ما لا تفسره الفيزياء
كثير من الفيزيائيين يحتاجون إلى الاعتقاد بأن التقدم العلمي سيقودنا يوماً إلى التفسير الشامل للظاهرات الطبيعية. ويبدو أن الفيزياء الكمومية تقربنا من مثل هذه النتيجة، لكن القناعة والاعتقاد لا يعنيان البرهان. وهكذا فإن مطب المصطلحات يطاردنا دائماً في بحثنا عن المعرفة الكاملة. ماذا عن المدرسة المقابلة؟ وماذا يقول التيار الأكثر تحرراً في السياسة العلمية من غائية علمية هدفها معرفة كاملة ونظرية نهائية؟
يأمل واينبرغ أننا سنفهم يوماً كافة انتظامات الطبيعة، وأنه سيأتي يوم تُستنتج فيه كافة الانتظامات من بعض المبادئ البسيطة. لكن هناك تيار من العلماء (خاصة الفرنسيين) الذين يعتقدون بمحدودية مثل هذا النمط من التفكير، وأحدهم جان ـ مارك ليفي ـ لوبلون. وهو يرى من منظور تاريخي أن هذا التوجه قد يكون هاماً في دفع هؤلاء العلماء الرواد باتجاه مزيد من الاكتشافات والمعرفة. إن هذا الايمان قديم قدم الفيزياء والعلوم، ولنا مثال على ذلك في اكتشاف نيوتن للجذب الثقالي الذي سماه الجاذبية الكونية. ففي أعماقه كان يعتقد أن اكتشافه سيحمل مفتاح المعرفة الكاملة في النهاية التي ستفسر الكون. ولنتذكر أيضاً اللورد كالفنLord Kalvin الذي أعلن في بداية القرن العشرين أنه لم يبق شيء لاكتشافه في الفيزياء سوى بعض التتمات البسيطة التي لا بد من إضافتها إلى الثوابت الكونية الأساسية. ومثل هذا الاعتقاد في رأي ليفي ـ لوبلون يندرج في مستوى الاعتقاد الديني أو التفكير اللاهوتي أكثر منه الرأي العلمي.
إن نقد التفسير الكامل للكون يرتكز على ما هو أبعد من النقد التاريخي. فواينبرغ ومدرسته لا يقدمون في النهاية سوى الاعتقاد دون أي برهان. ولهذا لا يمكن أن نقدم لهم بالمقابل سوى الاعتقاد لدى الكثير من العلماء بأن الكون أغنى وأكثر تعقيداً مما يتصوره الفيزيائيون والناس عموماً. وبالتالي فإن الاعتقاد بإمكانية تفسير أعماق أعماقه أمر غير مقبول بشكل مطلق.
وهكذا، على خلفية صراع ثقافي لم يعد خافياً، يذهب ليفي ـ لوبلون إلى نقد الأسلوب الأمريكي في نظرية واينبرغ وإن بشكل مهذب وغير مباشر. ويقول: "ما يبدو لي أمريكياً في رأي واينبرغ هو الطريقة التي يطرح فيها العلاقة بين المبادئ الفيزيائية الأساسية والمبادئ الإنسانية بما فيها الأخلاق. يؤكد واينبرغ أننا لا نستطيع تأسيس الأخلاق على الفيزياء، الأمر الذي يسعدنا، لكن تعبيره عن الحاجة إلى تحديدها يشير بوضوح إلى إطار ثقافي معين لا شك أنه يتصل بأصولية توراتية. ويبدو لي أنه لا يوجد في العالم اللاتيني والفرنسي خصوصاً من لديه الحاجة لإثبات مثل هذا اليقين! ويمكننا أن نضيف على خلفية هذا الصراع الثقافي غير المعلن تماماً أن الحاجة إلى تحديد الأخلاق أو إلى تحريرها لا يجب أن يلعب دوراً أساسياً، كما هو الحال هنا، في إثبات إمكانية المعرفة الكاملة أو لا. والحق أن نمط التفكير الأمريكي يرتبط إلى حد كبير بنمط معرفة أصولية تريد أن ترسم الكون وفق منظورها، النفعي إنما المحدد أصلاً في إطار أخلاقي موجه يمكن التحكم به.
