ملتقى الفيزيائيين العرب - عرض مشاركة واحدة - يا [you]،، هل تريد تكون العضو المميز؟
عرض مشاركة واحدة
  #202  
قديم 05-08-2009, 02:56
الصورة الرمزية محمد يوسف جبارين
محمد يوسف جبارين
غير متواجد
فيزيائي نشط
 
تاريخ التسجيل: Jun 2009
الدولة: أم الفحم..فلسطين ...تحت الاحتلال الصهيوني
المشاركات: 51
افتراضي رد: يا [you]،، هل تريد تكون العضو المميز؟

شفاء

بقلم : محمد يوسف جبارين( ابوسامح )..أم الفحم ..فلسطين


شفاء سنديانة شبت في نضال وأروت ببذلها المكان نضالا . تعافت كلما بذلت جهدها، وغنت عتابا كلما زادها النضال شقاء. شربت الآمال من عيون نضال، وسكبت منها في المكان ألحانا. قالت ويدها تنزف دما ، لا كانت شفاء، ان لم تكن نضالا، ولا كان الدم ذا قيمة، اذا لم يكن للأوطان أسوار.
تلك الطائرة جاءت تقتلنها ، فهل نبوس على يديها شكرانا ، وهذه دبابات جاءت تحصدنا، فهل نرقص لها، ونغني عتابا، وهذه جرافات تمزق زرعنا، أفنبسط رموشنا لها بساطا، وهناك الأعراب والغفلة والتلفاز، والذبح فينا أشكالا وألوانا ، يفصفصون كل حكاية وقافية ، ويمرون على ذبحنا لماما .يتمرمرون وما بهم من نخوة، ولا كأن الشهامة ذاقت لهم دماء، كأن الدم العربي، لم يكن سعدا، ولا معاوية، ولا معتصما ولا ناصرا عربا . يمرون على موت أطفالنا كل يوم، وكأن الموت لن يطال منهم أحدا.
لقد قعد الموت للعرب في مفاصلهم، ولا ليقرأ السلام عليهم صبحا ومساءً، ولا ليترك ربيعا لهم في أرضهم ، لا ، فلا غير الخرائب مراتع وملاعب .
ذلك الموت ما جاء بغير ما به ، فلا سلامة لحمامة تقول سلاما .فاذا رفرف الحمام بجناحيه سلاما، تصيدته النار ومزقته أشلاء.. يا باحثا عن سلام الشجعان ابحث عن الشجاعة ، قبل أن تقول سلاما ، واحرص على نفسك من غدر، فبين حروف السلام ناب تنفث سما زعافا.
ما حط الجراد في زرع، كي يقيم مع الزرع سلاما، ولا القنابل حين تمزق بيتا تريد له بعد خرابه بناء، ولا الصواريخ وهي تمزق قلوبا تريد لها غير القبور مكانا، ولا الجرافة وهي تحصد الأشجار بأسنانها تريد لها بعد اليبس أن تعود طعاما.
ولا من أشبع رغيف الخبز رصاصا، يضيف اليه سمسما ونعناعا ، ولا من أرغم النساء أن يلدن على الحاجز يريد لهن غير المذلة وساما .ولا من استوطن أرضا بعد تشريده أهلها، يريد لهم أن يعودوا لها سكانا.
تمزقت قنينة الحليب ، وامتلأ فم الطفل بعد الحليب ترابا، وأسموا الطفل ارهابيا، والقنينة ارهابية، وشرب الحليب ارهابا . وزرعوا من الرصاصات عشرين في صدر ايمان ، وأسموا حقيبة المدرسة حزاما ناسفا ، ومشي الطفلة الى المدرسة ارهابا.
سل عن شفاء ، تجدها في مفاصل التاريخ عزا وكرامة ، تجيد رسم التاريخ ، وتعرف كيف من الجفاف تصنع ماء ، ومن الجوع خبزا ، ومن الحصار صلابة تئد به الحصار.
وتعرف كيف بدمها تخيط نضالا ، وكيف بأحزانها تؤثث للواقع آمالا، تشرب الحزن ويهيج الفكر به، ثم تسكبه في الارادة وقدا وهاجا ، كفرقد طارق ثاقب يطرق طريقه في الظلام ويصل أيان شاء.
