وللخروج من هذا الوضع الحرج، يجب علينا في نظر الباحث مجاراة ومحاولة اللحاق بفهم الأسس التي قام عليها العلم الحديث، سواء في صوررته الميكانيكية عند نيوتن والوقوف على تطبيقاته الاجتماعية. منه محاولة فهم العالم في هذا الأنموذج كانت تتمحور كليا على السيطرة على العالم بأنظمة فيزيائية وحسابية، لأنه عالم يقع خارج اللغة، ومحاولة تطويعه تبدأ باعتباره حقيقة خارج اللغة. والعلم بمثابة المقاربة المرجعية التي لا غنى عنها، سواء للتعرف عليه أو التحكم فيه.
وبالوقوف على الأنموذج الجديد الذي حل محل هذا الأنموذج، يجب استيعاب حقيقة جديدة أن العلم لا يستوعب ولا يستوفي الواقع مهما بلغ، ثم إن العلم ليس هو مجموع القواعد العلمية فحسب، بل العلم هو أيضا ما يتهيأ بفضل التجربة والخبرة، لأن النظريات العلمية لا تستطيع تعليب الواقع واختزاله في أنظمتها على وجه الحصر.
وهو ما استوعبه العلماء اليوم جيدا، عندما اعتبروا أن العلوم بتطورها ونضجها أصبحت أكثر تواضعا وأكثر اقتناعا بالنسبية وأبعد من الترويج للوثوقية والحتمية، فالواقع أكبر تعقيدا من الموضوعية العلمية مهما حاولت سبر أغواره والنفاذ إلى أعماقه.
ومن شأن هذا الأنموذج الجديد أنه أعاد النظر في السؤال القديم والجديد، هل يوجد القانون العلمي في الطبيعة ذاتها، أو في الذهن البشري؟ أو هما معا؟
فالقانون العلمي الذي كان عبارة عن إدراك حسي يتم عن طريق الاختزال الذهني، فسح المجال للعلية (منطق العلية ملاحظة حدوث تعاقب معين وتكرار حدوثه ثم استمراره في المستقبل). غير إن العلم لم يقف عند حد ذلك، بحيث يستحيل اليوم القبول بقاعدة على وجه المطلق أو الجزم بها كليا، فالكل معرض للاحتمال وليس في وسع العلم أن يبرهن أو يثبت شيئا على وجه المطلق ولا التكهن بالسير في اتجاه واحد أو مجرى دون آخر.
فالعلية في الكون معقدة ولا تخضع للحتمية، وليست شبيهة بمثل رفع الحجر باليد، كما أن الإرادة ليست مبدأ كونيا، فإذا كان بوسعنا أن نصف طريقة حدوث ظاهرة، فليس بوسعنا أن نقرر لماذا حدثت.
ويخلص بنسعادة إلى ضرورة الربط بين فلسفة العلوم وسوسيولوجيا العلوم، لمعرفة نوع الاحتياجات التي يفرضها الواقع العربي والإسلامي. الأمر الذي من شأنه أيضا أن يعزز فهم المواطن باطلاعه على الاختلافات التي وقعت في التاريخ بين نماذج متعددة من المعرفة العلمية ومعرفة أسباب تمايزها وكيف تطورت...
على سبيل التحذير، الذي لا يخلو من دعابة وحكمة، اعتبر أن العالم العربي اليوم يعج بأنصار الديكارتية وحلفاء الميكانيكية وتفسير الكون وفق أنظمة علمية صارمة لا يأتيها الباطل من خلفها. والأخطر من هذا كله وجود ديكارتيون بدون ديكارتية، بالقياس إلى الزمن الذي ظهرت فيه.
والسر في هذا التنبيه، أن النظرة الميكانيكية والحتمية والسببية والوثوقية التي نشأت على غرار الفلسفة الديكارتية عاجزة اليوم عن الإجابة على مشكلات الإنسان وتفسير ظواهر الكون، ولذلك فالحذر كل الحذر من إسقاطات من هذا القبيل تريد تفسير الكون بمسلمات إيمانية وحتمية.
