أما آن لهذه العقلية أن تندثر
بقلم : محمد يوسف جبارين (أبوسامح)..أم الفحم..فلسطين
لم يزل السؤال لماذا تأخر المسلمون ، يستدعي الاقتراب بالعقل من العقل في منهجية ، تمحص ما أفضى ، وآل اليه هذا العقل ، بحال المسلمين في مدى مئات من السنين .. استنقعوا فيها تحت ضغط استبداد ، تشكل لهم بأثواب خدرتهم واستبقتهم ، في محل استنزاف ، وضعف راكدين في مكانهم ، يتأوهون من قلق ، ومن شظف ، ومن تعب يماص جهدهم ، وبالكاد يوفرون ، ما يستديمون به ، مقدرتهم على عيش ، ولا يملكون ما به يؤهلهم ، لحماية أنفسهم من الأغيار والأشرار الطامعين ،في جهدهم وفي ثروات بلادهم .
ولقد يصح القول بأن الاستبداد كان شللا لارادة الحرية وقيدا على الفكر ، وهبوطا به الى ما لا يمكنه ، من اضافة في نمو حياة وتطورها . فالاقتراب من العقل العربي ، والاسلامي كما كان بحاله الذي كان عليه ، في تاريخ ركوده ، لا بما يمليه النص القرآني الذي لا يجيز له ركوده ، انما يستوجب اعادة تأسيس هذا العقل ، وفق منهج( منطق تناول الواقع ) ، يؤهله الى دوره في اعادة هيكلة الحياة والتاريخ ، في خلال جدل تفصح فيه علاقات العقل مع الطبيعة ، وفي داخل المجتمع عن حركة متصاعدة من نمو وتطور ، منقادة بالاضافة الدائمة التي ترفع من شأن الحياة ، وتوفر أسباب الأمن ، في سياق من الحرية ، تتدافع في خلال سيرها كل الطاقات في تعاونية بنائية ، تهيكل المجتمع في بذل وانتاج ، ينصب على سير في اتجاه غايات ، من الرفعة متصلة الحلقات في سياق زمني لا ينته .
ولعل السؤال عن تأخر المسلمين ، بالضرورة ينطوي على اقتراب ، بالعقل من تاريخ المجتمعات ، بحثا عن كل ما يخلخل التماسك الاجتماعي ، ويستهلك الطاقات في تناحر يقيل المجتمع ، من مقدرته على النمو والتطور ، فمن هنا اللامفر ، من ادراك ، بأن اعادة تأسيس العقل ، لا تحتمل انفصالية ، فالمنهج هو المنهج ، الكل الذي على أساسه ، يتأتى تناول الحياة ككل ، لا أن تتناول قضايا جزئية منها وتذر غيرها ، فمثل ترك كهذا كمثل من يبني بيد ويهدم بيد أخرى ، فالقرآن الكريم كل لكل الحياة ، فوحدة المجتمع العربي والاسلامي ، املاء قرآن ، فبنيوية العلاقات داخل المجتمع ، يجب أن تتشكل في أنساق ، ما يجعلها مؤلفة في وحدة متناغمة ، خلوا من كل انفصالية ، فالتحريف في الدين ، وتسارع هذا التحريف في انتشاره ، يؤدي بالتالي الى جماعة ، لها مفاهيمها التي في جوانب كثيرة منها ، لا تتفق مع الدين الحنيف ، وهذا ما أصاب جماعات من المسلمين ، وأدى الى شيعة غارقة في تحريف ، هي بذاتها لا تقر به ، وانما هي تنفي بنفسها ، عن الذين زعموا بأنهم على الدين الحنيف ، حقهم في تبصيرها بالرشاد ، وقد نشأت هذه الجماعة عبر التاريخ ، كمناصرة لعلي بن أبي طالب ، في العراق ، وقد خذلته في جوانب من مواقفه ، ومن بعده لم يقرها أبناء الصحابة في الحجاز ، على ما كانت عليه من معتقدات ، لا صلة لها باسلام ، وتخلت هذه الجماعة في مرحلة ما عن الحسن ، وتخلت عن مسلم بن عقيل ، وتركت الحسين يلقى مصرعه ، من دون أن تكون الى جانبه ، وهي تدري أي مصير كان في انتظاره . وقد تشكل من بعده حزب التوابين ، واجتمع قادتهم في منزل سليمان بن صرد ، وأعلنوا ندمهم على تخاذلهم في الدفاع عن الحسين ، وأقسموا على الأخذ بثأر الحسين وأمضوا الفترة بين 61- 64 هجري في استمالة المؤيدين وجمع الأسلحة ، ويصف الطبري فعلهم هذا " كان أول ما ابتدعوا من أمرهم سنة احدى وستين ، وهي السنة التي قتل فيها الحسين رضي الله عنه ، فلم يزل القوم في جمع آلة الحرب ، والاستعداد للقتال ودعاء الناس ، في السر من الشيعة وغيرها ، الى الطلب بدم الحسين ، فكان يجيبهم القوم بعد القوم " .
