الحرب على غزة
بقلم محمد يوسف جبارين ( ابوسامح)..أم الفحم ..فلسطين
الحرب على غزة ، هي الحرب التي تستهدف تجريد أبناء فلسطين ، من قدرتهم على حماية أنفسهم ، فاستراتيجية الأمن الاسرائيلية ، قائمة على تدمير مقومات القدرة الفلسطينية ، لكي تبقى اسرائيل آمنة وسط محيط خلو من قدرة حقيقة قادرة على تهديد أمنها ، فهذه الحرب كما غيرها ، انما هي حرب وقائية أو استباقية سعت الى تدمير قدرة عسكرية فلسطينية نشأت وتشكلت . وكانت هذه القدرة ، كلما نشأت بيد أبناء فلسطين ، استحالت بذاتها الى مصدر قلق ، ومبعث هواجس لدى القائمين على الأمن القومي الاسرائيلي ، بل وتعدت ذلك اسرائيل في هواجسها الى التربص بالوعي وتشكله لدى الفلسطينين ، فتجلى لها قادة الفكر أيضا من مفكرين وكتاب وشعراء كخطر يتهدد الأمن الاسرائيلي ، فهذا الفكر يمكنه أن يجمع ويمكنه أن يوظف أبناء فلسطين في اتجاه بناء القدرة التي تتحدى القدرة الاسرائيلية ، لهذا لم تتردد اسرائيل في كل مرحلة من تاريخها في تصيد واغتيال قادة فكر ، أو اعتقالهم وزجهم في السجون ، أو تهديدهم في محاولة صرفهم عن طريقهم ، فبناء القدرة الفلسطينية ، قد كان دوما ، في محل ارتياب لدى اسرائيل ، فأمنها يعني في جانب كبير منه أن لا تقوم قدرة فلسطينية على قدميها ، على كل ما تعنيه كلمة قدرة من فكر ، وامكانيات مادية ، واتحاد ، وبناء قوة مسلحة ، فلذلك اسرائيل ، لم تتوقف عند اقتلاع للفلسطينيين من أرضهم وتشريدهم ليحيوا في اللجوء ، بل وأنكرت حتى وجود هذا الشعب ، ولم تتوانى عن العمل بقوة النار ، ضد كل ما من شأنه أن يعود بشعب فلسطين الى مسرح السياسة ، لذلك كانت ضد منظمة التحرير ، ولم تتردد في عمل كل ما من شأنه الغاء وجود هذه المنظمة التي جمعت شمل شعب فلسطين ، ووضعته على خريطة السياسة العالمية ، فاجتياح لبنان عام 1982 كان لنفس الغاية التي استهدفتها الحرب على غزة ، وهو القضاء على القدرة العسكرية الفلسطينية أو انهاكها ، أو صناعة الضعف لها بالحاق أكبر ضرر متاح بها . لقد كان الفدائيون الفلسطينيون يأتون من جنوب لبنان ، ويزعجون اسرائيل ، وكانت النار الفلسطينية تعلن عن وجود ارادة تحرير فلسطينية ، وقد تناهى التوتر آنذاك الى حديث عن هدنة بين اسرائيل وفصائل منظمة التحرير ، وقد وافق على ذلك ياسر عرفات ، لكن اسرائيل سارعت الى الحرب على منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان ، فهي لا تريد أن تعترف بوجود شعب فلسطين ، ولا أن تعترف بالارادة الفتالية لشعب فلسطين ، فليس هناك ثمة شعب كهذا ، ومن يفتح النار على اسرائيل فالتدمير في انتظاره .. مسألة ردع وعدم اعتراف ، وقد كان آنذاك بيغن هو رئيس وزراء اسرائيل وشارون وزير الدفاع ( الحربية ) ، وقد نسخ بيغن صفة ارهابي التي كانت تنزل عليه من أفواه الانكليز ، ليسقطها ، كما فعل غيره من قبل ، على الفدائيين الفلسطينيين ، فهو يحارب الارهاب ، ولا تفاهم مع ارهابيين ، تماما مثل ما قالت تسبي ليفني وزيرة خارجية اسرائيل بشأن الفصائل الفلسطينية في غزة ، التي تصدت بكل