بسم الله الرحمن الرحيم
(( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله .. آية 21 الحشر ))
(( انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون .. آية 9 الحجر ))
أنا الطارق ...فالينا
بقلم : محمد يوسف جبارين ( ابوسامح)..أم الفحم..فلسطين
قد كان الأعرابي ، في خيمته يحاول ، أن يجد في كيانه العقلي وجها للمقارنة ، بين هذه النجوم التي تتلألأ زينة في صدر السماء ، وبين هذه المصابيح التي تبدد ظلام الليل في خيمته .
وكانت الدراية بحركات النجوم ، والاحاطة بمواقعها ركيزة علمية ، يستند عليها في تحديد مسالكه في الأرض . كان الوعي بها معينا له ، يحول بينه وبين التيه وفقدان السبل . ولقد كانت الأرزاق ، في أغلب الأحوال ، موصولة باتصال الانسان بالمكان ، لذلك اتصل تكوين الفكرة عن النجوم ، ومواقعها وحركاتها ، بتمكين الذات الانسانية من لقمة عيشها ، من ذات وجودها .
ومضت صلة الفكر بالنجوم ، وتحت تأثير الحاجة وضغطها ، توالدت في الذهن قوة تضغط عليه ، تنزع به في اتجاه الجمع بين الأسباب ، فلعله من ذلك تنشأ وسائط للفكر ، تكون عيونا ومعينا له ،على مضاعفة قدرته ، في جمع مشاهداته التي يأمل أن يفرز منها فهما ، يغذي به أسباب الحياة ، ويروي العقل قدرة ، في تعقلاته وتأملاته .
وهكذا كان العقل مدفوعا دفعا ذاتيا ، نحو ما تقع عليه عيناه . فمشروع الفكر ، في محاولاته ، للكشف عن غوامض الكون وأسراره ، راح في الحياة مهمة العقل .
لكن الفهم مهمة اقترنت بالفكر وبالزمان ، وتواصل البحث ، عن حقائق الكون واتصل ، وراح في الأجيال المتعاقبة منهجا علميا ، يتداركه ويواكبه العلماء .
ان القرآن الكريم ، قد جمع بين آياته أيات كريمة ، تمس حقائق الكون ، ولا تفصلها تفصيلا ، وهي في حكم علوم الكون ، والفيزياء الفلكية محاور ، تدور حولها اتجاهات من الفكر ، في هذه العلوم .
ان الله تعالى ذكره ، جعل العقل في الانسان ملكة للمعرفة ، وأداة للمعرفة اليقينية .
ومع نظرات العقل ، في الكون نمضي ، فقد أصبح البحث العلمي ، ضرورة تقدم وتطور ، وضرورة تفرضها حقيقة الايمان بالله ، ذلك لأنه هو الله تعالى ذكره يقول : (( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق .. آية 20 العنكبوت . قل انظروا ماذا في السموات والأرض .. آية 101 يونس . أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء ..آية 185. الأعراف . أفلم ينظروا الى السماء فوقهم كيف بنيناها و زيناها وما لها من فروج .. آية 6 ق )) .
وهل بغير سير النشاط الذهني ، في اتجاه الكون ، يمكن لهذا الكون ، أن يفصح عن أسراره . هل تراه فينا ملكة للمعرفة غير العقل ، يمكن لنا بها أن ننظر ونتبصر حقائق الأشياء ، في ملكوت السموات والأرض . أو كان ممكنا أن يفصح الكون عن ذاته ، من دون أن يكون تكوينه ، على ما يجعل العقل قادرا على فك أسرار تكوينه . أو كان تمكن العقل ممكنا ، من دون أن يكون تكوينه كائنا لذلك . وهل ترانا نتجاوز حدودنا ، لو قلنا أن ذات القدرة الالهية ، قدرت قدرة العقل ، على ما يجعل افصاح ذات الكون عن أسراره ، منسجما مع فاعلية هذه القدرة ، في اتجاه كشف هذه الاسرار . وهل تراها حقائق الكون جاءت ، في القرآن الكريم ، ابتغاء لوجودها ، أم تراه لهذا الوجود مهمة ، هي ترسيخ الايمان ، في ذات الانسان في هذه الدنيا .. أقول الاجابة كامنة هناك ، في حتمية النظر، في ملكوت السموات والارض ، فما يملك العقل البشري ، أن ينفك من البحث والتنقيب ، وهناك في وعد الخالق للمخلوق ، (( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد .. آية 53 فصلت . خلق الانسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون .. آية 37 الأنبياء )) ، فما كان لطلاقة القدرة الالهية ، الا أن تتجلى أمام الخلق ، وأن يكون من الناس ، من اصطفاه الله ، في البحث العلمي وبلوغ هذا البحث الى مداه ، لتتجلى أمامه ، في القرآن الزاما ، لمخلوق يأتي سوف يدريها .