ولقد يكون مذهلا ، بأن يتكشف منطق تناول الأمور على نحو كهذا ، في جماعات شيعية في بدايات هذا القرن من الزمان ، سعت بسفك الدم والتشريد الى تطهير الجنوب العراق من أهل السنة ، وقد بدت بأفعالها وملفوظاتها ، وانتماءاتها ، كعقلية كهذه ، منسوخة من ماض في حاضر ، ما يدلل على أن هذه العقلية ظلت تتقلب في الزمان ، كما هي ، فاذا انضاف اليها شيء ، فهو في نطاق مقولاتها ، ما أجج في وعيها رغبة في الانتقام ، ورغبة في نفي الآخر ، وهو ما أضاف خلخلة وتفككا ، في البنية الاجتماعية ، كما كان شأنها في زمان مضى .
وهذا بالضرورة يستدعي اطلالة تمحيصية ، على مجرى هذه العقلية ، وعلى مبعثها في هذا الزمان ، فهي العقلية ، التي ما أن أطلت ، حتى أدلت بما بها ، وبما هي عليه ، ولم يمكنها ستر حقيقتها بعد كل هذا الذي دلل عليها ، بأفعالها التي فعلتها في العراق .
ويعود مبعث هذه العقلية في هذا الزمان الى الزعيم الروحي للشيعة في ايران ، وهو الامام روح الله موسوي الخميني .. فأما الاسم الخميني ، فنسبة الى قرية (خمين) ، فمنها جاء ، ولم يكن اسمها كذلك قبل الفتح الاسلامي ، بل لحق بها بعد ذلك ، وحكاية الاسم يرويها ( الطاهري ) ، في كتاب له كتبه عن الخميني والثورة الاسلامية في ايران ، ويذكر بأن كلمة خمين مكونة من كل كلمة (خم )وهي فارسية ، وتعني بالعربية (جرة) ، والمثنى منها ( جرتان ) ، وبالفارسية ( خمين ) ، وكلمة ( خم) عند أهل فلسطين تعني ( قن الدجاج) ، وتعود قصة اسم خمين الى ذلك الوقت الذي نزل فيه أبوعبيدة الجراح ، ذلك المكان ، مع جيش من الفانحين العرب حملة راية الاسلام الى بلاد فارس ، وكان يطارد فرقة من الفرس كانت تقودها ابنت يزدجرد آخر شاهنشاه ( ملك الملوك ) ، من السلالة الساسانية التي ، تراجعت منهزمة أمام المسلمين ، وبعد مطاردات مضنية قادها أبوعبيدة الجراح ، في تلك المنطقة ، استقر به الحال منتصرا ، فجمع أهل القرية ، وكان قد أعد لهم جرتين واحدة ملأها من عصير فواكه في تلك المنطقة وأخرى من عرق (خمر) ، كان عتاد أهل القرية عليه، وعرض عليهم الاسلام ، فمن يسلم فليشرب من جرة عصير الفواكه ، ومن شاء البقاء على دين يدين به فله شرابه الذي يختار ، ودخل أهل القرية دين الاسلام ، ومن يومها والحكاية على ألسنة الناس ، وألزموا القرية باسم (خمين ) ، ومن هذه القرية جاء روح الله موسوي الخميني ، الذي في تسلسل نسبه ، على ما قيل ، يصل فرع نسب من علي بن أبي طالب ، وحفظ القرآن وهو لم يتجاوز الحادية عشرة من عمره وانتقل فيما بعد الى قم ، ومرت الايام واذا به المتفوق الذي يتم تنصيبه شيخ مشايخ قم ، لتمر الايام ويحمل على عاتقه قيادة المعارضة لحكم الشاه ، التي تسعى الى حكم الاسلام في ايران ، ومع تفاقم الصراع في الوطن العربي بين قوى الحرية الرامية الى طرد الاستعمار من المنطقة العربية ، وبروز التحادد بين مناهضة الاستعمار من جانب وبين