شفاء ما رف لها جفن من وجل ، ولا ناخت لأحزان .. في مآقيها السواقي ، ومواقد نار وبين الشفتين آهات تحدث بما في الصدر من غليان، وثابة النخوة تباريها دمعتها الى جرح والهمة تسبقها الى وفاء . كلما نزف لها جرح ، وقعد اليأس عند الأقدام ، تقيم للأمل عرسا ، وتغني عتابا ومواويل . وعند ذكرها كل شهيد ، فكأن الجرح واليأس جاءا يزرعا آمالا فهي ساقية الأمل، ترى وهي مثقلة بالقيود امكان فعل محفوف بمخاطر ، يبذر أملا مطوقا بأغلال، ولا تنثني عن أن في الشدائد وعيا وحكمة ، بهما يعرف الضعيف منابت قوته ، وكيف يقيم موقفا وقوة، يقلق لهما الأقوياء . وتحس بأنها فاصلة في التاريخ ، فما تفعله الآن يؤثر في مقدرة الأبناء غدا ، ففكرها منصب على اشتقاق قواعد الزمان القادم ، فعندها مسؤولية تاريخية ، فلا محل للتلقائية.. فما كان، يكون الآن، وما هو كائن يكون غدا، هو بعينه ركود، واضافة تتجدد في تضييع ما تبقى حتى الآن ، ففي قناعاتها بأنها ابنة أمة ، هي خير أمة أخرجت للناس ، لكنها تنظر في مئات السنين ، فترى بأن الحكم لم يتجاوز حكم العائلات ، وبأن الأمية التي جرت قرونا من الزمان ، استقرت على ما هيىء للأقوياء ، أن يأتوا ويسلبوا هذه الأمة ، كل خير وكل شرف ويدوسوا على كل كرامة.
انها ترى الشقاء الذي تشقى ، نتاج تاريخ .. من فراغ في علوم الطبيعة ، وفراغ في القوة ، ما جعل الضعف خصوصية هذه المنطقة ، في مقابل قوة لا تقيم احتراما ، ولا قيمة ولا وزنا لهذه الأمة ، فتعبث بها وكأنها مائدة طعام ، فهكذا هي شفاء فكر من نضال يجوب الزمان والأحداث ، تفتش في الأسباب وتعزو الحدث الى أسبابه وتفهم ، لا تترك نأمة ولا همسة الا وتكورها ، وتنقب فيها ، تتأمل كل شيء ، وتشرب من أحزانه ، فحزن الحدث، بعض انتماء وفهم.
وعند كل خراب ينزل في الديار، تغمغم، أواه منك يا زمان، أصبحت اللبؤة فيه بلا أنياب، وحين تكون في موكب شهيد أو في المقبرة تجمجم أواه منك يا ضعف ، فأنت فرصة القاتل الى قتلي؟ فأحداث المكان ملء وعيها، فانتماؤها جعلها خلاصة الحال. فحال المكان في حالها، وحالها في حاله، فهيبتها هيبته، ولغتها لغته، فأي تحول يحل في الحال ، يحل في تعابيرها فهي مرآة حاله.
فأمطار الدماء التي هطلت من شرايين الأكباد ، اشعلت الحريق في أحشائها، ومشت رعدا في فرائصها، وتكلمت عن نفسها بتعابير وجهها، وبوقع خطاها، وبتهدج صوتها ، حين تكلمها وقد احمر بياض عينيها، وجفف الحزن الماء من شفتيها، فبدتا كسربين من قبور لما شاع بهما من شقوق، فكل شق باسط ذراعيه سائلا عن نضال.
وكذلك شفاه المكان ، فعليها الوجع ينطق بأن نضال استخلاص شفاء بنفي وجع ، فجملة النضال استنبات جملة الشفاء بنفي جملة الوجع.
واذا المكان ينزف، ورموش الكرامة دامعة، ونبضات العزة متيقظة، فشفاء ماطرة بالكرامة والدموع ، فسرعان ما يجلو البكاء يعاينه ويفصح عنها، بايماءات تعبيرية بارعة الدلالة، فهو بكاء مستنير ومتمرد، وبه انارة لسير تاريخ ، فهو يؤثث لمنهج يمشي عليه نضال الى شفاء، فثمة ثورة تتكلم باسمها دمعة ، أي أن دموع شفاء حين تتكلم، فكلامها جمال مستغرف من جمال بكاء راشد، يرشد الارادة الى نضال، وكأن دمعتها رسالة حرة مخطوطة بدماء ثورة ، فهي تستسقي الأمل وتسقيه ، تؤمل وهي حزينة ، وتبطن عاصفة اذا عضها جرح، وتحس الجرح، وتقرأ في حسها، وتقول: لو أن اسباب الجرح تعود الى الغريب لناديت يا عروبة، ذاك الغريب ينال مني لكن العروبة في سبات، وعلى رؤوسها غربان، تملأ كرسيها من أنفاس الغريب، فالى زنودي اشدد ركاب عقلي، فهي عضلات جلدي وأسواري، وبها يستيقظ النيام من نومهم، ويخرج الغافل من النعاس .
