وقد ذهب إلى القول بأن المعيقات أشد بأسا، هي تلك الشوائب الثقافية التي علقت بذهنيتنا وأفرزت عدم الاهتمام أو قل قتلت الرغبة في حب الاستطلاع والنقد والشك... وحل محلها الجمود والتلقين والوثوقية والتعصب الجموح لها... والمشكلة هنا في نظره تربوية بالأساس، بحيث يلاحظ على المستوى الاجتماعي أن الطبقة التي يمكن أن نضع على عاتقها إنجاز ثقافة المبادرة والحرية والجرءة والمسؤولية، غير موجودة عندنا. بل هي مكبلة حتى النخاع بثقافة محافظة وبالية، فالطبقة البرجوازية المتوسطة في العالم العربي لا تمتلك نهائيا مواصفات نظيرتها الغربية، فهي على العكس من ذلك تماما محافظة وتقليدية، كل همها الحفاظ على مصالحها وإن تعارضت مع مصالح أوطانها. فالاستهلاك هو يافطتها المحببة وأما الابتكار أو المساهمة ففي خبر كان، مما يجعل من الصعوبة بمكان ردم الفجوة.
وقدم الباحث رؤية استشرافية طالب بموجبها الباحثون العرب بالجامعات الأجنبية الانخراط بكل جدية في جبر هذه الهوة السحيقة التي تفصل العالم العربي عن العالم المتقدم قبل أن تستحيل طوفانا يجرف كل ما حوله. مؤكدا أن العرب حاضرون كأفراد في العديد من المؤسسات الجامعية المرموقة، وإن كانت المؤسسات الوطنية ما زالت ضعيفة وإمكاناتها صغيرة. لكنه عبر بكل تفاؤل عن تجاوز هذه المعيقات بتكوين شبكات عبر الإنترنت تمكن العلماء والباحثين العرب من الانخراط في مقاربة كونية للعلوم، أملا في ردم الهوة السحيقة التي تفصلنا عن العالم المتقدم.
وكمسك الختام جاءت مداخلة الأستاذ سيف علي الحجري نائب رئيس مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع؛ بعرض مواصفات المدينة العلمية بالدوحة، أو بالأحرى" مدينة للعرفان " تحمل مواصفات ومقاييس وتعتمد معايير دولية وأنظمة جد متطورة، لا يجادل فيها اثنان. الغاية منها إحداث نقلة نوعية في ميدان التعليم في قطر مع مراعاة احترام الخصوصية الثقافية وهوية البلد الإسلامية.
مشددا على استقلالية مؤسسة المدينة العلمية المادية والاعتبارية، لأنها تعتمد على صندوق مالي وطني ثابت لها، علاوة أنها مؤسسة غير حكومية ولا تخضع لقوانين الدولة. والتي تسعى لتحقيق نموذج مدينة كبرى للتعليم والمعرفة(على مساحة 10 م.م. مربع)، بتوظيف أحدث طرز المباني الحديثة المشبعة بالتكنولوجيا المعاصرة، تؤسس لمشروع أكبر مدينة علمية عالمية للفكر والمعرفة. تحتوي على متاحف وحضانة وثانوية وكليات ومراكز أبحاث ومركز لتربية الخيول العربية الأصيلة وكلية لدراسة الحضارة الإسلامية ومركب جامعي استشفائي رصد له مبلغ 8( مليار دولار).
غاية هذه المدينة العلمية أن تحيط بجميع مراحل التعليم، بدءا من التعليم الأساسي وصولا إلى التعليم الجامعي ، وأن تستقطب لمشروعها أهم الجامعات والمؤسات العالمية ( كورنيل، تكساس، جورج تاون...) والمعاهد الدولية ( كمؤسسة الراند الشهيرة، و تضم عدة مختبرات للتفكير والرصد مختصة في الدراسات الاستراتيجية والمخابراتية والبحوث الأمنية والعسكرية)، لتشمل في هذا الإطار برامج الجامعات المصنفة العشر الأوائل في العالم. إذ يتم اعتماد برامجها الدراسية وشهاداتها وبحثها العلمي على يدي أساتذتها مباشرة.
وشدد على أن المحادثات مازالت مستمرة مع الجانب الفرنسي والبريطاني لكي تفتح جامعاتهما فروعا هناك، مذكرا بقرب افتتاح مركز علمي فرنسي قريبا في إطار هذه المدينة العلمية، كما لم يغب عن الأستاذ الحجري أن يذكر أن الكليات الخمس (حاليا) في علاقة وطيدة مع كبار الشركات العالمية ( شال،توتال..)، بحيث يتم تدريس عدة اختصاصات علمية كالهندسة البترولية والتقنيات الإحيائية وعلوم الاتصال، بحيث يحذوها الهدف إنشاء منظومة متكاملة من المعارف تستقطب جميع الطلاب من العالم( حوالي36 جنسية حاليا)، غايتها ربط ومد الجسور بين الشعوب عبر المعرفة، تشارك فيه صفوة من أشهر الجامعات الدولية.
ولم يغفل د. سيف علي الحجري التذكير بأن غاية "مدينة العرفان الجديدة" هي إعداد كوادر مختصين في مخاطبة الغرب ومحاورته، يتم اختيارهم من صفوة الطلبة...
* مركز تاريخ أنظمة الفكر المعاصر، جامعة السوربون