الاستعمار ومن والاه ، تحاددت العلاقات بين قوى الثورة في العالم العربي ، وبين الشاه كداعم لاسرائيل وغارق حتى أذنيه في الحضن الاستعماري ، في وقت كانت المعارضة بقيادة الخمينيي مستعرة ، ومن هنا ومع نهاية الخمسينيات وبداية الستينييات من القرن الماضي ، اتهم الشاه الخميني بأنه يتلقى مساعدات من جمال عبد الناصر ، ووقف الخميني يرد على ذلك بقوله بأنه لأشرف له ذلك ، مما يفعله الشاه من ارتماء في أحضان أميركا الشيطان الأكبر ، وليس الى هنا وفقط ، وانما في مستقبل أيام الثورة الاسلامية في ايران ، نجدها تتلقى الدعم من معمر القذافي ، ومن قيادات منظمة التحرير وعلى رأسها فتح وياسر عرفات ، فأحمد أبن الخميني تدرب في معسكرات فتح ، ناهيك الى العراق واحتضانه لكل جماعات الخميني ممن هرعوا الى العراق ، بما فيهم الخميني الذي فارق ايران الى العراق في 1965 ، وبقي هناك الى 1978 ، فاذاك سافر الى فرنسا ، ومن هناك عاد منتصرا الى ايران . ولقد وجد الخميني من العراق كل احتضان ومساعدة ، على الرغم من كل توتر بين الشاه والعراق .
وفي أعقاب حرب عام 1967 التقى محمد باقر الصدر ، الخميني في النجف ، وهناك تدارسا أمورا تهمهما ، ومن بين ما تداركه محمد باقر الصدر في ثورة الخميني ما يمكن قراءته في نصيحته له ، وقد كان فرغ من كتابه ( اقتصادنا ) ، اذ أشار على الخميني أن ينشعل هو وجماعاته ، في دراسة نظام الحكم وتفاصيله ، وايلاء ذلك اهتماما كبيرا ، وفي اليوم التالي ، كان الخميني ، يعطى درسه لتلاميذه عن (ولاية فقيه ) ، وقد تتالت محاضراته في هذا الجانب ، وفي عام 1978 غادر الى فرنسا ، وهناك قام بطباعة كتاب ( الحكومة الاسلامية ) ، وهو الكتاب الذي عرف فيما بعد ، باسم ( ولاية فقيه ) ، وعلى اساسه قام نظام الحكم في الجمهورية الاسلامية في ايران ، وذلك عام 1979 . وبعودته الى ايران وسقوط نظام الشاه ، لفت الخميني أنظار العالم اليه ، وكان يمكنه أن يكون عاملا مؤثرا ، في اعلاء كلمة الاسلام ، وفي المساهمة في خلاص الامة الاسلامية من بؤسها ، وذلك بجمع كلمة المسلمين على التعاون والبناء ، وحل مشكلات التنمية البشرية ، وما الى ذلك مما يسهم في بعث لبنات حضارة ، تؤثت لميلاد آخر في ربوع الجغرافية الاسلامية ، الا أن كل ذلك كان يحتاج الى فكر وحدوي وفكر حرية ، وفكر جمع واستواء على كلمة واحدة ، بمقدرة واعية تلتفت الى المستقبل ، لكنه الذي حصل كان ينم على ما تيسر وعلى ما يلح من فكر مشتق من معتقدات ، قد حان ظهورها على السطح ، فثمة ما يعززها ، من اقتصاد وقوة ، ومكانة ، فكل هذه قد توفرت ، ويمكن الاندياح الى دوائر أوسع ، فايران بما بها ، يمكنها أن تسعى الى تصدر قيادة العالم الاسلامي ، ولقد عبر عن ذلك الخميني ، الى من كانوا حوله في الطائرة التي عاد بها الى طهران منتصرا ، اذ قال ، بأنه قد حان الوقت للفرس أن يتهيأوا لقيادة العالم الاسلامي .