وإذا كان الباحث في سائر دفوعاته متشبث بتحليل الفيزياء الكوانطية للأشياء، ما جعله على طرفي نقيض مع المتدخل السابق، فلقد استمتع الجمهور بمعرفة سر التناقض الذي يوجه أسس المعرفة العلمية الموضوعية ويفصلها عن الأسس المعرفة العلمية النسبية.
أما الجلسة الثانية فقد ترأسها د. سليم بدوي رئيس تحرير إذاعة مونتي كارلو{ راديو فرنسا الدولي للشرق الأوسط} والتي باشرها بطرح السؤال عما إذا كان هناك من موقع للعلماء والباحثين في المجتمع العربي.مؤكدا بصدقيته المعروفة أن لا انعزال لهؤلاء البحاثة عما يموج حولهم من قضايا وأحداث جسام، إذ أصبحت تؤثر عليهم بطريقة أو بأخرى ـ إن سلبا أم إيجابا ـ في أدوارهم.
و قام خبير فيزياء الفلك المغربي خليل شمشام،الأستاذ بجامعة أكسفورد ، بتقديم مداخلة مركزة تمت فيها الإحاطة بملابسات الوضع المؤسف الذي توجد عليه العلوم في العالم العربي، فشتان بين الوضع الذي كان العرب يملكون فيه مفاتيح الحضارة الإنسانية، ووضعهم اليوم الذي ينذر بغياب أي ثقافة علمية الذي عزاه إلى غياب التربية العلمية.
ومشكلة المعرفة ليست جديدة، بالقياس إلى التخبط الحاصل في هوية من يشتغل بالبحث العلمي والأزمة العويصة التي يتخبط فيها العالم العربي. فالأمر لا يتعلق بنشر الأبحاث وإلقاء المحاضرات فحسب.
فالأزمة أعمق بكثير من ذلك وطريق الخلاص يمر لزاما بالبحث عن أي علم نريد وبأية مواصفات والوقوف على أعراض المرض المستشري بتوطين الوعي بمصداقية الحرية الشرط الأول نحو تعميق أبعاد الروح العلمية بين الشباب.
وأشار إلى ضرورة الانخراط الواعي في سيرورة التاريخ العلمية، بوصفها أنجع وسيلة يمتلكها الإنسان المعاصر للتعامل مع واقعه، وهو في هذا المنظور متشبث بمنظور كوني لبنية النظرية العلمية، ما دام أن الممارسة الصحيحة للعلم يجب أن تتم وفق المعايير الدولية الجاري بها العمل. إلا أن أولى الخطوات في رحلة الألف ميل تبدأ بحرية التعبير، فَدَيْدن العلم أن يجد تربة خصبة من الحرية تسمح له بالنمو، صوب مزيد من التقدم والكشف والمراجعة.
ولقد سبب غياب الحرية في العلم العربي فواجع كثيرة، أولها رحيل العديد من الباحثين الجامعيين عن أوطانهم تاركين البوم ينعق فيها، مفضلين اللجوء إلى الجامعات الغربية حيث حرية التعبير والكتابة مكفولة ولا أحد بوسعه الاعتراض عليها.
ولا غرو في أن يدعوا الباحث لتأمل الوضع كما هو عليه الحال في العالم العربي، لنخلص إلى غياب السياق الضروري والمؤهل للبحث العلمي، ناهيك عن وجود ميزانيات جد ضعيفة، لا تتيح للباحثين تمثل المعايير والمقاييس الدولية في أبحاثهم.