وتدور بعينيها في المكان، وتقول في نفسها، أما عرف العرب بأن التراب وديعة الاستمرار في الأرض؟! ، ثم تحدق في الحجارة اذ تراها شاخصة اليها، فتقرأ في وجومها حزنا يكلم حزنها ، وتملأ رئتيها من الهواء، فتحسه يكلمها، فتعرف بأن به زعلاً على من ماتوا، وكانوا يمدونه بقيمته، وتفهم بأنه يتمنى لو أن به اختيارًا، فما كان يدع غرباء يركبونه ليتصيدوا أبناء المكان، واذ هي على هذا الحال، تتنبه الى نداء من كل جماد ونبات يودع في وعيها، بأنه مخلوق لها ، فهو جمالها الذي عليها أن تحرسه بجمال أفعالها.
ويتداخل النداء، بنداء آخر تفوح منه رائحة عطر ، تنم على عبق الشهداء ، وتتذكر شفاء الذين ثووا الى داخل التراب، وتفطن لأول مرة بأن القبر قلب الحياة ، فهو النابض بها، ولولاه لكانت الحياة بشكل آخر، غير هذا الذي تعرفه الآن. فالقبر اذا هو حضن دافىء يغرب كابوس الاحتلال، ويتنفس المكان أنفاس العافية، التي غابت عنه منذ بدء الاحتلال.
وها هي القبور حركة وعي ، في داخل حرية متحركة في حياة المكان. وحركة الوعي هذه مضافة في تفكيك أغلال الحياة ، فالمقبرة جذور الحياة النابتة في البقاء، والناطقة بأن الشهداء أقوى الأعمدة لبيوت الكرامة في الحياة.
ولأن الحياة بعمق هذا الرحم في البقاء، ولأن الديمومة بكرامة في المكان، لها عقل وقلب ورحم مثل شفاء. ولأن الأحبة، وهم في قبورهم، لهم دورهم في اذكاء شعلة الحرية في الحياة . فلقد هجمت الصواريخ على كل ما له صلة بشفاء، ونزلت على الأحياء والأموات، وأنذرت من في القبور كوارث، اذا هم لم يخرجوا من الحياة .
ونزلت على الأسماء، أجساما كانت لها أو كانت بلا أجسام ، حسبوا بأنه بالقتل يكون فكاكهم من دوامة الأمن ، وما زادوها باراقة الدماء الا تأزما واستغلاقا ، فالحياة بها مناعة، ولا أشد منها قسوة على من سعوا بها خرابا ودمارا.
كان المكان ملاعب، دافئا قبل أن تجوسه أقدام الخراب، كان الضرع الذي شربت منه شفاء، قبل أن تغدو هادرة جائعة عطشى الى استعادة المكان كما كان.
تذوق الموت ، وفقط أن يعود . تجترع المصائب كلها وتستحلبها لبنات تعيد بها البناء.
وهذا كلامها، وسط الدمار، عندما كانت تنظر مشاهد الخيام التي كانت تمزقها من زمان.
لا عرب نأمن بهم على حياتنا، ولا القنابل تتوقف عن نزولها فوق رؤوسنا ولا مساكن نسكنها، ولا غطاء نتغطى به، ولا خبز نأكله، ولا ماء نشربه.. أخربوا بيوتنا على من كان فيها.. وخرجنا من تحت الأنقاض ، فبعضنا يتنفس الهواء، وبعضنا الآخر واريناهم التراب.. وهذه قنينة حليب، هناك انظروا اليها استمعوا لها فانها تسأل عن الطفلة التي كانت ترضع منها.. هل تعرفون أين الطفلة الآن ، انها تحت التراب ولم تكن وحدها.. أحرقوا قلوبنا.... وهذا نحن وهذا حالنا ، ورعاة القبائل العربية ، يشربون قهوة في داخل دبابة أمريكية في العراق. وهذا أنا شفاء الرحم التي سوف تملأ الأرض صبيانا وبنات. أنا من صنعت التاريخ وجعلت التتار فقاقيع صابون يمتصها الهواء. أنا شفاء الضعف ، أعرف بأن أسرار القوة كامنة في الحجر ، فبها يجف كل حزن ، ويشفى كل جرح في كرامة أمتي ، وتعود أسراب الطير بعد تشريدها لتعانق ترابا، في عناقه يكون شفاؤها من فراق أليم جاوز النصف قرن.