تأمل الحكمة في خلق النار على ما هي عليه من الكمون والظهور ، فإنها لو كانت ظاهرة أبداً كا لماء والهواء كانت تحرق العالم وتنتشر ويعظم الضرر بها والمفسدة ، ولو كانت كامنة لا تظهر أبداً لفاتت المصالح المترتبة على وجودها فاقتضت حكمة العزيز العليم أن جعلها مخزونة في الأجسام يخرجها ويبقيها الرجل عند حاجته إليها فيُمسكها ويحبسها بمادة يجعلها فيها من الحطب ونحوه ، فلا يزال حابسها ما احتاج إلى بقائها فإذا استغنى عنها وترك حبسها بالمادة خبت بإذن ربها وفاطرها فسقطت المؤنة والمضرة ببقائها .
ثم تأمل حكمته تعالى في كونه خص بها الإنسان دون غيره من الحيوانات فلا حاجة بالحيوان إليها بخلاف الإنسان فإنه لو فقدها لعظم الداخل عليه في معاشه ومصالحه وغيره من الحيوانات لا يستعملها ولا يتمتع بها.
ثم انظر إلى ذلك النور المحمول في ذبالة المصباح على صغر جوهره كيف يُضئ ما حولك كله فترى به القريب والبعيد .
وأما منافع النار في إنضاج الأطعمة والأدوية وتجفيف ما لا ينتفع إلا بجفافه وتحليل ما لا ينتفع إلا بتحليله وعقد ما لاينتفع إلا بعقده وتركيبه فأكثر من أن يُحصى . من كتاب : مفتاح دار السعادة ـ تأليف ابن قيم الجوزيه