وفي هذا يمكن القول إذا كان من الناحية الواقعية الفعلية غياب وجود الشروط الموضوعية لبحث علمي يكمن في انعدام الحرية والتضييق على الباحثين، فهناك عدة مشاكل أخرى أهمها غياب السياق والشروط الذاتية التي تفرز بحثا علميا مسؤولا. فنحن ما زلنا لم نتجاوز آثارهما وما زلنا حبيسي النقل الميكانيكي للعلوم الذي من أبرز سماته تعثر حقل الترجمة وسقوطها في مستنقع التكرار والاجترار بعيدا كل البعد عن المساهمة ولو بمثقال في تغيير الوضع.
أما مداخلة خبير الفزياء الجزائري عبد الحق حمزة أستاذ الفيزياء في جامعة برينشويك الجديدة بكندا، فلقد تمحورت على العلاقة بين التربية والعلم، وكيف يتم صقل شخصية الأطفال منذ الصغر في التوجه نحو هذا الطريق أو ذاك. فانطلق من سرد قصة حياته الشخصية التي بدأها من حي جزائري صغير مذكرا بجهود والديه المضنية في تعليمه.
وعلى الرغم من أن عائلته كانت محافظة ومتمسكة بالتقاليد، فلقد كانت لهم رؤية جد متقدمة في تعليم أبنائهم، فلم يختاروا التعليم التقليدي ولا التعليم الحكومي، بل قررا تعليمه في مدارس مسيحية عند الآباء اليسوعيين في الستينات، حتى ينفتح عن قرب على ما يستجد في العالم ويتعلم اللغات الأجنبية، السبيل الذي أتاح له الانفتاح على آفاق أرحب وأوسع ومكنه من الحصول على أكبر فرصة ممكنة لشق طريقه في الحياة.
هذا عن تكافؤ الفرص، أما تعرضه لحيثيات المسار الذي انطلق منه، فلقد تعرض من خلاله لفهم عقليات مختلفة، منها العقلية الفرنسية وتركيبتها الذهنية، ثم بعد ذلك احتك بالشخصية الأمريكية في معهد ماساشوسيت الشهير. مما وضع قناعاته الشخصية على المحك وجعله متمهلا في أحكامه، لأن اقتحام أبواب الحقيقة ليس باليسير والهين وأن طرقه غير معبدة ولا واحدة أو وحيدة.
كل هذا دفعه لأن يعي حجم تضحيات والديه لتربيته تربية سليمة، تربية لا تقوم على معرفة أحادية الجانب، بل معرفة منفتحة تتيح له الاستفادة مما يعج به العقل البشري على اختلاف الحضارات والأديان والعقليات. وأن البحث عن التربية المؤهلة يبدأ بزرع البذرة وتركها تنمو بالرعاية والثقة في من يحمل تلك البذرة وأن يعود صاحبها على المسؤولية وتحملها.
وفي ختام مداخلته عرج على تجربته في أحد البلدان العربية بالخليج، بحيث قدم وصفا دقيقا لحالة البيروقراطية وثقل المساطر الإدارية المتبعة والانتظارية التي تطبع ميدان البحث العلمي. ابتداء من وصوله حيث وجد نفسه مجبرا على تسليم جواز سفره للسلطات المعنية، وكيف كان له أن يجتاز بصبر أيوب كل المراحل الضرورية لطلب إذن بالسفر للمشاركة في مؤتمر علمي أو ندوة علمية.
ثم عرج على ما هو عليه حال الشباب في هذه البلاد من تعطش وعدم عناية، فاعتبرهم بذرات تزرع في أرض صلدة، ما دام باب تكافؤ الفرص موصد أمامهم، وأنى لهم من حرية حتى يشقوا طريقهم في معترك الحياة...
بالمقابل ركزت المداخلة التي قام بها أستاذ فيزياء الجزائري الأصل غالب بن الشيخ، رئيس المؤتمر العالمي للأديان من أجل السلم على التذكير بحقائق تكشف عن دور العرب في حمل لواء المنهج العلمي طوال قرون، في الوقت الذي انحسرت فيه الحركة العلمية في أوروبا بعد أن أطبقت الظلمات عليه منذ أن منع الإمبراطور جوستنيان الفلسفة وحارب العلماء والمفكرين وحاول تدجينهم بالترهيب والترغيب.
