إن القرآن الكريم - وهو المصدر الأساسي للعقيدة الإسلامية التي تنشى ء التصور الإسلامي والعقلية الإسلامية - يقرر أن هناك عالما للغيب وعالما للشهادة .
فليس كل ما يحيط بالإنسان غيبا , وليس كل ما يتعامل معه من قوى الكون مجهولا . .
إن هنالك سننا ثابته لهذا الكون ; يملك "الإنسان" أن يعرف منها القدر اللازم له , حسب طاقته وحسب حاجته ,
للقيام بالخلافة في هذه الأرض .
وقد أودعه الله القدرة على معرفة هذا القدر من السنن الكونية ; وعلى تسخير قوى الكون وفق هذه السنن للنهوض بالخلافة ,
وتعمير الأرض , وترقية الحياة , والانتفاع بأقواتها وأرزاقها وطاقاتها . .
وإلى جانب هذه السنن الثابته - في عمومها - مشيئة الله الطليقة ; لا تقيدها هذه السنن وإن كانت من عملها .
وهناك قدر الله الذي ينفذ هذه السنن في كل مرة تنفذ فيها .
فهي ليست آلية بحتة , فالقدر هو المسيطر على كل حركة فيها ; وإن جرت وفق السنة التي أودعها الله إياها.
وهذا القدر الذي ينفذ هذه السنن في كل مرة تنفذ فيها "غيب" لا يعلمه أحد علم يقين ;
وأقصى ما يصل إليه الناس هو الظنون و"الاحتمالات" . . وهذا ما يعترف به العلم البشري أيضًا . .
إن العقلية الإسلامية لتجمع بين الاعتقاد بالغيب المكنون الذي لا يعلم مفاتحه إلا الله ;
وبين الاعتقاد بالسنن التي لا تتبدل , والتي تمكن معرفة الجوانب اللازمة منها لحياة الإنسان في الأرض , والتعامل معها على قواعد ثابته . .
فلا يفوت المسلم "العلم" البشري في مجاله , ولا يفوته كذلك إدراك الحقيقة الواقعية ;
وهي أن هنالك غيبا لا يطلع الله عليه أحدا , إلا من شاء , بالقدر الذي يشاء . .
والإيمان بالغيب هو العتبة التي يجتازها "الفرد" فيتجاوز مرتبة "الحيوان" الذي لا يدرك إلا ما تدركه حواسه , إلى مرتبة "الإنسان"
الذي يدرك أن الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيز الصغير المحدود الذي تدركه الحواس - أو الأجهزة التي هي امتداد للحواس -
وهي نقلة بعيدة الأثر في تصور الإنسان لحقيقة الوجود كله , ولحقيقة وجوده الذاتي , ولحقيقة القوى المنطلقة في كيان هذا الوجود ;
وفي إحساسه بالكون , وما وراء الكون من قدرة وتدبير .
كما أنها بعيدة الآثر في حياته على الأرض .
فليس من يعيش في الحيز الصغير الذي تدركه حواسه كمن يعيش في الكون الكبير الذي تدركه بديهته وبصيرته ;
ويتلقى أصداءه وإيحاءاته في أطوائه وأعماقه ; ويشعر أن مداه أوسع في الزمان والمكان من كل ما يدركه وعيه في عمره القصير المحدود ;
وأن وراء الكون . . ظاهرة وخافية . . حقيقة أكبر من الكون , هي التي صدر عنها ,
واستمد من وجودها وجوده . . حقيقة الذات الإلهية التي لا تدركها الأبصار , ولا تحيط بها العقول . .