الاستقراء الضمني
إن مفهوم الاستقراء يقودنا إلى مسألة أخرى: من الذي يقوم بالاستقراء؟ نقول غالباً إن واقعة ما يتم تفسيرها بواسطة واقعة أخرى دون أن نكون قادرين فعلاً على استنتاج أو استقراء الأولى من الثانية. فعلى سبيل المثال سمح تطوير الميكانيك الكمومي في منتصف العشرينات من القرن الماضي ولأول مرة بحساب واضح ومفهوم لطيف ذرة الهيدروجين. وسرعان ما استنتج عدد كبير من العلماء في حينه أن الكيمياء كلها قد تم تفسيرها بواسطة الميكانيك الكمومي ومبدأ الجذب الكهرستاتيكي بين الإلكترونات والنوى الذرية. وقد أعلن فيزيائيون مثل بول ديراك P. Dirac في ذلك الحين أنه قد تم مذاك فهم الكيمياء كلها. ومع ذلك، لم يكونوا بعد قد استنتجوا الخصائص الكيميائية لجزيئات أخرى غير الهيدروجين وهو أبسطها. لقد أثبتت التجربة هذه الفرضية. ويمكننا اليوم حساب خصائص الجزيئات الأكثر تعقيداً، إنما ليس بمستوى تعقيد البروتينات أو الحموض النووية، وذلك بواسطة حسابات معقدة مرتكزة على الميكانيك الكمومي ومبدأ الجذب الكهرستاتيكي. وهكذا فإن معظم الفيزيائيين يصرحون اليوم إن الكيمياء قد تم تفسيرها بواسطة الميكانيك الكمومي وبواسطة الخصائص البسيطة للإلكترونات والنوى الذرية. مع ذلك، فإن الظاهرات الكيميائية لن تفسَّر بالكامل في يوم من الأيام بهذه الطريقة، ولهذا السبب إنما تبقى الكيمياء علماً قائماً بذاته. مع ذلك، وعلى الرغم من صعوبة دراسة الجزيئات المعقدة بواسطة مناهج الميكانيك الكمومي، فإننا نعرف رغم كل شيء أن الفيزياء تفسر خصائص العناصر الكيميائية. وهذا التفسير لا يوجد في كتبنا ونظرياتنا، بل في الطبيعة نفسها. فقوانين الفيزياء هي التي تتطلب ان تكون للعناصر الكيميائية خصائصها المعروفة.
تصح هذه الملاحظات نفسها على مجالات أخرى في العلوم الفيزيائية. فالنموذج المعياري يشتمل مثلاً على نظرية للتفاعل النووي الشديد، وهي القوة التي تربط بين الكواركات، والتي تربط أيضاً بين جسيمات النواة الذرية: إنها بعبارة أخرى ما يسمى بالكروموديناميك الكمومي. وهذا العلم يفسر كتلة البروتون على أنها نتيجة للقوى الكبيرة التي تمارسها الكواركات على بعضها بعضاً داخل البروتون. ونحن لا نستطيع فعلياً حساب كتلة البروتون. ويقول واينبرغ إنه ليس واثقاً من امتلاكنا لمنهجية أو خوارزمية مناسبة لذلك. ومع ذلك لم تعد كتلة البروتون أمراً خفياً أو عصياً. ويقول واينبرغ إن لدينا الشعور بأننا نعلم لماذا هي على ما هي عليه، ليس لأننا حسبنا ولا حتى لأننا نستطيع القيام بذلك، بل لأن هذا الحساب لا يتطلب بالإضافة إلى الأدوات الرياضية سوى معرفة الكروموديناميك الكمومي.
إن الاعتراف بأن شيئاً ما تم تفسيره، حتى ضمن هذا المجال المحدود نسبياً، أمر على غاية من الأهمية: فذلك يمكن أن يشير إلى المسائل الهامة فعلاً التي يجب دراستها، وربما إلى الاتجاه الذي على العلم السير فيه من أجل بلوغ مرحلة تفسيرية جديدة. . ولهذا لسنا نوافق واينبرغ تماماً حين يصر أن حسابنا لكتلة البروتون مثلاً لن يكون سوى استعراض لمهارات رياضية، وأن ذلك لن يحسن في شيء فهمنا لقوانين الطبيعة، لأننا نعرف بشكل جيد التفاعل النووي الشديد بحيث نعلم أننا لن نحتاج إلى أي قانون طبيعي جديد من أجل إتمام هذا الحساب