كانت الأجواء التي رافقت عودة الخميني ومغادرة الشاة ، أجواء فيها كثير من المجهول ، عن حقيقة المعتقدات والفكر الذي يحرك ، ما أسهم في الوطن العربي ، وخاصة لدى الفلسطينيين ، بتكوين رأي عام مضلل ، فقد كان الحساب البسيط ( فكل قاس ما يراه في الفضاء العام ، على ما يعرفه هو عن الاسلام ) ، يدل على أن نصيرا كبيرا ، قد جاء الى قضية الثورة ضد الاستعمار ، وبأن الحرية سوف تجد معينا مساندا وقويا ، وبأن غروب الشاه ، انما هو غروب رجعية ومرتكز استعماري في المنطقة ، يا طالما شكل خللا وتهديدا معيقا أبدا درب الحرية والتحرر ، فقد كان النصير لاسرائيل ، والعميل المنقطع النظير لأميركا ، فسارع ياسر عرفات الى اشغال مكان السفارة الاسرائيلية التي فر من فيها الى اسرائيل ، وسارع القذافي الى التهنئة بالثورة ، فقد كان سندا بغير حدود لها ، وكما ياسر عرفات ، وحاول أن يذهب الى طهران ، ومثله صدام حسين أراد أن يذهب للتهنئة ، الا أن الفكر الكامن خلف كل تلك الستائر التي حجبت البصيرة عن رؤية ما هو قادم ، قد كان يتململ ليطل ، فقد جاءته فرصته ، واذا بياسر عرفات يتم طرده من السفارة التي ظنها أصبحت سفارة فلسطين ، وكذلك القذافي لم يستجاب لطلبه ، بأن يتم استقباله في طهران ، ومثله صدام تلقى جواب اللا أهلا ولاسهلا ، وبدا وجوم حائر يفتش له عن جواب ، فثمة شيء في النفس راح يتساءل ، فماذا يدعو الى كل هذا ، وكيف يتفق هذا ، مع تعزيز الآمال التي تعلقت على هذه الثورة ، لم يخطر على بال عامة الناس ، وكذلك الذين حسبوا الاسلام على وعيهم هم بالاسلام ، بان المنطقة مقبلة على كوارث ومصائب لم تعرفها في زمن التتار ، ولم تراها في حروب صليبية ، ولربما شهدت مثلها في محاكم التفتيش في اسبانيا ، فلقد أطل الخميني على المشهد بمدد من مال وسلاح لجلال الطالباني والبرزاني لاثارة القلاقل والاضطرابات في داخل العراق ، ما أثار توترا شديدا مع نظام الحكم في بغداد ، وأتبع ذلك في ظهور تلفزيوني ، قال فيه الخميني بأنه " ... سوف يحتل بغداد في غضون أربع ساعات " ، وسرعان ما بادر بني صدر رئيس الجمهورية الاسلامية آنذاك بتصريح قال فيه بأنه " .. لا يستطيع أن يوقف زحف الجيش الايراني على العراق واحتلاله بغداد اذا ما أراد الجيش ذلك " ، وقد سبق كل هذا اطلالة للخميني يطالب أهل العراق بأن يشعلوا على رؤوس بيوتهم مشاعل عصيان مدني ، وكانت تلك نذر قلق وتوتر ، بدأت تلوح في الأفق ، وكانت تلك البداية التي تلتها حرب مدمرة ، أكلت الأخضر واليابس ، فقد كان طعامها ثروات البلاد والشباب وانشغال العقل بالدمار بدلا عن العمارة ، وكان المتخيل في الأحلام لو أن الخميني ، دعا الى تعاون في بناء علم وازالة فقر في عالم اسلامي ، فهذا كان يمكنه أن يكون الاضافة التي بها تعلو الأمة الى أعلى ، لكنها كانت الحرب الدمار التي انتصر فيها العراق ، لكنه الكيد لم يتوقف الى هنا ، فقد وجدت ايران في شيعة العراق امتدادات ، لاستمرار مكرها في سعيها الذي لم يتوقف ، في مجرى تصديرها للثورة التي بها