لقد جعل المحيط بكل شيء علما قدرة العقل تمتد وتتسع ، تشمل تفصيل الآيات . ولكي تكون لها عملية اكتساب العلم والمعرفة طريقا ، تسير فيه نحو التصديق بأن الآيات الكريمة ، ما كان لها أن تكون من ذات قدرة بشرية ، وانما هي ، من ذات القدرة الالهية التي قدرت كل شيء ، فأحسنت تقديره ، وما كان اختراق القرآن لحاجز الزمان وتقريره لحقائق الكون ، ثم توكيده على أن تفصيلها ، سوف ينكشف لعقل آت ، الا دليل علم بغيب ، لا يملك أن يعلمه ، الا خالق محيط بخلقه ، وهي لذلك الآيات الكريمة ، جاءت تشهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وكذلك الآيات جاءت تشهد ، ضد الذين اعترضوا طريق دعوة الحق في الأرض .
ان اكتساب عقل الانسان علما ومعرفة ، بتفصيل الآيات ، اتمام لوعد كان حقا على الرحمن نفاذه ، (( يفصل الآيات لقوم يعلمون .. آية 5 يونس . نفصل الآيات لقوم يتفكرون .. آية 24 يونس )) .
تكوين الكائنات والأنظمة كلها ، في الكون ، يدلنا على أنه ما من كائن أو نظام ، الا وتفصيله قائم في ذاته . لذلك العقل اذا ما احتوى تفاصيل التكوين وأدركها ، كانت له ملكا ، يملك أن يضعها في أوعية ،هي الكلمات والسطور ، وحفظا في كتاب ، هو ما نطلق عليه اسم كتاب الطبيعة . وكأني بالعقل واقع بين كتابين ، الطبيعة ، والثاني كتاب الطبيعة ، وهو ما يملك الانسان أن يسطره بالقلم ، ولذلك تأتي المعاني في السطور ، تشهد للانسان بالقدرة على المشاهدة والقياس والفهم والتوليف والابداع فيه ، فكأنه الاضافة التي لا تكون بغير مكونات خلق قائمة أصلا ، ومهيأة له لتمكينه من استواء على بديع فعل يضيف ، وتشهد للخالق بالقدرة على الخلق ، وما يستوي الخالق والمخلوق ، (( أفمن يخلق كمن يخلق أفلا تذكرون .. آية 17 النحل )) . وكأنها المعاني التي في السطور، تعقد في الذهن البشري مقارنة ، بين قدرة الخالق، وبين قدرة المخلوق . وكأنها علوم الطبيعة ، تذكير دائم للباحث عن أسرار الطبيعة ، والقارىء في قدرة الخالق ، الذي هو بكل شيء محيط . وكان حقا على المقدور ، أن ينزع بكل قدرته ، نحو قدرة قدرته فأحسنت تقديره .
تلك آيات الذكر الحكيم ، التي أخذت دورها ، في نقل العقلية العلمية الواعية . وكان الله تعالى ذكره يقول : (( وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فتخبت له قلوبهم وان الله لهاد الذين آمنوا الى صراط مستقيم .. آية 54 الحج )) .
وما اتجهت حركة الفكر نحو الحق ، الا وهي تلزم النفس بحكم العقل ، وما عاد له أن يكون مفتونا بذاته . ان هذه الفتنة شعلة الغرور والكبر ، التي تخرج المفتون عن الاجراء العلمي ، الذي كان قد تم له أصلا وأساسا ، على قاعدة من المنطق العلمي السليم .
ان آيات كريمة جاءت تمس حقائق الكون ، لن تحيد أبدا، عن أداء دورها ، في صلب النشاط الذهني ، عند ابن آدم . ولن يكف فيض الرحمة المتدفق منها ، عن توليد حركة انتقالية ، في قناعات الانسان ، ورؤيته للعالم من حوله ، رحمة بالانسان ، واثراء للفكر بفكر الخير ، واشباعا للفعل والقول بطاقات الخير . وكأن القرآن وهو يدفع بالذهن البشري ، نحو النظر في ملكوت السموات والأرض ، يرى العقل عائدا من هناك ، يتوج مدركاته ومعارفه العلمية ، بقرار عودته ، ليكون للقرآن وعاء ، من خلاله يرى الحياة ويعقلها ، ولا كان ذلك ، الا عقل تنزه عن الهوى والغرض ، وراحت في حركته الفكرية والوجودية ، حاكمية العقل تتصدر الأحكام كلها .
