريقه المُرّ ، و هويتذكر مقطعا كان قد سمعه ، أول ما بدأ عصفور قلبه الصغير محاولاته الأولى للطيران ..
" بي آهة .. عجزت أبلقى لها فم .."
قد كبر .. و اعتنق القلب(حبا) آخر .. مع حبه الأول ، و كبرت الآهة ..!
ناء القلب .. فوق( حبه) القتيل بحادث السيارة ، بحب أمة مهزومة .. فحمل الهزيمة .. و احتمل الجراح .
اتخذ مكانا في الصف الأول ، قريبا من الإمام . لم يدر لم اختار ذلك المسجد بالذات . كان يبحث عمن يطلق الصرخة التي تتحشرج في داخله .. و تكاد ، و هي تدق جدران صدره بعنف .. و تركض مجنونة بين قلبه وعقله و حنجرته .. بحثا عن مخرج ، أن تمزق أحشاءه .
الصفوف طويلة .. و كل شيء كان داكنا : الإضاءة الضعيفة ، لون الفرش ، الملابس الشتوية الملونة ، و وجوه (المخبرين) .. و روحه المثخنة .. المظللة بلون الدم :
أمة تنزف .. و عصفور قلب جريح ..
يبلع ريقه المر ، و يتراءى له وجه أمه ، تقرأ الوجع في عينيه .. ليست تدري من أي الجرحين يشكو ..!
يتراءى له وجهها .. تصب فنجان القهوة ، و تكاد تمد يديها ، تلتقط حطام وجع يتصبب من عينيه .. و تردد :
" و الله ما خليك و أنت اليوم خالجني .. إما اتلف الروح .. أو آخذ معك سجة .."
كثيرا ما سمع منها .. مثل هذا الشعر ، الذي يُحدّث عن الألم .. إذ يعذب الروح ، و يفريها حتى القرار ..
بعض الحزن لا يحتمله القلب ..
و بعضه لا يحتمله الجسد ..
فيفيض من العيون ..
كأنما تريد أن تقول له : أعرف معنى أن يخفق القلب .. يرف عصفوره الصغير بجناحيه !
فتصطخب الجوارح ..
لا تدري أي الجرحين يشكو..!
تخاف أمه من شيئين : أن يفرط عصفور القلب في (التحليق) ،فتغرس فيه الصبابة جرح عميق ، أو أن يفرط في حب (أمته), فتخطفه ( كتائب ) المخبرين ..!
فيما بعد ، حين منحوه الحرية بمكرمة (!!) .. قال لأمه :
- كنتِ تخافين ..!
و تعاقبت امام ناظريه ومضات لوجهها .. و وجه السجان ، و( أربع) مملوءة بصلصلة الحديد ، و ألوان القضبان الرمادية .. و حذاء المحقق يهوي على رأسه ..
و هامات مغموسة في الذل ..
كان يظنه صوتها ، ضجيج الحناجر.. صدى الباب الحديدي الضخم ، و هو يدقه بقبضته ..
حيث تختنق الحرية .. فلا يبقى لها (نفسا) مسموعا .. إلا صوت قبضة تدق بابا مصمتا ..
ماتت دونه كل الكرامات ..
سألها :
- ما الفرق بين الهاجس و النبوءة ؟
- الآدمية المهدرة ..
ظن أنها قالتها .. و هو يقرأ عنوانا لتقرير ملقى على الفراش .. بجانبها ..!
رأى الباب يُفتح ، و يدلف منه. كان نحيلا يتهادى في أربعيناته . اشتمل بمشلحه ، وهو يهمّ بصعود درجات المنبر . التفتَ ورءاه .. كان المسجد قد امتلأ . اكتظت الصفوف ، فأغلقت الأبواب الأمامية .. لتصد تيار الهواء البارد الذي كان يندفع للداخل .. مؤكدا أنه (ديسمبر) ، و (شتاؤنا) الطويل ..
الأنفاس الحارة ، و الملابس الثقيلة ، أشاعت الدفء ، فبدأت الأجساد تتململ . .
دوي أصوات قراءة القرآن .. خلق شعوراً نقله إلى كابل :
كأن الذي يسمعه .. ليس تراتيل سورة الكهف .. بل عويل الجروح في شتاء مدينة ذبيحة ..!
الخطبة الأولى بدأت .. تحفز .. و زاد تحديقه بالإمام . المسح على الخفين للمقيم ..
أمعن الإمام في حديث الخف و (مواصفات) الحذاء ..
و ازداد هوتحديقا فيه ..
....................يتبع