كبرياء التحدي الفلسطيني للعدوان على غزة ، التي كان انسحب منها الجيش الاسرائيلي من قبل ، بقرار من رئيس حكومة اسرائيل شارون ، الذي اجتاح الضفة الغربية ، بحثا عن ردع يرتدع به الفلسطينيون ، وهو البحث الدامي الذي ينطوي على بحث عن تبوء مكانة رفيعة في نفسية الاسرائيليين ، تؤهله الى تصدر حكومة اسرائيل بلا منازع ، فهو القاتل الذي لا يتردد في سفك الدماء الفلسطينية ، وهو الفعل الدامي الذي تناهى اليه وريثه أولمرت ، ومعه ضابطة الموساد ليفني ربيبة شارون ، ومعهما باراك ، الذي احترف زمنا طويلا اغتيال القدرات الفلسطينة ، وهو من فر بجنوده بالتالي هاربا ليلا من لبنان ، تحت ضغط القوة ، ليلحق به أولمرت في فرار آخر ، بعد حرب تدميرية على لبنان ، قالت عنها كوندوليزا رايس بأن في رحمها ميلاد شرق أوسط جديد ، وليعودوا جميعا بكل الغيظ الدفين والمتأجج في صدورهم ، الى حرب تدميرية على غزة ، استشفاء من غيظ يتفلت وينبه على ميزان ردع قد أصابه ما أصابه من تبهيت ، وهي مسألة ضرورة لاستراتيجية الأمن ، فلا يتأتى تغافل في شأنها ، ولا يمكن لسيادة في نظام حكم ، يستشعر العداء لكل محيطه أن لا يسعى الى فرصته ، في تعديل هذا الردع ليصب في هيبة الدولة ، ويضيف في جبروت صورتها ، في وعي من يتربصون بها ، وخاصة منهم الفلسطينيين . فلعلهم يرتدعون ، فاذا خطر على بالهم مناهزة اسرائيل بأعمال عسكرية أو فدائية ، أو انتحارية ، فصورة الدمار والدماء التي سوف تنزل في ساحاتهم تكون بوجه من الرعب ما يثنيهم عن الاقدام ، أو حتى مجرد التفكير بمبادرة الى هكذا أمر . فاذا ثمة من يقول بأنه على امتداد عشرات السنين ، واسرائيل لا تكف عن صناعة الكوارث والمصائب في ساحات الفلسطينيين ، وبرغم ذلك لم يثنيهم دمار ولا خراب نزل بهم ، عن رباطهم بقضيتهم ، فان صاحب الرأي هذا يجب أن يفهم ، بأنه ليس ثمة ردع مطلق ، ولكنه الردع نسبي ، وما الخراب كله والدمار كله الذي يمكنها آلة عسكرية أن تفعله ، سوى تبديل في أوضاع أمنية ، لها صلاتها بالوقت وبالعوامل الفاعلة في ساحة الصراع ،التي يصعب حجب نهوضها وتجددها . فعلى مقدار فقدان السيطرة عليها ، يكون التهلهل في تماسك بنيان الردع واردا ، ليعاد الى تعديله فيما بعد ، فيما لو عاد وتبهت ، أو تناهى الى ما يستدر فعلا لمزيد من الطعن في الهيبة .
وهكذا تجلى تعديل ميزان الردع كضرورة أمن ملحاحة ، تقتضيها استراتيجية الأمن الاسرائيلية ، وذلك لاعادة تشكيل الهيبة ، وما توحيه في صفوف أعداء اسرائيل ، ومن أجل هذا كان لا بد من اعادة تأهيل الجيش الاسرائيلي ، وتحصين الدبابات في مواجهة الصواريخ المضادة لها ، وأيضا تزويد طائرات الهيلوكبتر بكثير من البالونات الحرارية ، لحرف أي صاروج موجه اليها عن مساره ، في مواجهة قادمة ، وفي المجمل فان ادارة الحرب لا بد وأن لا تتجاهل كل الدروس المستفادة من حرب لبنان الأخيرة ، وقد اختيرت غزة كمسرح قادم للحرب القادمة ، ومن هنا لجأت اسرائيل الى استدراج حماس ، الى ما تستولد به كل المبررات التي تتوارى وراءها ، في حربها على غزة .