ان فوارق العصور ، وما فيها من فوارق في القدرة ، على تحصيل العلم بقوانين الطبيعة ، يجعل العقل يميل في ناحية الاستفسار ، عن الجانب الذي منه جاءت ، هذه الحقائق العلمية كلها ، في القرآن الكريم ، ويأتي العقل عصر النبوة فلا يجد فيه ، ولا في زمان سابق عليه ، قدرة بشرية كان في حوزتها ، من الأجهزة والأدوات ، ما مكن لها من الاستدلال ، أو حتى الاقتراب ، بالتجربة العلمية ، من هذه الحقائق الكونية كلها .
وما استوى عقل ، أنار العلم طريقه الى الله ، وعقل حاد عن الحق وغوى ، (( أفمن يعلم انما أنزل اليك من ربك الحق كمن هو أعمى انما يتذكر أولوا الألباب .. آية 19 الرعد )) . ويسألونك عن لماذا الرحمن يفصل الآيات ، قل: (( يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون .. آية 2 الرعد )) .
ان العقل ، وهو يسجل خواطره ، عن آيات علم الفلك في القرآن الكريم ، انما يتذكر وسائطه وعيونه ، التي منها يطل على الكون ، ومن خلالها يثري معارفه ويزيد فيها .
ان ضوءا يأتي ، ويطرق أبواب العيون ، ويأتي حاملا للعقل معلومات ، عن تلك الأجسام التي منها جاء اليه ، انما يعين العقل ، في تمييز هذه الأجسام وادراكها . اننا لذلك نقول ، ان عين الانسان ترى النجم ، اذا جاء من النجم ضوء اليها طارقا بابها . فكأن ضوء الطارق وسيلته ، في الكشف عن ذاته أمام عقل الانسان . لكننا مع ذلك نجد العقل يدلنا ، على أن عقل الانسان ، تجاوز العين وابتكر عيونا ، هي بمثابة أجهزة وأدوات . وهي أشبة ما تكون بالأبواب الخارجية للعقل ، وتفيده في رصد واستقبال وتحليل هذا الضوء ، وهذه الأشعة الوافدة اليه من الفضاء الخارجي .
ويكون بذلك العقل قد ملك الوسيلة ، الى ما لا تملك عين الانسان ، أن تراه من نجوم . ويكون بذلك العقل ، قد شق طريقه ، نحو ادراك خصائص النجوم وتحديد مواقعها . وسوف يبقى خارج حدود المعرفة ، كل نجم لا يأتي بشيء من ذاته ، يطرق به عقول الناس . وسوف يدخل في حدود العقل ، كل نجم يأتي بضوء من ذاته ، يطرق به أبواب عقل الانسان ، ويدق عليها وينادي العقل .. يقول له .. أنا الطارق ..فالينا .. وينهض العقل من سباته .. فاذا هو طارق من السماء ، جاء يطرق أبوابه ، يود لو يكون مدركا من مدركاته ، وداخلا في حدود أفهامه ، وينظر العقل ، فاذا هو الطارق ، نجم يتوقد في السماء . . عندها جال في حناياه قول الرحمن : ((والسماء والطارق (1) وما أدراك ما الطارق (2) النجم الثاقب (3) ... سورة الطارق )) .
وبالطرق يعلم العقل بوجود طارق . ولا يكون طرق ، الا بأداة يطرق بها الطارق أبواب من جاء اليه طارقا . والطارق لا يطرق ، الا بما ملك . وأداة الطارق ضوؤه ، فجاء الضوء الذي هو منه ليدل عليه .
هو الطارق لأن ضوءه ، يطرق طريقا ، تمتد بين ذاته التي في السماء ، وبين ذات المكان في الأرض ( أو خارجها ) ، الذي يأتي اليه فيطرقه ، بالذي هو من ذاته ، والطارق هو النجم الثاقب بالأشعة ، أو بالضوء الذي هو منه ، هذا الوسط الذي بينك وبينه ، فتلاحظه وتشاهده ، ثم تدركه .. انه بهذا الضوء ، قد جاء اليك ، ليدلك على ذاته . فكان فعل الطرق ، ضرورة امكان المعرفة العلمية ، بالطارق ذاته .
ان ضوء النجم رسالته ، التي فيها موقعه وملامحه ، وهي التي تأتي العقل ، لعله يعقلها فيعقله . ان ضوء النجم الثاقب ، يطرق ابواب العيون فتراه ، أو يطرق أجهزة الرصد ، فتكون للعقل مشاهدة ، ثم قياسا منه يستدل ، على هذا النجم ، الذي اليه جاء ، يحكي قصته .