فلقد شهدت العلوم نهضة كبرى لديهم وانتعشت الترجمات لأمهات الكتب اليونانية والهندية، فلقد ظهرت ترجمة كتاب " الأصول لأقليدس" أحد كبار كتب الهندسة قاطبة طوال قرونـ وتهيأت السبل بعد ذلك على يد إدرلاد الباثي الذي كان ملما بالعربية وترجمه من العربية إلى اللاتينية سنة 1120. هذا غيض من فيض عن القيمة الخطيرة التي نذر لها العرب جهدهم وأتت بثمارها، بحيث ترجموا وأضافوا ونقحوا وصححوا حتى تواترت إنجازات عديدة لديهم في الطب والجراحة والصيدلة... منه على سبيل الإشارة ابتكار أول نظام فلكي غير بلطمي في مرصد << مراغة>> الواقع حاليا في شمال إيران حتى يعتبر ابن الشاطر أول من مهد لظهور العالم الفذ كوبرنيكوس. وهو ما يعرفه إلا القليلون.
وبطبيعة الحال مادام إن العلم ظاهرة إنسانية تنمو وتتدفق في سياق الحضارة الإنسانية وبفعل الإنسان، فلقد شارك في هذا المسعى كل الأقوام التي كانت تعيش في البلدان العربية والإسلامية، ولا أدل على ذلك من الحضور الفاعل للعرب المسيحيين في بناء معالم هذه الحضارة، حين كانت لغة الضاد، لغة العالم العلمية.
فلا بد أن نراهن على الإنسان إذن، غير إن الأمر للأسف في العالم العربي والإسلامي يئن تحت وطأة ظروف خانقة في ظل غياب موارد وميزانيات كافية ومشجعة للبحث العلمي. ثم أشار الباحث من جديد لمشكلة الحرية من جديد واعتبر أن مأساة تدريس العلوم في العالم العربي تكمن أننا ندرس علوما في غياب الاطلاع على الظرف التاريخي الذي أنتجها والسياق التاريخي والاجتماعي الذي مهد لظهورها. فمباحث تاريخ العلم وفلسفات العلوم متروكة في الهامش ولا تدرس، إن لم يمارس عليها التعتيم، مما يضبب الرؤية لدى الشباب ولا يعرفون كنه النظريات العلمية ومقاصدها والفلسفة التي توجهها ونوع القيم التي تحبل بها.
و لا غرابة يشير الباحث ويا للمفارقة! أن العدد الكبير من جحافل الطلبة الذين كانوا مسجلين في الشعب العلمية، هم من وقعوا فريسة التعصب والعنف في العالم العربي والإسلامي، لأن ما كانوا يتلقونه مفصول عن التاريخ والمنطق والسياق والدروس والعبر الذي اكتوى به العقل البشري في تاريخه الطويل...
ويضرب مثلا عن نوع الدروس التي كانت تلقى آنذاك في الكليات العلمية في الجزائر، مما يمجه السمع ولا يقبله منطق:<< إن الخطان المستويان لا يلتقيان>> إلا إذا أراد الله تعالى ذلك!
إن من شأن هذا كله بناء شخصية مزدوجة ومنفصمة، لأنها لا تستطيع الربط ولا التمييز بين الأشياء في حقل دلالتها، ناهيك عن التوفيقية التلفيقية التي تعتبر أن النظريات الفيزيائية تسبح في ظلال القرآن، محولة إياه إلى مدونة للعلوم أو كتاب في الفيزياء أو الرؤية النقيضة التي تبحث بكل ما لديها من قوة وجهد لدحض حقائق القرآن الإيمانية بحقائق علمية.