لقد كانت عقلية حماس التي تدار بها سياساتها فرصة اسرائيل الى ما تريد ، فانقلاب حماس على سلطة فازت بها في الانتخابات ، ثم انقلابها الدامي ، وما أضافه في تعزيز انقسام الصف الفلسطيني ، مضافا الى ما يساور حماس من طموحات في السيطرة ، واندراجها من حيث تدري أو لا تدري ، في لعبة شق الصف العربي ، وما تتوهمه من أن فك الحصار ، يمكنه أن يأتي بتفاهمات مع اسرائيل ، ومع من تلوذ بهم اسرائيل ، من أجل ضمان أمنها ، فكل هذا أدخل حماس في دوامة ، ما عرفت في سياقاتها ، بأنها انما تدخل الفخ الذي تهيئه لها اسرئيل ، فالوهم بأن تهدئة وفتح معابر يأتي على أكف صواريخ ، وبأن بهذه القدرة الصاروخية يقام توازن رعب ، فيصبح من مصلحة اسرائيل في مرحلة ما ، أن تقر بأمر واقع تفرضه هذه الصواريخ وترضخ وتساوم ، بل وتعترف بحماس كطرف أصيل في الصراع ، فلا مفر من اعتراف بها ، وتفاهم معها ، والتزام بما يتم التفاهم عليه ، هو هذا بعينه الذي أنتج مسحة التضليل التي أذكت الغرور ، في نفسية قادة حماس وأمسكت بنواصي عقولهم ، الى اصرار على رفض تهدئة دامت ستة شهور ، على الرغم من ظهور اسرائيل بأنها تريد استمرار التهدئة ، فلقد توجه مندوبها الى مصر طالبا استمرار التهدئة ، وأعلنت عن رغبتها هذه بكل وضوح وشبه الحاح ، وعلى الرغم من نصائح الذين كانوا يرون اللعبة الاسرائيلية الى اين ترمي ، فلقد ظهر مشعل على شاشات الفضائيات ، يقول بكل وضوح الكلام ، بأن حماس لن تقبل استمرار التهدئة ، وكان هذا هو الموقف الذي لم تدرك حماس مخاطره ، وغير واعية ماذا يتخفى وراء عدم التزام اسرائيل بالتهدئة ، التي استمرت ستة شهور، التزمتها حماس على كل ما تعنيه نصوصها ، فقد كانت حارسة أمينة لحدود غزة مع اسرائيل ، فلم تسمح باطلاق صاروخ ولا قذيفة .
