السلام عليكم :
الإخوة الكرام : حياكم الله تعالى ..
لا شك أن الموضوع المطروح ذو دقة وحساسية بالغين ..
وإنني أتفق مع مجمل ما تفضل به الأخ الكريم مشاهد الفضاء
كما أتفق مع مجمل ما تفضلت به الأخت الكريمة هوائية ..
ودونكم بيان ذلك :
1 - في صرامة القوانين وحتمية نتائجها :
فلو افترضنا أنه لدينا سيارة تتحرك بسرعة " 2 كم / د " على شريط مستقيم من النقطة ( أ ) إلى النقطة ( ب ) التي تبعد 10 كم عن ( أ ) , فهذا يعني أن السيارة ستصل إلى ( ب ) بعد خمس دقائق ..
فلو بقي نظام هذه الجملة محفوظاً على طول الدهر , ولم ينخرم بوجه من الوجوه
فهل من الممكن أن يكون هناك أدنى احتمال على عدم وصول السيارة إلى ( ب ) بعد خمس دقائق , كلما تحركت السيارة من ( أ ) ؟
لا أحسب أن أحداً , وفق هذه المعطيات , يقول بوجود أي احتمال لوصولها إلى ( جيم أو دال أو ... ) عوضاً عن ( ب ) ..
ولكن ! لو حدث أن وصلت السيارة إلى ( " ج " أو " د " أو " ل " ... )
ألا يعني ذلك أن هناك خللاً ما قد حدث في نظام الجملة ؟
ويعني أيضاً
أن وجود خلل ما
أو احتمال وجوده
مع عدم القدرة على تحديد مصدره وطبيعته
يؤدي إلى وجود احتمالات عديدة لنقطة وصول السيارة , تختلف تقديرات درجات تعيينها باختلاف تقديرات مصادر الاحتمالات وخصائصها .. ؟
وأما إذا وصلت السيارة مرة إلى ( ج ) واستطعنا تحديد الخلل ( السبب )
فيمكننا عندها أن نضع نظاماً جديداً للجملة ... وهكذا دواليك ...
فالنتائج حتمية تقع عن أسباب محددة , سواء أعرفنا الأسباب أم جهلناها ..
2 - هل الأسبابُ هي التي توجد النتائجَ ؟
نحن , المسلمين , على يقين تام راسخ قطعي , بأن الله تعالى هو خالق الأسباب وهو خالق النتائج , وهو جل جلاله خالق الروابط بين الأسباب والنتائج ..
ومن أدلتنا على ذلك :
أ ) : كلنا يعلم أن النار تحرق وأن السكين تقطع ..
ولكن ! هل خاصية الإحراق في النار - وكذلك خاصية القطع في السكين - هي من ذات النار وكنهها ؟ أم هي أمر عارض عليها ؟
بمعنى آخر : لو أوقدنا ناراً عظيمة , وألقينا فيها جسماً قابلاً للاحتراق
فهل من الممكن أن لا يحترق هذا الجسم ؟
بحسب قوانيننا الوضعية , نقول : لا بد أن يحترق هذا الجسم ..
ولكن الله تعالى خالق كل شيء , يبين لنا خلاف ذلك في قصة سيدنا إبراهيم على نبينا وعليه السلام , حيث أوقد قومه ناراً عظيمة جداً وألقوه فيها ليحرّقوه , ولكنها , مع بقائها ناراً عظيمة متقدة , لم تصب سيدنا إبراهيم عليه السلام , بأي أذى بقدرة الله تعالى وحكمته وفضله ومنته ..
قال تعالى : { قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ } الأنبياء69
ومما نستدل به هنا أن الله جل جلاله يظهر لنا أن الإحراق ليس من كنه النار وذاتها , وإنما هي وظيفة أوكَلها الله العظيم بها , وأنه يحوّلها أو ينزعها عنها متى شاء وكيفما شاء ..
ومن لطيف ما قاله العلماء في هذه الآية الكريمة : أنه لو قال الله تعالى للنار ( كوني برداً ) فقط , لأهلكت النارُ سيدنا إبراهيم عليه السلام من شدة البرد , ولكن الله تعالى جعل النارَ تحفظ سيدنا إبراهيم عليه السلام بأن تكون ( بَرْداً وَسَلَاماً ) ..
وعلى ذلك فنحن نؤمن إيماناً راسخاً ونوقن يقيناً تاماً , بأن الله تعالى هو خالق الأسباب وهو خالق نتائجها
وأن الأسباب لا تؤدي إلى النتائج من ذاتها , وإنما تؤديها بإرادة الله تعالى ومشيئته , وأنه يتصرف بها كيف يشاء ..
وأنه تعالى جعل النتائج ملازمة للأسباب لتستقيم شؤوننا ونستدل بها على عظمة وجلال وحكمة خالق هذا الكون ومدبره والقيوم عليه ..
ب ) : إن وحدة البناء ووحدة اللبنات التي يقوم عليها هذا الكون بكل ما فيه من أصفر جرم إلى اكبر عناقيد المجرات , تؤكد لنا أن الأسباب والنتائج ليست ذاتية
وإنما هي جعلية , جعلها اللهُ العالم المريد القادر الحي القيوم الذي لا تأخذه سِنة ولا نوم , تبارك وتعالى .. جعلها وأودعها فيها ..
فجعل بعض ذرات يتشكل حديداً يؤدي وظائف محددة
وجعل بعض ذرات أيضاً يتشكل نحاساً ويؤدي وظائف أخرى
وبعضها يتشكل ذهباً ويؤدي وظائف ثالثة ....
ونحن نقول إن الماء مركب من الأوكسجين والهيدروجين
فهل يمكننا أن نركب الأوكسجين والهيدروجين ونصنع ماء ؟
....................................... إلخ
وتجدر الإشارة هنا إلى مسألة تتعلق بطرف في هذه القضية , وهي ما يسميه العلماء :
سنن الله تعالى الكونية ..
ومن سنن الله تعالى الكونية في النصر والخذلان
أنه يجعل النصر للأمة العادلة ولو كانت كافرة
ويجعل الهزيمة والخذلان للأمة التي يفشو فيها الظلم والجور , ولو كانت مؤمنة ..
ومنها : أنه تعالى يجعل النصر للأمة المؤمنة إذا أخذت بأسباب النصر التي منها إقامة العبادات والشعائر الدينية على أتم وجه , والإعداد للحرب بقدر الطاقة والوسع
أنه يجعل لها النصر مهما كانت قليلة العدد والعتاد ..
ومفاد هذا السنن والقوانين بالجملة : أن الله تعالى يُسوي بين أمم الأرض قاطبة في الأمور الدنيوية فيمن يأخذ بأسباب هذه الأمور من الطلب والدرس والتحصيل والعمل الدؤوب
ويزيد ميزة عظيمة للأمة المؤمنة التي تأخذ بهذه الأسباب مجتمعة دون تقصير مع التزامها بأوامر الله تعالى ونواهيه وقيامها بالعبودية المطلقة لله تعالى خير قيام
فإنه يزيدها بأن يذلل لها الصعاب ويفتح لها المغاليق بالطرق الأيسر والمجهود الأقل , وهذا ما نسميه ب ( البركة ) أي النماء والتوسع غير المدرك وغير المحسوب بمجرد الأخذ بالأسباب كاملة مع التوكل الخالص على خالق الأسباب والمسبَّبات تبارك في علاه ..
ولكم تحياتي