تفسيرات ضرورية
يعلن العلماء المختصون بالعلوم البحتة أكثر من نظرائهم في مجال العلوم التطبيقية أن عملهم يشتمل على تفسير الوقائع. ولهذا من المهم بالنسبة لهم كما بالنسبة للفلاسفة تعريف ما هو التفسير بشكل واضح. وكما كان من الصعب دائماً بالنسبة للإبستمولوجيين تعريف ماذا يعني تفسير حدث ما (يلجأ ويتغنشتاين مثلاً إلى الحديث عن "ظاهرات طبيعية")، فإن هذه المهمة تبدو لواينبرغ أكثر سهولة بالنسبة للفيزياء (والكيمياء) مما هي بالنسبة للعلوم الأخرى (هل يمكن حقاً فصل التفسير الفيزيائي عن التفسير الاقتصادي أو البيولوجي أو الاجتماعي مثلاً، خاصة مع تطور علوم الشواش والانتظام الذاتي وغيرها من العلوم التي توحد فروع المعرفة وتجمع التفاسير أو الوصف في حالة من التصميم أو التشكيل المتوحد؟): فالفيزيائيون بنظر واينبرغ يهتمون بتفسير حالات الانتظام والمبادئ الفيزيائية وليس بحوادث منعزلة ومنفصلة. لكننا من هذا المنظور كيف نعرف أن التفسير لا يتسع ليشمل المبادئ الإنسانية والجمالية والرياضية وغيرها؟ بعبارة أخرى، هل يمكن أن يوجد تفسير منعزل عن وقائع العالم الأخرى؟
يقول واينبرغ إن البيولوجيين والمؤرخين وعلماء المناخ وغيرهم يبحثون عن أسباب أحداث منفصلة، مثل انقراض الديناصورات أو الثورة الفرنسية. بالمقابل، فإن الفيزيائي لا يهتم بحدث منفصل وخاص، مثل التشويش الذي ظهر في عام 1897 على الصفائح الفوتوغرافية التي تركها بيكريل قرب ملح اليورانيوم، إلا عندما يكشف مثل هذا الحدث عن انتظام أو تناسق عام ما في الطبيعة، ألا وهو في هذه الحالة لاإستقرارية ذرة اليورانيوم. وقد حاول كيتشر أن يعيد إطلاق فكرة أن طريقة تفسير حدث معزول تكمن في الرجوع إلى أسبابه. ولكن، بين اللانهاية من الأشياء التي يمكن أن تؤثر على حدث ما، أيها يمكن اعتباره من أسبابه؟ إن لانهاية من الأسباب تكمن وراء ظهور حدث ما، أكان فيزيائياً كما يراه واينبرغ ويمكن أن يؤدي إلى تفسير انتظام أو نسق عام، أم كان اجتماعياً أو بيولوجياً أو غير ذلك من ظاهرات الطبيعة من الأحداث التي يعتبرها واينبرغ منعزلة!
يعتقد واينبرغ أنه بالإمكان تقديم إجابة أولية في إطار الفيزياء فيما يتعلق بالتمييز بين التفسير والوصف البسيط، وذلك مع الأخذ بعين الاعتبار لما يعنيه الفيزيائيون عندما يؤكدون أنهم فسروا تناسقاً أو انتظاماً ما. وفي الواقع فإن الفيزيائيين يفسرون مبدأ فيزيائياً عندما يبرهنون أنه يمكن أن يُستنتج من مبدأ فيزيائي أكثر جوهرية منه. ولكن للأسف، وكما نلاحظ، فإن كل كلمة أو مصطلح في هذا التعريف يحمل معنى جدلياً قابلاً للنقاش، بما في ذلك ضمير المتحدث باسم الفيزيائيين! لكن واينبرغ يعتقد أن ثلاثة مصطلحات بين هذه الكلمات هي الأهم وهي التي يختارها للنقاش: الجوهري أو الأساسي، والاستنتاج أو الاستقراء، والمبدأ.
إن لفظة الجوهري لا يمكن أن تحذف من هذا التعريف لأن مفهوم الاستنتاج وحده لا يشير إلى أي اتجاه، فهو يعمل في الاتجاهين. والمثال الأفضل على ذلك نجده في العلاقة بين قوانين نيوتن وقوانين كبلر. ونقول عادة إن قوانين نيوتن تفسر قوانين كبلر. ولكن تاريخياً كان نيوتن قد استنتج قانون الجاذبية من قوانين كبلر. ونحن اليوم في دراستنا للميكانيك نتعلم كيف نستنتج قوانين كبلر من قوانين نيوتن وليس العكس. ونحن مقتنعون تمام الاقتناع أن قوانين نيوتن أكثر جوهرية من قوانين كبلر. وبهذا المعنى تفسر الأولى الثانية وليس العكس. مع ذلك، ليس من السهل أن نعطي معنى محدداً للمفهوم الذي وفقه يكون مبدأ فيزيائي أكثر جوهرية من مبدأ آخر.
لعل أكثر جوهرية تعني أكثر كمالاً. ولا شك أن المحاولة الأكثر شهرة لإدراك المعنى الذي يعطيه العلماء للتفسير هي محاولة كارل همبل . ففي مقال شهير كتبه في عام 1948 مع بول أوبنهايم يلاحظ: "إن تفسير انتظام عام يشتمل على تضمينه في انتظام أوسع منه، وذلك تحت قانون أكثر عمومية". مع ذلك فقد استمرت الصعوبة في قبول تعريف مصطلح "التفسير". والحق إن التفسير يعني على المستوى الفلسفي معرفة الأسباب العميقة أو الجوهرية لوجود انتظام ما. أما على المستوى العلمي، فإن معرفة حالة أوسع أو قانون أشمل لا تعني بالضرورة تفسير الحالة الأدنى أو الخاصة. ولهذا، يبقى التمييز بين الوصف والتفسير مسألة مفتوحة، ولعلها ستبقى مفتوحة طالما بقي الحوار المعرفي قائماً