والى هنا اسرائيل قد أعدت عدتها ، ففرصتها قد جاءتها بمكرها ، وبسوء ادارة الصراع من جانب حماس ، وبدأت الحرب فجأة بقصف من قاذفات اف 16 على مواقع حماس في قطاع غزة ، لقد ارادت اسرائيل بالمفاجئة ايقاع اشد الخسائر في صفوف جند حماس ومعداتها ، واستمر قصف الطائرات ، مستهدفا تدمير البنية التحتية للقدرة العسكرية الفلسطينية ، وأيضا تدمير البنبة التحتية للحياة بصورة عامة ، وتقدمت الدبابات وجنود المشاة على محاور عدة ، تتقدمها كثافة نيران علية الشدة من المدفعية ، ومن الطائرات على كافة انواعها ، فالأوامر كانت صارمة واضحة ، فكثافة النار وفي كل اتجاه ، وحدها التي تسمح بالتقدم الذي يضمن حماية أرواح الجنود الاسرائيلين ، فمن أجل أقل الاصابات في جنود الغزاة ، كانت كثافة النار مذهلة ، بحيث لا تقيم أية قيمة لحياة انسان ، فتدمير البيوت على سكانها ، وحرق الأرض أمام خطوات الجنود الاسرائيلين ، فكل ذلك كان أشبة بعملية تدميرية شاملة ، فكل قطاع غزة كان تحت المراقبة ، وكل تدمير متاح ، في عملية أريد لها أن تجلجل في كل واد ليعرف القاصي والداني ، الى أين يمكنها اسرائيل أن تذهب بقوتها العسكرية ، فيما لو كان هناك من يتطاول على أمنها ، لقد ألحقت اسرائيل خسائر فادحة في أرواح الفلسطينيين ، وفي ديارهم ، لكنها مع ذلك لم تستطع ايقاف اطلاق الصواريخ ، من جانب المقاومة الفلسطينية ، فهذه الصواريخ ظلت تزور أهدافها ، بكل حرية ، محدثة شللا في الحياة ، في كافة المدن أو المستوطنات الاسرائيلية التي قصدتها ، وأيضا لم يمكنها قوات اسرائيل على كل عتادها العسكري ، أن تزحزح أقدام الفلسطينيين الذي تصدوا لها بالنار ، لقد كانت مقاومة فلسطينيية ، جيشا فلسطينيا ، على قلة عتاده وامكانياته ، بقدرة ارادة أرغمت اسرائيل على التراجع عن احتلال غزة ، فقد كان يعني احتلال غزة تدميرها بالكامل ، فما أحدثته قوات اسرائيل في تل الهوى يؤشر على ذلك ، فلكي تتقدم قوات اسرائيلية ، فأو تقوم بتدمير كل البيوت على من فيها ، أو لا يمكنها التقدم من دون خسائر تلحق بها ، ولربما تكون على ما لا تطيقه اسرائيل ، فالمقاومة شرسة ، فهؤلاء أبناء فلسطين ، انتظروا فرصتهم ، وليسوا هم من يتراجع الى الوراء ، أمام قوات اسرائيلية تتقدم ، لقد حصل هذا في حصار بيروت وفي مخيم جنين ، وها هم الفلسطينيون ، على الرغم من وجودهم في ظروف تماثل السجن ، الا أنهم من أجل كرامة الوطن وعزته ، لا يمكنها عربدة قوة أن تثنيهم ، عن بذل أرواحهم ، من أجل حبهم الكبير .
لقد أعلنت اسرائيل الحرب على غزة ، بتنسيق كامل مع ادارة بوش ، التي كانت في آخر آيامها في البيت الأبيض ، ولم يتردد بوش في الانحياز التام في مجرى الحرب الى جانب اسرائيل ، ومع نهاية عهد بوش وقدوم أوباما الى البيض الأبيض ، انتهت الحرب وانسحبت اسرائيل من غزة ، لتذهب وزيرة خارجية اسرائيل الى الادارة الاميركية ، لتوقع مع كونوليزا رايس مذكرة تفاهم ، بموجبها لا تظل اسرائيل وحدها تقيم سجنا كبيرا لقطاع غزة ، وانما تتولى مع اسرائيل دول أخرى في بناء هذا السجن ، فهي ليست مجرد مذكرة ، وانما بها آليات تدويل لمسألة السجن الضرورة لأمن اسرائيل ، والذي يتولى الحيلولة دون تسرب سلاح أو مواد لها صلة به الى قطاع غزة ، أو بعبارة أخرى أن تضمن دول حلف الاطلنطي لاسرائيل امكانية احتجاز الأمن الفلسطيني ، في دائرة من سيطرة ، تضمن الضعف للقدرة الفلسطينية بمنعها من التطور ، الى ما يؤهلها مناهزة اسرائيل ، أو حتى حماية الذات الفلسطينية ، من العدوان عليها من جانب اسرائيل ، لتبقى حياة أبناء فلسطين في قطاع غزة رهينة بيد قرار يتخذه جنرال اسرائيلي .