وبين هذا وذاك فلا سبيل للخروج من هذا المسار المأزوم رؤية ومنهجا إلا بقطع الطريق عن الدجالين والمشعوذين وفتح المجال للعلم وربط هذا الأخير بسؤال المعنى معنى الوجود، فالمعرفة الدينية لم تخلق لمعرفة قوانين العالم وفك شفرة رموزه، بل ليعرف الإنسان بها الله. والأديان تأتي كمنهاج لمعرفة طريق الله.
والحكمة التي يحاول الباحث التنبيه لها، أنه لا طريق التقليد مسعف لبلوغ شاطئ النجاة ولا العلموية قادرة أن تسد جميع منافذ القلق والتوتر الذي نعاني منه.
وفي الجلسة الختامية، تم معاينة نوع السياسات والبرامج العلمية التي يمكن سنها للخروج من النفق المسدود، لذلك كان من الطبيعي أن يسمح للخبراء ورجال القرار أن يدلوا بدلوهم في هذا الباب، وذلك من باب معاينتهم الميدانية لما يجري.
ولقد استهل مستشار رئيس معهد العالم العربي الخبير نيكولا جون بريهون منسق المحور الأخير بالتذكير بالمراحل التي قطعها البحث العلمي والجدال الذي عرفته قضية الربط بين العلم والوجود منذ عصر النهضة الأوروبية. وبعد ذلك تناول الكلمة الأستاذ جاك فوتييه وزير سابق للتذكير بما اسماه بثورة الكبرياء التي قامت على الرياضيات منذ القرن السابع عشر حتى أصبح من المألوف لدينا الكلام عن التخطيط العلمي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي والتربوي، وكلها مجالات أصبحت توجه بطريقة علمية منظمة، وكل نجاح يحرزه أي تخطيط إنما هو نجاح للنظرة العلمية التي وراءه. فمنذ الثورة العلمية التي أرساها عصر التنوير أصبحت جميع ميادين المجتمعات الحديثة تخضع للتنظيم العلمي المنضبط والدقيق.
فلا مجال للارتجالية والاعتباطية والتلقائية والعشوائية في عالم الألفية الثالثة. ومن اليوم بإمكانه الدفاع عن عدم اعتماد الأسلوب العلمي في معالجة الأمور محتال أو غبي.
وذكر بأن طريق العلم تأرجح دائما منذ جاكوبي (1832) وجوزيف فوريي بين المصلحة العامة ورد الاعتبار للعقل الإنساني، فمن سمات هذا العقل أنه ينجز التراكم المبني على التطوير والابتكار وتصحيح العثرات. غير إن البعض يفسر ذلك بقصور العلم، مما يدفع البعض لاتهام العلم والمعرفة العلمية بالقصور والضعف. وهو بذلك غير مدرك لسمة أساسية من سمات العلم أن العلم متحرك وغير ثابت، وهذه الحركة الدؤوبة يجب فهما أنها دلالة قوة وتجدد لا دلالة ضعف وقصور.
والذي يعنينا من هذا كله أن التنظيم القائم على المعرفة العلمية والتفكير العلمي القائم على التنظيم يتيحان أفضل تخطيط في هذا العالم المليء بالتشابك والتعقيد. ففكرة النظام والتنظيم هما أبرز إرث استخلصه الإنسان من المعرفة العلمية لتطويع هذا العالم والتحكم فيه. إذ اقترنت هذه الغاية بمعرفته وسبر أغواره والتحكم فيه، فالعلم منذ فيتاغورس غير منفصل عن هذا العالم حتى في أشد نظرياته تعقيدا، لدرجة أن هذا العالِم كان يود أن يفكر في العالَم ويستنطقه من منطلقات رياضية وحسابية بحتة.
ومن هذا الأساس توالت الجهود لتزويد الجنس البشري بأصناف من العلوم، توخى بها الإنسان السيطرة على الطبيعة وترويضها بالشكل الذي يخدم مصلحته.