يقدم واينبرغ حججاً أخرى في إطار نظرته، منها مثلاً أن الكيمياء إذا بقيت علماً مستقلاً حتى الآن إلى حد ما، فذلك أن الميكانيك الكمومي ومبدأ الجذب الكهرستاتيكي لا يكفيان لشرح الظاهرات الكيميائية شرحاً وافياً. ويرد عليه ليفي ـ لوبلون أنه في مجال الكيمياء نفسه، لا يكفي التفسير الفيزيائي ما أن يصبح الجزيء المدروس معقداً بدرجة معينة. وفي أفضل الأحوال يقوم الفيزيائي بعمل حساباته الخاصة بهذا الجزيء على الحاسوب. لكن هذه الحسابات لا تعطينا فكرة وافية عن حقيقة المسألة. فالفهم والتفسير يعنيان أن تكون لدينا معرفة عميقة بالآليات القائمة في قلب هذا التكوين. وكما قال ويغنر Eugene Wigner يوماً عندما قدمت له مثل هذه الحسابات التي كانت تصف سلوك منظومة كيميائية: "حسناًن لقد فهم الحاسوب، لكنني أريد أنا أيضاً أن أفهم". وينطبق ذلك على الفيزياء نفسها. فهناك الكثير من حالات الوصف للأجسام المجهرية إنما غير الأولية، مثل نواة الذرة. إن التفاعلات الأولية بين العناصر التي تشكل النواة لا تفسر سلوكها إلا بشكل عام. وعلى الرغم من النجاح الكبير لفيزياء الجسيمات الأولية، فلا يزال العلماء بحاجة إلى رصد ومهاجمة مختلف السويات المادية الدقيقة من أجل تدقيق وصفها ومعرفتها. فلا بد لنا في النهاية من احترام هذه الاستقلالية أو الخصوصية إن صح التعبير لمختلف مظاهر الحقيقة. ولا شك أن الأمثلة تكون أوضح وأكثر بكثير إذا ما غصنا في تفاصيل العلاقات الفيزيائية البيولوجية للكائن الحي، أو إذا فتحنا ملف العلاقات الإنسانية والاجتماعية.
يتهرب واينبرغ بطريقة ليست فائقة الذكاء من مثل هذه الأمثلة، وذلك بالتمييز الذي سبقه إليه أرسطو، بين ما هو مبدئي وما هو طارئ. لكن هل يمكن أن نعتبر أن لهذا التمييز قيمة تفسيرية ما؟ من الواضح أنه يلائم حالات محددة فقط. فنحن لا نملك معايير تسمح لنا بالتأكيد أن مبدأ ما ليس هو نفسه نتيجة طارئة أو صدفة. وبالمثل، فإن قوانين يمكن أن تبدو لنا طارئة، مثل قوانين الوراثة أو الجيولوجيا، لها أيضاً على مستواها قيمة مبدئية. فمفهوم الصدفة يستدعي نظرة نقدية مثله مثل مفهوم المبدأ. وكما يقول ليفي ـ لوبلون "لسنا أكيدين من أنه يمكن الفصل بشكل مطلق بين ما هو أساسي، أي ما يتعلق بالمبادئ، وما هو مركب ومعقد، أي ما يتعلق بالطارئ".