ولقد يكون صحيحا ما قاله باراك ، من أن أهدافا للحرب قد تحققت ، وهي توجيه ضربة قاسية لحماس ، وتعديل ميزان الردع ، واقامة نظام لمنع تهريب الأسلحة لقطاع غزة ، لكنها الحرب هذه ، قد استنهضت مشاعر كراهية لاسرائيل اجتاحت العالم بأسره ، وأظهرت الحرب مقدار استعداد الجندي الاسرائيلي لسفك دم الأبرياء ، أطفالا كانوا أو نساء ، بلا أدنى ذنب اقترفوه ، فصور أشلاء الأطفال والأبرياء عموما قد أدانت اسرائيل ، وحفزت بكل دليل دامغ ، الى وصف اسرائيل ، بكل ما لم يخطر على بال اسرائيل ، فدماء الأبرياء شاهد التاريخ على حقيقة اسرائيل ، ثم ان ما قامت به اسرائيل ، لهو أكبر دليل على أن الفلسطينيين في خطر ، وانما هم أحوج ما يكونون، الى نظام دفاعي من أنفسهم ، وبأن قدرتهم الذاتية ، على حماية أنفسهم ، انما هي ضرورة أمن حياة ، وبأن احتجاز أمنهم بيد اسرائيل ، انما هو المرفوض أبدا ، بقوة ما دللت عليه هذه الحرب ، التي قال عنها مشعل ، بأنها كانت من طرف واحد ، ولم يفهم أحد منه لماذا أوقعته اسرائيل في الفخ ، فأنالها بجهله فرصتها الى تدمير غزة .
ولقد يصح القول بأن المقاومة انتصرت، على أعتبار أن اسرائيل قالت ، بأن حربها انما للقضاء على امكانية اطلاق الصواريخ عليها ، فعلى طول امتداد الحرب ، فان الصواريخ لم يتوقف اطلاقها ، ثم ان اسرائيل لم تجرؤ على دخول المدن الفلسطينية ، بفضل قوة التصدى الشرسة ، التي تصدت بها المقاومة للقوات الغازية ، فالمقاومة كانت انسحبت من المناطق المفتوحة خشية الابادة ، وتحصنت بالمدن أي بالدور السكنية ، متصدية للغزاة ،غير متوقفة عن مواجهة النار بالنار ، ومنتظرة دخولهم الأحياء السكنية ، لتنزل بهم الخسائر الفادحة ، فهكذا وجه التحليل الذي يفضي الى القول بالانتصار ، فمجرد البقاء أحياء يعني الانتصار ، على اعتبارالكارثة التي حلت بالمدنيين وبالبنية التحتية لقطاع غزة ، بأنها ثمن الانتصار ، فهذا القول فيه تغافل عن أن اسرائيل وهي تبرر عدوانها بالصواريخ التي تطلق عليها انما تستغفل كل عقل ، ذلك بأنها كان يمكنها استيفاء التهدئة مطلوبها بفتح المعابر ، فلا تطلق صواريخ ولا غيرها ، ولكنها لم تفعل ، وذلك برغم أن المقاومة قدمت كل دليل على التزامها بالتهدئة ، فليست الحرب بذاتها من أجل كف الصواريخ عن السباحة في اتجاهها ، فالصواريخ علة اعلان الحرب ، لغة خطاب ذكي يجيد تمرير مقولاته ، ثم ان افتراض دخول اسرائيل المدن لبسط السيطرة عليها ،هو ما يعزز الاستنتاج بأنها كانت تريد دخولها فتراجعت ، وهو افتراض ساذج واعتباطي ، فكأن اسرائيل تركت يوما قطاع غزة من دون رصد كل حركة فيه ، فهذا القطاع تحت المراقبة الدائمة من الجو وبالصورة ، ناهيك الى الوسائل الأخرى التي تستعملها اسرائيل ، ولا تعلن عنها من مستعربين يصلون كل مكان ، وعملاء وأجهزة تنصت ، وما الى ذلك ، فلكأن الدافع الى حربها على غزة ، لم يكن بذاته معرفتها للقدرة المسلحة الفلسطينية ومدى خطورتها ، فكانت الحرب من أجل الحاق خسائر فادحة بها ، فدخول قوات اسرائيل المدن متصل بتدمير شامل لمساكن المواطنين ، وذلك تقليلا للخسائر في الجنود الاسرائيليين ، أو تكون خسائر كبيرة بينهم ، فلا هذه ولا هذه ، فالاختيار بذاته صعب ، وليس ما يرغم عليه ، فلم يكن احتلال غزة من جديد هدفا بذاته ، ليتم احتلال المدن ، ثم ان الانتخابات الاسرائيلية قاب قوسين أو أدنى ، فالخسائر والاصابات في الجنود ، تعني خسارة قاتلة في الانتخابات ، وقد أريد في جانب ما لهذه الحرب ، أن تصب في خدمة من اتخذوا قرار هذه الحرب ، وأداروا سياساتها ، لكن هدفا كهذا بذاته في دولة كأسرائيل هو هدف مترافق ، أي أنه الذي لا يمكن الحيلولة دونه ، حين يتم اتخاذ قرار الحرب ، ولا يكون بحال سببا لحرب .