بعد ذلك تناول أستاذ الرياضيات جورج حداد رئيس جامعة السوربون بانتيون السابق ورئيس رؤساء الجامعات الفرنسية ومدير قسم التعليم العالي بمنظمة اليونسكو حاليا، بالتحليل حقيقة أن تحدي العلم اليوم هو نفس التحديات المرتبطة بقضايا الحوار بين الحضارات والشعوب. فتاريخ العلم وتطوره منذ ديكارت وباسكال مقترن بالحوار الذي أتاح الفصل بين سائر العلوم وتخصصها الدقيق، بحيث انتقلنا من المعرفة الموسوعية إلى المعرفة المتخصصة والدقيقة. ولم يتأتى بلوغ ذلك من دون جهد وأعاصير.
وتظل أحد الفتوحات الكبرى في العلم تأسيس علم الجبر الذي ما يزال يحتفظ باسمه العربي كعلم مستوفي أحكامه وأدواته ومنهجه من التربة العربية، بحيث تم وضعه من طرف محمد بن موسى الخوارزمي قبل أن يخلفه عمر الخيام الذي جمع بين الشعر والرياضيات واستطاع أن يقدم حلا لعدة معادلات رياضية كانت جد مستعصية على الذهن البشري.
ومن المؤكد اليوم أن السؤال المطروح بحدة لماذا استثني العالم العربي والإسلامي من حظيرة العلم بعد أن كان من أحد رواده؟ والأهم من هذا كله كيف يمكن للعالم العربي والإسلامي أن يعيد بناء صرحه العلمي وذاته علميا في علاقة وطيدة مع ثقافتة. إذ يطرح الباحث نموذج الشعوب المحسوبة على الحضارات الشرقية، بخاصة منها الهند الذي فكت أغلال التخلف العلمي وبقيت وفية لثقافاتها المحلية، وتعتبر الهند اليوم من الرواد في المساهمة العلمية في العالم، بحيث تعتبر هي والصين العملاقين المقبلين من دون شك. وهو ما يطرح بالنسبة له مد الجسور بين العالم العربي وبين العوالم والحضارات القريبة منه لمزيد من التفاعل البناء.
و لا طريق أمام العرب إلا باعتماد طريق التربية الحديثة والمراهنة على الموارد البشرية وتكتل الجهود وتوحيدها، بحيث ضرب المثل بإعلان بولوني بإيطاليا (1998-1999) الذي حاول منه وزراء التعليم في كل من فرنسا وإيطاليا وألمانيا سن برنامج موحد حظي بالعديد من الاهتمام وامتد تأثيره اليوم إلى قرابة 47 دولة أغلبها من آسيا استطاعت أن تستفيد الشيئ الكثير من أوروبا عبر الشراكة العلمية.
أما الأستاذ رشيد بنمختار رئيس جامعة الأخوين بالمغرب، فقد اعتبر امتلاك ناصية العلم الرهان الكفيل بإخراجنا من مستنقع ما نتخبط فيه منذ سنين. وعرج في معرض حديثه أن العالم العربي ليس كتلة متجانسة ولا يمكن اعتماد معايير موحدة في هذا المجال، فالمشرق مشرق والمغرب مغرب وشتان بينهما، فهما اليوم برزخان لا يلتقيان...
وبتقديمه لإطلالة وجيزة ومحكمة الدلالات عن دور العلم اليوم في العولمة، اعتبره بمثابة الرهان الاستراتيجي الذي لا يمكن القفز عليه لتحقيق التنمية وإطلاق روح الانبعاث والمبادرة من جديد. وفي هذا الصدد أكد أن ذلك يتم أولا من خلال التفكير في واقع كل بلد عربي على حدة ومن منطلق حاجياته، ولو أن الإرث ثقيل والأعباء جسيمة ومشاكل الاندماج في العالم الحديث غير هينة وليست هي بالسهلة.