اشعل الخميني النار بين المسلمين ، بدلا عن معادلة تجمع بينهم على خير ، وكان في العراق محمد باقر الصدر ، صديق الخميني الذي كان أسس حزب الدعوة ، وراح بكل تآمر يسعى الى ما يظنه يقوض نظام الحكم في العراق ، ووجد هذا الحزب الآن فرصته ، فكل دعم من سلاح ومال يمكنه أن يحصل عليه من ايران ، ولم يكن وحده ، فكل الصفويين ، وكل الغارقين في الطاعة العمياء لمدرسة قم في ايران ، ويرون في الخميني الامام الذي جاء ، فلم يترددوا في أن يكونوا امتدادا لايران في فعل كل تخريب ، به تتم مناهزة نظام حكم سني ، سعيا وراء اسقاط هذا السني واستبداله بآخر شيعي تابع لمركزية آيات الله في ايران ، فكان من ذلك ما قام به حزب الدعوة من محاولة اغتيال صدام حسين في الدجيل ، ومؤامرات ودسائس ، مبررة بفكر مشتق من عقائد تصب ، في فعل مجسد بخراب وسفك دم مسلم ، لا ذنب له ، سوى أنه الآخر الغير مطابق بفكره ومعتقداته ، لمن أباحوا سفك دمه ، وليس هذا وحده ، فالخميني صاحب مقولة الشيطان الأكبر ( أميركا) ، والشيطان الأصغر ( اسرائيل ) ، أجاز وحلل كل تعاون نتيجته استيراد أسلحة من اسرائيل ، وذلك في غضون الحرب العراقية الايرانية ، ومن أجل بلوغ أهداف في تصدير الثورة ، وأهدافها الرامية الى نفوذ في دائرة ، من السيطرة ، على القرار الصادر ، من أعلى رأس في العراق ، وجدت ايران الثورة الاسلامية في اتباعها في العراق ، فرصتها الى تقديم كل الخدمات لأميركا في حربها على العراق والرامية الى اسقاط نظام الحكم في العراق ، فبعد أن وضعت الحرب الأولى على العراق أوزارها ، تدفق الايرانيون من كل جانب ، وانضافوا الى زمرهم من العمائم السوداء الغارقة ، في الولاء لآيات الله في قم ، وبدأت عملية واسعة النطاق ، في جنوب العراق تستهدف السيطرة على مقاليد الحكم بهدف اسقاط صدام حسين ، وكل ذلك جرى في ظروف هزيمة قاسية للعراق ، وتحت عباءة أميركية ، وكانت المجازر في كل ناحية ، والفظاعة في سفك الدم كانت تنقاد بعمائم سوداء ، تتخذ من بيوت الله ، وما يدعونه بالعتبات المقدسة وغيرها ، مراكز ادارة وتنفيذ لكل جريمة ، التي بسردها يذهل العقل عن نفسه ، ولا يقر بأن ما تراه عيناه ، انما هو الذبح بيد تحمل القرآن ، وتسفك الدم بيد أخرى ، فماذا عقلت هذه اليد القاتلة من كتاب الله ، ومن الاسلام ، وماذا وكيف يمكن سلخ الفعل ، عن عقلية تدبر وتخطط على أوسع نطاق وبكل ما أمكنها ذلك ، فما هو هذا الدين ، وما حقيقة ما تعقله من هذا الدين غير ما تدل عليه أفعالها وانتماءاتها ، أفلا تدل الأفعال التي هي في حقيقتها نتاج تخطيط وتدبير وتنفيذ ، بادارة قائمة عليها ، على عقلية وعلى نفسية ، وتشكل حاكمية يمكن بها الحكم على العقل وعلى النفس التي دبرت ، والاستنتاج منذ ذلك ما به يمكن تعريف معتقداتها على حقيقتها ، في عملية فرز يمكن الانتهاء بها الى تكوين حكم . فما تراها الغاية من كل ذلك ، وهل لغاية كتلك صلة بدين حنيف .فاذا أعداء الله يستنكفون أن يفعلوا الجريمة على هكذا وجه ، فما تكون حال نفوس تفعلها .
