ليلى
بقلم: محمد يوسف جبارين ( ابوسامح ) .. ام الفحم..فلسطين
ليلى دموع شعب يبكي ذاته ، التي باتت لحما مستباحا بأنياب جنون اللاوعي الذي أصاب بعض بنيه . تصيح يا قلب ، قد مزقتك بنادق ، كانت بالأمس مرفأ الأمان تلجأ اليها ، حين كنت تريد أن تغمض العين ، ومن شدة عناء تريد أن تستريح .
ما كانوا جند أحتلال ، وانما هم كانوا معك ، في مقاومة دبابات الاحتلال . حاصروك وأغرقوك بالنار وهدموا عليك بيتك . قتلوا أطفالك بقسوة حقد ، لم نشهد له أصلا ولا فصلا عندنا ، لكنها أشبه ما تكون بجرائم حزب الدعوة في بغداد. أيفعل البطل بمن كان بطلا سندا له ، وعلى أتم الاستعداد ، لأن يموت بدلا عنه ، ما تمناه دوما الاحتلال. هل السلطة تأخذ من البطل بطولته ، فيغدو من أجلها ناشطا في انتاج مشاهد لم تزل بين عينيه المشاهد التي شكلت مأساته .. تركوا الدبابات ، وقد كانوا في وجهها سدودا ، وجاؤوا بنار من سطوح المباني ، ومن تحتها ، ومن داخلها بعد احتلالها ، يريدون أن يقولوا لنا ، بأنهم أصبحوا بعينهم تلك الدبابات . كيف صلوا جماعة ، وكل واحد منهم يتفاخر بسفك دم ثائر من الثوار ، هل من سبيل الى معرفة قاتل ، وكيف أصبح الدفاع عن القاتل ماء وفاء.
أي أناس هؤلاء الذين يقتلون الناس ، واذا قال قائل بأنهم قتلوا ، أو وصف بالقلم ، بالفم ، تفصيلا ما فعلوا ، انهالوا عليه بالسباب .
كان آخر شيء يخطر على بال ليلى ، أن تجد نفسها وأسرتها ، في بيتها طعاما لنيران ، تطلقها جماعة ، من أبناء الوطن ، ممن كان أبوها على أختلاف معهم ، في كثير مما يتصل بسياسات ادارة الصراع ، كان يقول: هذا الوطن مثل البستان ، لا يزيده اختلاف أشجاره والورود فيه الا جمالا . لم ير بأن سما يتوارى بخضرة أعشاب ، وينتظر فرصته ليقتله . كان الأجدى له أن ينتظر في لبنان . يحلم هناك بالعودة.
كان الرصاص يغزو البيت من كل جانب . كانوا بالمئات ، وبكل جنون الرغبة في الذبح . لم تفلح نداءات أبي ولا أمي . مات أخوتي بشظايا قنابل ، وأمي حطت لها قذيفة في صدرها ، وأبي أجهزوا عليه بعد أن لاحظوا بأن به بعض رمق من حياة . لا أدري ماذا حصل لي .. في البدء حسبتهم المحتلين ، وسرعان ما عرفت ، فأصابني ذعر ، فأولئك سندي ، أبناء وطني . سقطت مغشيا علي ، وتبين فيما بعد أن أكثر من اصابة امتصت مني قدرتي ، على الحركة ، كنت أحوج ما أكون لها في ذلك الوقت . كانت ليلى تبكي بكاء ، لم يحصل أن رأيته في هيئة أحد من قبل . وقد أحسست ولأول مرة ، بأن صورة الوطن ، لم تعد هي التي كانت في سلامتها ، فمأساتها أخذتها الى مناطق من ليل بدأت تخشاها ، وتحس عميقا بأنها تشوه لها صورة وطن كان دوما يزهو لها . كانت دموعها تكوي مني كبدي ، تسيل ولسانها يشتعل فكرا، وهي تقول : أنا لا أبكي أهلي وحدهم ، بل أبكي حالنا ، فمشاهد الذبح هذه أراحت اسرائيل ، وأعطت ما تفعله ضدنا بعض مصداقية ، وأصبحنا أمام العالم بحال يستدر الاستخفاف والرثاء. كان حلم العودة يملك علينا حياتنا ، كان كل كلام أبي غزلا في تراب فلسطين ، حتى أن أمي قالت له مرة ، يا ليت أنك تحبني كما تحبها ، وكان يضحك ويقول : عندما نعود سوف نجعلها جنة ، ولما عدنا مع ياسر عرفات ، كان يقبل الأرض ويبكي . لم يكن يعرف بأن مصرعه سوف يكون بأيدي من بذل عمره من أجلهم . كان باديا بأن كل شيء بات يضج في داخل ليلى ، فثمة شيء ما من أبيها ، راح يصعد لها في داخلها ويعلو بها فوق أحزانها . سألتني وأنا معها في المقبرة ، هل تعرف لماذا أسمى أبي أختي شروق . كان يقول شروق تنزل الليل من كرسيه وتجلس النهار ، وكان يداعبها يا ربة النهار متى يزول الليل . فباشرتها بتساؤلات ، كان والدها يرددها ، أين هو الأمل الذي لم تتثاقل به الأنفاس . أين هو الحلم الذي لم تتفصده النار ، لتجعله أشلاء أشلاء . فطافت ببصرها في أرجاء المقبرة ، فكأنها تسلم على كل ساكن قبر فيها ، وتساءلت بأفصح وعي ، كيف يصح أن تكون حروف الثقافة والوعي أنيابا تنهش لحم المصير . كيف يمكن لحرية أن تطلق النار على حرية ، فاذا أطلقت النار ، فلا تكون هي ، فلا بد وأنها خلعت عنها معانيها ، ثم راحت ، وقد استحالت مفرغة ، من كونها حرية ، تطلق النار على معاني الحرية . فكيف اذا عادت من جنونها ، وأرادت أن تستعيد وجودها كحرية ، فهل حقا تكون حرية ، وماذا تفعل بذاكرة ذاتها ، التي تقول لها ، بأن على يديها دماء حرية. وماذا تفعل بازاء الذاكرة الجماعية التي تتحلق في سمائها مشاهد تنذر بالحذر . وهب بأنك شاهدت حرية تطلق النار على حرية ، فكيف تعرف بأنها حرية .. فمن تكون هي الحرية . هل تقول لنفسك بأن ما تراه صراعا على سلطة ، وبأنك أمام تراجع الحوار وتقدم النار . فثمة موقف يطلق مدافعه على آخر ، ليتراجع من أمامه ، فهذه عملية تركيع واخضاع ، وتأثيث لاستفراد واستبداد. فأين الشورى ، وأين هي الديمقراطية ، فالنار في حقيقتها تقصف الحوار ، وتقصف الديمقراطية . فكيف يتفاهم الناس بينهم . كيف يتفقون على طريق ، فاذا غاب الحوار ، فمن له رأي فليبتلعه ، أو قد تلتهمه النار ، فتزيد في مساحات المقابر ، بدلا من أن تزيد في مساحات العمران ، وتزيد في احتجاز مساحات من الأرض لسجون ومعتقلات ، بدلا عن مراكز الأبحاث والمصانع . فمن يذبح يمتلك .. يبدو بأن على عيد الأضحى ، أن يفتش عن العدل ، ويحاسب أناسا كثيرين ، فكل ما تعلموه منه ، أن يذبحوا ليأكلوا . فمن يذبح خروفا يسهل عليه أكله ، ومن يذبح ليطغى ، يقهر ويستبد ، ومن يذبح شعبا يسهل عليه استيطان جغرافيته ، فالذبح آلية استفراد وسيطرة ، وليست بحال آلية شورى أو ديمقراطية.
وأخذت من ليلى كلامها ، فهي على ماعرفته عنها، نبات الحرية في بلادي ، واستتبعته باضافة ، بعد أن لاحظت بأن مأساتها هيأت لها تراب الفكرة التي تستنبتها ، وقلت : فأول ما تستوطنه النار الكلمات ، ثم تتحرك بها البنادق ، ويجب أن ننتبه الى أن الثقافات تنشيء الجماعات ، وشيء رائع أن ينتظم المجتمع ، ولأمر طبيعي أن يأخذ الصراع الاجتماعي مجراه ، فيضج المجتمع بالحوار، ويتنامى الوعي الصحيح ، ولكن الخطر يأتي من ثقافة يتشكل بها وعي جماعة ، فكل من ليس معها فهو عدوها ، وليس فقط مختلفا معها وبينه وبينها حوار ، وتنزع الى حسم هذا الصراع لصالحها ، حتى ولو كان ذلك بأرخص ما يوجد في اللغة من كلمات .. قلة حياء ، اذ كيف يستطيع من يرى نفسه بطلا ، وتراه جماعته قائدا لها ، أن يصف بطلا حقيقيا ، بالتبعية والتآمر ، وما شابه من ألفاظ .. أما يكفي بطلا ، قبرا يتراءى له كل يوم بين عينيه ، حتى ينهض له ، من هو، من لحمه ودمه ليصنع له قبرا معنويا آخر في الحياة ، فهذه بذاءة من ظلام ثقافة ، واذا لم تجد من يوقفها عند حدها ، فهي في طريقها لتصير نارا ، كمساهمة منها في تدمير الذات .
