قال سعيد ابن جبير:
التوكل على الله جماع الإيمان
.
وهذا هو إخلاص الاعتقاد بوحدانية الله ;
وإخلاص العبادة له دون سواه
فما يمكن أن يجتمع في قلب واحد , توحيد الله والتوكل على أحد معه سبحانه .
والذين يجدون في قلوبهم الاتكال على أحد أو على سبب يجب أن يبحثوا ابتداء في قلوبهم عن الإيمان بالله !
وليس الاتكال على الله وحده بمانع من اتخاذ الأسباب .
فالمؤمن يتخذ الأسباب من باب الإيمان بالله وطاعته فيما يأمر به من اتخاذها ;
ولكنه لا يجعل الأسباب هي التي تنشئ النتائج فيتكل عليها .
إن الذي ينشئ النتائج - كما ينشئ الأسباب - هو قدر الله .
ولا علاقة بين السبب والنتيجة في شعور المؤمن . . اتخاذ السبب عبادة بالطاعة .
وتحقق النتيجة قدر من الله مستقل عن السبب لا يقدر عليه إلا الله . .
وبذلك يتحرر شعور المؤمن من التعبد للأسباب والتعلق بها ;
وفي الوقت ذاته هو يستوفيها بقدر طاقته لينال ثواب طاعة الله في استيفائها .
ولقد ظلت الجاهلية "العلمية ! " الحديثة تلج فيها تسميه "حتمية القوانين الطبيعية " .
ذلك لتنفي "قدر الله" وتنفي "غيب الله" .
حتى وقفت في النهاية عن طريق وسائلها وتجاربها ذاتها , أمام غيب الله وقدر الله وقفة العاجز عن التنبؤ الحتمي !
ولجأت إلى نظرية "الاحتمالات" في عالم المادة .
فكل ما كان حتمياً صار احتمالياً .
وبقي "الغيب" سراً مختوماً .
وبقي قدر الله هو الحقيقة الوحيدة المستيقنة ;
وبقي قول الله - سبحانه –
(لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً)
هو القانون الحتمي الوحيد , الذي يتحدث بصدق عن طلاقة المشيئة الإلهية من وراء القوانين الكونية
التي يدبر الله بها هذا الكون , بقدره النافذ الطليق !
يقول سير جيمس جينز الإنجليزي الأستاذ في الطبيعيات والرياضيات:
"لقد كان العلم القديم يقرر تقرير الواثق , أن الطبيعة لا تستطيع أن تسلك إلا طريقاً واحداً ,
وهو الطريق الذي رسم من قبل لتسير فيه من بداية الزمن إلى نهايته ,
وفي تسلسل مستمر بين علة ومعلول , وأن لا مناص من أن الحالة [ أ ] تتبعها الحالة [ ب ] .
. أما العلم الحديث فكل ما يستطيع أن يقوله حتى الآن , هو أن الحالة [ أ ] يحتمل أن تتبعها الحالة [ ب ] أو [ ج ] أو [ د ] أو غيرها من الحالات الأخرى التي يخطئها الحصر .
نعم إن في استطاعته أن يقول:إن حدوث الحالة [ ب ] أكثر احتمالاً من حدوث الحالة [ ج ]
وإن الحالة [ ج ] أكثر احتمالاً من [ د ] . . . وهكذا
. بل إن في مقدوره أن يحدد درجة احتمال كل حالة من الحالات [ ب ] و [ ج ] و [ د ] بعضها بالنسبة إلى بعض .
ولكنه لا يستطيع أن يتنبأ عن يقين:أي الحالات تتبع الآخرى . لأنه يتحدث دائماً عما يحتمل
أما ما يجب أن يحدث , فأمره موكول إلى الأقدار . مهما تكن حقيقة هذه الأقدار"
ومتى تخلص القلب من ضغط الأسباب الظاهرة ,
لم يعد هناك محل فيه للتوكل على غير الله ابتداء .
وقدر الله هو الذي يحدث كل ما يحدث . وهو وحده الحقيقة المستيقنة .
والأسباب الظاهرة لا تنشئ إلا احتمالات ظنية ! . .
وهذه هي النقلة الضخمة التي ينقلها الاعتقاد الإسلامي للقلب البشري - وللعقل البشري أيضاً -
النقلة التي تخبطت الجاهلية الحديثة ثلاثة قرون لتصل إلى أولى مراحلها من الناحية العقلية ;
ولم تصل إلى شيء منها في الناحية الشعورية ,
وما يترتب عليها من نتائج عملية خطيرة في التعامل مع قدر الله ;
والتعامل مع الأسباب والقوى الظاهرية ! . .
إنها نقلة التحرر العقلي ,
والتحرر الشعوري ,
والتحرر السياسي ,
والتحرر الاجتماعي ,
والتحرر الأخلاقي
. . .
إلى آخر أشكال التحرر وأوضاعه
. . .
وما يمكن أن يتحرر "الإنسان" أصلاً إذا بقي عبداً للأسباب "الحتمية "
وما وراءها من عبوديته لإرادة الناس .
أو عبوديته لإرادة [ الطبيعة ! ]
فكل "حتمية " غير إرادة الله وقدره ,
هي قاعدة لعبودية لغير الله وقدره
. .
ومن ثم هذا التوكيد على التوكل على الله وحده , واعتباره شرطاً لوجود الإيمان أو عدمه
. .
والتصور الإعتقادي في الإسلام كل متكامل .
ثم هو بدوره كل متكامل مع الصورة الواقعية التي يريدها هذا الدين لحياة الناس .
[align=left]سيد قطب[/align]