ومن الصحيح في ضوء ادارة حرب كهذه من جانب اسرائيل ، ما قاله باراك ، بأنه لا نصر مطلق ، ولا ردع مطلق ، وانما الحرب قد حققت أهدافها ، فهنا دور للآلة العسكرية ، ودور للسياسة في ادارة الأزمات التي أججتها الحرب ، وصعدت بها الى مرتبة الضرورة ، التي لا فكاك لأطراف دولية ، الا أن تدنو وتقترب من حاجات اسرائيل لتساعدها ، في اتمام ما لم تتمه الآلة العسكرية ، وهو استجماع قدرة تستكمل تحقيق أهداف الحرب ، وبالفعل فادارة بوش أعطت لاسرائيل ما تريد ، والوفد الأوروبي جاء الى مصر ثم الى اسرائيل ، ولم يذهب الى غزة ، ليبدأ البحث في ضمانات لأمن اسرائيل ، ومن بينها ما يضمن للفلسطيني في غزة حياة السجين المقيد في وطنه .
ولقد فات أرباب العقل المطلق ، تمييز أهداف الحرب ، كما حددتها ادارة الحرب الاسرائيلية ، فالحرب تخدم مصالح عليا ، تندرج في سياقات استراتجية ، ومن تلك استدامة الانقسام في الصف الفلسطيني ، بل وتعميقة لتحقيق تمزيق حقيقي في القضية الفلسطينة ، وأيضا تعميق الانقسام في الصف العربي ، فهي الأهداف المترتبة على أهداف في ساحات القتال ، وهي بعينها المرادة ، فنفي القضية الفلسطينة ، بذاته نفي لكل ضغط دولي على اسرائيل ، يصب في اقامة دولة فلسطينية ، على أرض فلسطين ، وهو بذاته مساحة زمنية مفتوحة أمام المشروع الصهيوني ، للتمدد في الأرض الفلسطينية ، في القدس ، وفي المستوطنات في الضفة الغربية ، ولعله الدرس الذي وعته اسرائيل ، من عمق الفائدة التي انتفعت بها ، من جراء الانقلاب الذي قامت به حماس ، فلقد سهل لها الانقلاب مشروعها الصهيوني ، وأضاف ركوب ايران لحماس ، في ظهور فاضح لمحور متناقض مع محور في الصف العربي ، ما زاد في تغذية الانقسام ، ولهفة بني صهيون على هذا الانقسام ، بل الحرب بما نضحت به ، قد استولدت ، ببشاعة اعلام حماس حربا اعلامية على مصر ، الأم الحاضنة أبدا قضية فلسطين وهمومها ، ليس فقط من أجل عيون فلسطين ، بل لكون هذه القضية تشكل جزءا لا يتجزأ من الأمن القومي المصري ، وهذا كله ما حدا بقيادة الحرب على غزة أن تجعل من الحرب اضافة في هذا الانقسام ، فجانبت البحث عن نصر مطلق ، فلم تدخل سوى أطراف هذه المدينة أو تلك ، تاركة البقية تأتي ، حتى ولو بقول حماس بأن اسرائيل عجزت عن دخول المدن ، وبأن المقاومة كانت انتصرت بقوة ردع القوات الاسرائيلية عن احتلال كامل لغزة ، فخروج حماس من الحرب قادرة على السيطرة على غزة ، وبكل ما قدمته هي وكل الفصائل الأخرى ، من تضحيات وبينته من بسالة في مواجهة الغزاة ، هو بعينه ، ما يؤهل حماس في ظل التضامن العربي والاسلامي ، بل والعالمي .. منقطع النظير مع غزة ، الى غرور يعمي البصائر ، ويزيد في الانقسام ، فهو قوة مضافة في قدرة اسرائيل .