لكن واينبرغ يطرح، على الرغم من ذلك، في صالح مثل هذا التمييز فكرة لا يستهان بها يسميها "ضباب الزمن". وهو يقول فيما يتعلق بالصيغة الوراثية أننا قد لا نعرف أبداً لماذا هو على ما هو عليه، لأن أصله يغيب في ضباب الزمن. أي أن أصولاً معرفية كثيرة ربما ضاعت في الماضي البعيد. لكن هذه الحجة مردودة في نظر ليفي ـ لوبلون. ويستشهد بريتشارد فاينمان الذي كان قد طرح مرة فكرة أن الإنتظامات على المستوى تحت الذري، في فيزياء الجسيمات الدقيقة، يمكن أن تكون هي نفسها غير أولية ومركبة، بل نتيجة لتطور أكثر بدئية منها في ماضي لا يمكن ولوجه أبداً: "نكتشف تناظرات رائعة في عالم الجسيمات هذا، وهو أمر جميل! ولكن لقد تطلب الأمر انتظار كبلر لكي يتبين أن التناظرات الدائرية في مسارات الكواكب غير كاملة، فما الذي يؤكد لنا أن التناظرات في عالم الجسيمات الدقيقة ليست مركبة؟" ووفقاً لهذه الفكرة لفاينمان، يمكن القول بالتالي إن ما يعتبره واينبرغ الأكثر أساسية يمكن أن يكون طارئاً، ويغيب هو نفسه بالتالي في أصوله في "ضباب الزمن".
لا شك أن الأمر الطارئ بامتياز في النهاية، الأمر الطارئ الذي كان وراء كافة الأمور الطارئة الأخرى، كان ظهور الكون نفسه. إن واينبرغ وديفيس ومعظم الفيزيائيين يعتقدون أن الفيزياء الكمومية ستكون قادرة على تفسير هذا الحادث. بالمقابل، يرى ليفي لوبلون إننا لسنا بحاجة من أجل تفسير هذه البداية للفيزياء الكمومية، ولا للزمن التخيلي الذي يطرحه هوكنغ Hawking، ولا لنظرية الأوتار الفائقة أو لنظرية التضخم الفائق. ففكرة بداية الكون طرحت في الكوزمولوجيا التي ترجع إلى معادلات فريدمان لوميتر في العشرينات. وهذه المعادلات تصف تطور الكون تبعاً للزمن. ويمكن استخدام هذه المعادلات من أجل الرجوع بالزمن الحاضر إلى لحظة يمكننا تسميتها "الأصل" ولكن حيث تتوقف هذه المعادلات عن كونها فاعلة وصحيحة. فالأمر يتعلق بفرادة رياضية. وهذا يعني أن هذه اللحظة الأولى ليست وحيدة، فهي لا تنتمي إلى محور الزمن. ومن هنا يسجل ليفي ـ لوبلون دهشته لأن المقارنة لم تتم لهذه النقطة مع الصفر المطلق في الحرارة. فجميع الفيزيائيين يتفقون على أن هذا الصفر المطلق ليس من الحرارة. فهو صفر غير موجود، يمكننا الاقتراب منه بلا نهاية إنما دون أن نستطيع بلوغه. فهذا الصفر المطلق هو بالتالي عدد منته لكنه لامنته من وجهة نظر تصورية. فلماذا لا يكون الأمر على هذا النحو بالنسبة لنقطة الصفر الكونية؟ من جهة أخرى فإن نظرية التوسع الكوني تشتمل ربما بشكل غير مباشر على فكرة أن اللحظة الأولى من عمر الكون لم تكن واحدة؛ ومن هنا النتيجة بأنه لم يكن ثمة ما هو قبل الانفجار الكبير. وهكذا مهما حاولنا فلن نستطيع الوصول إلى لحظة الإنفجار الكبير نفسها. إن سؤال الأصل هو سؤال سيء الطرح، والسبب أننا نطرح تصوراً للزمن مرتبطاً بتجربتنا اليومية على مستوى مختلف تماماً.
