وبعد ، فلا بد أن نقول كيف عالج القرآن المكي قضية العقيدة في خلال الثلاثة عشر عاماً
.. إنه لم يعرضها في صورة " نظرية " ولا في صورة " لاهوت " !
ولم يعرضها في صورة جدل كلامي كالذي زاوله ما يسمى " علم التوحيد " !
كلا ! لقد كان القرآن الكريم يخاطب فطرة " الإنسان " بما في وجوده هو
وبما في الوجود حوله من دلائل وإيحاءات ..
كان يستنقذ فطرته من الركام ،
ويخلص أجهزة الاستقبال الفطرية مما ران عليها وعطل وظائفها ،
ويفتح منافذ الفطرة ،
لتتلقى الموحيات المؤثرة وتستجيب لها .
هذا بصفة عامة
00 وبصفة خاصة كان القرآن يخوض بهذه العقيدة معركة حية واقعية ..
كان يخوض بها معركة مع الركام المعطل للفطرة في نفوس آدمية حاضرة واقعة ..
ومن ثم لم يكن شكل " النظرية " هو الشكل الذي يناسب هذا الواقع الخاص .
إنما هو شكل المواجهة الحية للعقابيل والسدود والحواجز والمعوِّقات النفسية والواقعية في النفوس الحاضرة الحية ..
ولم يكن الجدل الذهني - القائم على المنطق الشكلي - الذي سار عليه في العصور المتأخرة علم التوحيد ، هو الشكل المناسب كذلك .
. فلقد كان القرآن يواجه " واقعاً " بشريّاً كاملاً بكل ملابساته الحية ،
ويخاطب الكينونة البشرية بجملتها في خضم هذا الواقع ..
وكذلك لم يكن " اللاهوت " هو الشكل المناسب .
فإن العقيدة الإسلامية ، ولو أنها عقيدة ،
إلا أنها تمثل منهج حياة واقعية للتطبيق العملي ،
ولا تقبع في الزاوية الضيقة التي تقبع فيها الأبحاث اللاهوتية النظرية !
كان القرآن ، وهو يبني العقيدة في ضمائر الجماعة المسلمة ،
يخوض بهذه الجماعة المسلمة معركة ضخمة مع الجاهلية من حولها ،
كما يخوض بها معركة ضخمة مع رواسب الجاهلية في ضميرها هي وأخلاقها وواقعها ..
ومن هذه الملابسات ظهر بناء العقيدة لا في صورة " نظرية " ولا في صورة " لاهوت " ،
ولا في صورة " جدل كلامي " ..
ولكن
في صورة تجمع عضوي حيوي وتكوين تنظيمي مباشر للحياة ،
ممثل في الجماعة المسلمة ذاتها ،
وكان نمو الجماعة المسلمة في تصورها الاعتقادي ،
وفي سلوكها الواقعي وفق هذا التصور ،
وفي دربتها على مواجهة الجاهلية كمنظمة محاربة لها ..
كان هذا النمو ذاته ممثلاً تماماً لنمو البناء العقيدي ،
وترجمة حية له ..
وهذا هو منهج الإسلام الذي يمثل طبيعته كذلك .
وإنه لمن الضروري لأصحاب الدعوة الإسلامية أن يدركوا طبيعة هذا الدين ومنهجه في الحركة على هذا النحو الذي بينَّاه .
ذلك ليعلموا أن مرحلة بناء العقيدة التي طالت في العهد المكي على هذا النحو ،
لم تكن منعزلة عن مرحلة التكوين العملي للحركـة الإسلامية ،
والبناء الواقعي للجماعة المسلمة .
لم تكـن مرحلة تلقِّي " النظرية " ودراستها !
ولكنها كانت مرحلة البناء القاعدي للعقيدة وللجماعة وللحركة وللوجود الفعلي معاً ..
وهكذا ينبغي أن تكون كلما أريد إعادة هذا البناء مرة أخرى .
هكذا ينبغي أن تطول مرحلة بناء العقيدة ،
وأن تتم خطوات البناء على مهل ، وفي عمق وتثبت ..
ثم هكذا ينبغي ألا تكون مرحلة دراسة نظرية للعقيدة ،
ولكن مرحلة ترجمة لهذه العقيدة - أولاً بأول - في صورة حية ،
متمثلة في ضمائر متكيفة بهذه العقيدة
ومتمثلة في بناء جماعي وتجمع حركي ،
يعبر نموه من داخله ومن خارجه عن نمو العقيدة ذاتها ،
ومتمثلة في حركة واقعية تواجه الجاهلية ،
وتخوض معها المعركة في الضمير وفي الواقع كذلك ،
لتتمثل العقيدة حية ، وتنمو نمواً حياً في خضم المعركة .
وخطأ أي خطأ - بالقياس إلى الإسلام -
أن تتبلور العقيدة في صورة " نظرية " مجردة للدراسة الذهنية .. المعرفية الثقافية ..
بل خطر أي خطر كذلك .
إن القرآن لم يقض ثلاثة عشر عاماً كاملة في بناء العقيدة بسبب أنه كان يتنزل للمرة الأولى ..
كلا ! فلو أراد الله لأنزل هذا القرآن جملة واحدة ،
ثم ترك أصحابه يدرسونه ثلاثة عشر عاماً ،
أو أكثر أو أقل ، حتى يستوعبوا " النظرية الإسلامية " .
ولكن الله - سبحانه - كان يريد أمراً آخر ،
كان يريد منهجاً معيناً متفرداً .
كان يريد بناء جماعة وبناء حركة وبناء عقيدة في وقت واحد ..
كان يريد أن يبني الجماعة والحركة بالعقيدة ،
وأن يبني العقيدة بالجماعة والحركة
.. كان يريد أن تكون العقيدة هي واقع الجماعة الحركي الفعلي ،
وأن يكون واقع الجماعة الحركي الفعلي هو الصورة المجسمة للعقيدة ..
و الله - سبحانه - يعلم أن بناء النفوس والجماعات لا يتم بين يوم وليلة ،
فلم يكن هنالك بد أن يستغرق بناء العقيدة المدى الذي يستغرقه بناء النفوس والجماعة
.. حتى إذا نضج التكوين العقيدي كانت الجماعة هي المظهر الواقعي لهذا النضوج .
* * *
هذه هي طبيعة هذا الدين - كما تستخلص من منهج القرآن المكي -
ولا بد أن نعرف طبيعته هذه ،
وألا نحاول تغييرها تلبية لرغبات معجلة مهزومة أمام أشكال النظريات البشرية !
فهو بهذه الطبيعة صنع الأمة المسلمة أول مرة ،
وبها يصنع الأمة المسلمة في كل مرة يراد فيها أن يعاد إخراج الأمة المسلمة للوجود كما أخرجها الله أول مرة .
سيد قطب