ولعل هذا الفهم هو ما دعا فتح الى الالحاح على الوحدة ، وعلى رأسها الرئيس محمود عباس ، الذي وعى وأفصح عن فهمه بأن الحرب انما هي حرب على القضية برمتها ، وكذلك نايف حواتمه كان بليغا في فهم المخاطر ، وما تلح عليه من ضرورات وأولها الوحدة ، وأحسب بأن الوحدة ، هي أبلغ عبارة في التعمير ، وأفصح مواجهة للتدويل ،
ويبدو لي بأن حماس تحتاج الى بلورة استراتيجبة جديدة ، تجعل من المشروع الوطني الفلسطيني القاسم المشترك بينها وبين كافة فصائل منظمة التحرير ، وتخرج بالكامل ، من كونها الفكرة التي تريد فرضها على الواقع ، فهذه التي تشكل لها لباب فكرها تستطيع فقط أن تنشىء وضعا محاصرا وفقط ، وهذا الوضع لم ولن يكون بحال في مصلحة حماس ولا الشعب الفلسطيني كله . ان حماس جزء لا يتجزأ من هذا الشعب ، ومن حقها أن تحلم وتأمل وأن تحيا طموحها كيفما شاءت، ولكن ذلك كله يحتاح الى صلة بالحلم والأمل في اطار من وحدة ، ثم انها لا مفر لها من قراءة واعية للعالم المحيط بها ، ولا بد من منهج جديد تتجدد به .. اسلوب تعرف به كيف تتفاعل مع الأخطار ، وتتدرج وتمضي الى ما تشاء ، ورأس الصفحة في هذا الأسلوب هو الوحدة ، فهي بالاضافة الى كونها منهل قدرة وبعث أمل ، فانها تسدل عليها وعلى أبناء فلسطين الهيبة ، فهي بذاتها التي تلزمهم جميعا ..الآن.. في مواجهة العالم الذي يطل عليهم ، وهي الوحدة التي يمكن بها اعادة بناء غزة ، وأيضا مواجهة التدويل الذي تستحكم حلقاته يوما في أعقاب يوم ، وذلك استكمالا لحلقات العدوان على غزة ، فالحرب على غزة قد بدأت وما العمل العسكري ، سوى المقدمة في كتاب يكتبه الساسة ، فالسياسة هي المطلوبة ، وليست الحرب ، وانما الحرب ضرورة تنشئة وضع ، يتيح للسياسة أن تمضي على قدميها ، ومسألة نصر أو هزيمة تتقرر في ترجمة الحرب الى ما كانت تمهد له الحرب ، فنحن على ما أرى ، بأننا بازاء تدويل لمسألة غزة ، فثمة سجن كبير يتم ترتيب شكلة ومكوناته على موائد دول أجنبية ، ضمانا لأمن اسرائيل، باستبقاء الضعف من نصيب أبناء فلسطين في غزة ، فحماس ربما تجد مصر تسمعها ، لكن أحدا ممن يقيمون السجن لغزة ، لن يأخذ رأيا لحماس ولن يسألها رأيها ، ومن هنا تتجلى الوحدة ، كضرورة واجبة على حماس ، فهذه الحرب انما هي حرب على صيرورة المصير لشعب فلسطين ، وهي في سطرها الأخير ، تستهدف احتجاز الأمن الفلسطيني في دائرة من الأمن الاسرائيلي .