هذا لا يعني بالتأكيد أنه لا يمكن تمثيل البيغ بانغ. فالشكلانية الرياضية تعطي مجالاً واسعاً لوضع بناءات مختلفة لتصورات بدئية كثيرة للكون. ومع ذلك سيبقى هناك هذا الغموض المرتبط بأصل الكون. ويطرح ليفي ـ لوبلون مثالاً يشرح فيه هذه الفكرة: لنتخيل العالم الذي نحيا فيه أنه مستوي لانهائي وأننا نحيا في برج لا نستطيع الخروج منه على هذا المستوي. ولهذا البرج نافذة ذات قضبان حديدية مشبكة. إن الضباب يغلف الأفق البعيد، لكننا نستطيع أن نرى ما يجري قرب البرج. والطريقة الوحيدة التي لدينا لقياس الأشياء هي قضبان النافذة. وملاحظة مثلاً أن حدي الطريق الموجود أسفل البرج يقتربان من بعضهما كلما ابتعدا نحو البعيد حتى يغيب الطريق في الضباب. وعندما ينزاح الضباب في أحد الأيام نلاحظ أن الطريق يصبح نقطة في الأفق. ويمكن تحديد هذه النقطة تماماً بفضل الإحداثيات المعتمدة على قضبان النافذة، بحيث ليس ثمة ما يمنع من اعتبار هذه النقطة أنها أصل الطريق. ولكن يمكن أيضاً اعتبار أن هذه النقطة تقع على الأفق، وبالتالي في اللانهاية. وهذا المثل يبين لنا أن درجة معينة من القياس يمكن أن تمثل في الحقيقة قياساً لانهائياً. فالمسألة لا تتعلق بالفيزياء الكمومية أو غيرها من أجل طرح ومعالجة مسألة الأصول.
مع ذلك يبقى السؤال قائماً: هل يمكن للفيزياء أن تفسر حادثة ظهور الكون والزمن والمكان والمادة…؟ لا شك أن هذا السؤال ذو طبيعة ميتافيزيائية، بينما لا يمكن للفيزياء أن تجيب إلا بشكل فيزيائي. بعبارة أخرى، قد يأتي يوم تطرح فيه مفاهيم جديدة للزمان والمكان والمادة وغيرها، وتطرح نظريات جديدة حول أصول الكون، لكن الحديث عن ظهور الكون الطارئ، أو حتى الغائي، يبقى خارج نطاق الفيزياء. ولا شك أننا أصبحنا، خاصة مع فيزياء القرن العشرين، أسرى أكثر فأكثر لمصطلحاتنا. كان فيزيائيو القرن التاسع عشر أكثر فطنة وانتباهاً لهذه النقطة. في حين أن مصطلحات الفيزيائيين في القرن العشرين تتطلب منهم باستمرار تكريس وقت للتنبيه إلى ضرورة عدم الوقوع في خطأ الفهم. وهذا مصطلح الانفجار الكبير أو البيغ بانغ يستخدم بشكل خاطئ بحيث نجد العلماء ينبهون دائماً: هذا المصطلح لا يعني أبداً ما يمكن فهمه من كلماته! فما حصل ليس انفجاراً بالمعنى المعروف، ولم يحصل في مكان معطى ومحدد من الفراغ,ولا حتى في لحظة معطاة، إلخ.".
إن الفيزياء بهذا المعنى لا تزال بعيدة حتى عن مجرد طرح فكرة النظرية الفيزيائية الكاملة. ولا بد على الأقل من انتظار ليس تطوراً في الفيزياء نفسها أو اكتشافات جديدة في حقول العلم فقط، بل وحتى تطوراً في ذهنيتنا وأدمغتنا ونفسانيتنا لمواجهة مثل هذه المسألة من منظور أشمل وأعمق
.
W. Pauli, Physique moderne et philosophie, p. 152, Albin Michel, 1999.
J.-M. Lévy-Leblond, Ce que n'explique pas la physique, Entretient, La Recherche 349, 2002, p. 87.
P. Davies, Avant le Big Bang, La Recherche 349, 2002, p.32.
B. Russel, "On the Notion of Cause", Proceedings of the Aristotelian Society, vol. 13, 1912-1913.
S. Weinberg, La physique peut-elle tout expliquer?, La Recherche, 349, Janvier 2002, p. 25.
C. hempel et P. Oppenheim, Philosophy of Science, vol. 15, no 135, p. 135, 1948.
[7] S : Weinberg ; Facing Up ; Science and Its Cultural Adversaries ; Harvard University Press ; 2001 :
S : Weinberg ; Le Rêve d’une théorie ultime ; Odile Jacob ; 1997 :
[8] J.-M. Lévy-Leblond, Ce que n’explique pas la physique, La Recherche, 349, Janvier 2002, p. 87.