وهنا اختطفت ليلى مني سياقي ، لم تدعني أكمل كلامي ، وبذكاء لماح ، وبلسان وضاح ، ارتفع صوتها ، يا أبتي ، لقد أكتشف ياسر لب الجريمة ، عرف القاتل الحقيقي . لم يكونوا بشرا الذين قتلوك يا أبت بل هي ثقافة . هكذا ياسر يرى ، فمن سواد هذه ، جاء خراب بيتنا ، وأصبحت يتيمة . ثم دمعت عيناها ، وبكت بكاء مرا ، أحالني بغمضة عين الى دامع الطرف الذي يتماسك ، وبرغمه يتنفس له حزنه بدموع تتندى من بين رموشه . ثم انخلع قلبي من مكانه ، فنشيج صدر ليلى ، وهي تشهق بالبكاء ، وتنتفض من ضربات الحزن في أرجاء نفسها ، قد سلبني صبري ، وبدأت أغلي ، وعلى غير ارادة مني ، دنوت من ليلى وطوقتها بذراعي ، وملت بها على صدري ، بحنان ما عرفته في نفسي من قبل ، وبرقة لم أتذوقها في حياتي ، وبحس واجب ، جمع لي الرجولة كلها دفعة واحدة في كياني .
فخالجني شعور بأن الحياة تنادينا ، فراودني المعنى الكامن في ثمار هذه الأشجار النابتة في المقبرة ، التي تتدلى ، ولا تمتد يد انسان اليها ، فلا بد وأن فيها اشارة ، الى شيء ما في الانسان يتحرك ، فيأبى عليه ، أن تمتد يده اليها ، ليأكلها ، فهي من تراب في حقيقته ، قد يكون بقايا أنسان . وتذكرت قول والد ليلى ، حين كنت معه نجمع أشلاء أخوة لنا في خلال التصدي للاحتلال .. كانت ملحمة ، ذهب فيها كثيرون ، فاذ ذاك ، قال لي عمي محمد ، والدموع تملأ عينيه ، أنظر يا ياسر ، الى هذه الأشلاء ، كانوا مختلفين في الحياة ، والآن سوف يلتقون في القبر . أيكون التلاقي في القبر ممكنا ، ولا يكون ممكنا في الحياة.. كيف ، أنحتاج الى عقل يعمل بالمقلوب لكي نفهم . فتراءى لي ياسر عرفات ، فكأنه أمامي ، بين عيني ، فأطل الوطن من داخلي يسألني ، أين أحلامنا ؟، وهاج بي عزم يقبض على الجمر ويلح ، لن نتركه يضيع .
وفجأة علت زقزقة عصافير ، من على أفنان شجرة دانية الثمار ، فكأنها جاءت تقول لحياة يشقها الأسى ، على من خرجوا من الحياة بالموت ، بأن ثمة أملا لا ينقطع بالموت .
وأذا بليلى تأخذ بجماع نفسها وتتمالك وتسألني ، لمن هذه الأطيار تغني ، يا ياسر ..تخيل وطنا بهذا الحال الذي نحن فيه ، اللاعقل يغني ، والعقل يبكي ، والآخرون موتى ، تحت التراب كانوا أو فوق التراب .
فأمتد بصري الى وجه ليلى ، وقد غسلته الدموع ، فبدا أجمل من ورد يبلله الندى ، فناولتها منديلا ، استخرجته من جيبي ، واستأذنتها ، أن هيا .. وما كدنا نبتعد خطوة أو أثنتين ، عن قبور الأسرة ، حتى قالت : أنا يا ياسر ، هو كل ما تبقى من الأسرة في الحياة ، أنا ترابها الوحيد الذي يمشي على قدمين ، فأرفقت قولها بقولي ..هذا التراب مادة بستان نبذر فيه بذورنا ، فتشب رياحين وأشجار تصون الوطن وتحميه ، فمدت يدها نحوي ، فأمسكتها برفق ، بينما هي تقول : وحدتنا ، يا ياسر ، ضرورة استمرارنا وسيطرتنا على المصير .