واذا كانت القومية الفارسية تسربلت ، ولا زالت ، مظاهر من تعصب لدين يتوهمونه بأنه دين الاسلام ، ويعجب الراسخون في العلم من جملة التناقضات السافرة الوجه مع هذا الدين ، وما نص القرآن عليه في آياته الكريمة ، فان القومية الفارسية ، أشهرت في عربستان ، ولم تزل تشهر ، كل قهر وكل عنف وكل بطش في خدمة سيطرتها على هذه المنطقة العربية ، التي دانت عبر التاريخ للعرب ، ولم تزل تصرعلى عروبتها ، برغم كل محاولات الطمس لهويتها العربية ، فهذه الجغرافية المسماة عربستان انما هي عربية ، وقد أعطاها الانكليز للشاه ( رضا شاه ) ، في خلال ظروف الحرب العالمية الأولى ، ومن يومها لم تنقطع العملية الجائرة الهادفة الى محو الهوية العربية لعربستان ، وبكل وسيلة ، ولم يكن التمدد الفارسي في عربستان وحدها ، ففي عام 1970 قامت ايران باحتلال جزر عربية ثلاث هي جزر أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى ، ولقد كان يقال من قبل هذه الهيمنة بأن الخليج عربي والآن يقول الفرس بأنه فارسي ، فلماذا ملامح دين رحيم لم تطل من وجه فارسي على أبناء عربستان ، وخاصة بأنها ثورة اسلامية ، وجمهورية اسلامية ، فلماذا الاسلامية لا وجه لها في سكب حرية ، في النطاق الغائب فيه هو الحرية ، ولماذا تغييب الحرية يتم بارادة دولة هي من أسمت نفسها جمهورية اسلامية ، فأهل عربستان مسلمون ، فمحو الهوية العربية ( مع أن العربية لغة أهل الجنة) ، ليست دعوة اسلامية ، وانما هي القومية الفارسية التي تتستر بعباءة ولحى ، وانما هي الامبراطورية الساسانية في أعماق الوعي الفارسي هي التي تملي ، وهي التي تحرك ، وتبرر ، ففي خلال التوتر الذي سبق الحرب الايرانية العراقية ، قال بني صدر ، رئيس الجمهورية الاسلامية ، بأن بغداد كانت لايران ، فهو اذن تاريخ الكفر الذي ينطق بلسان الجمهورية الاسلامية ، وليس الاسلام بأية حال .
فاذا كان تشابك المصالح بين الفرس والانكليز ، قد أدى الى توسيع جغرافية ايران ، وأتاح فرصا كبيرة للهيمنة الفارسية ، وامتدادا جغرافيا على طول مياه الخليج العربي ، فقد جاءت أحضان الشيطان الأكبر ( أميركا ) على حد تعبير الخميني ، في الحرب الصليبية على العراق وأفغانستان فرصة آيات الله في قم ، لكسب جديد ما كان يمكن كسبه ، من دون تبعية لقوى استعمارية ، ومن دون ترجمة هذه التبعية في تقديم الخدمات اللازمة لهذه القوى الحاقدة والطامعة ، التي حزمت أمرها باعلان حرب تسعى بها ، الى غايات من نهب وسيطرة ، فهي حرب غير المسلمين على المسلمين ، واليها انحازت الجمهورية الاسلامية بكل ، مطلوب لنجاح الغزو ، وقد عبر عن ذلك بصريح العبارة ، خاتمي ، اذ قال : " تعلم أميركا بأنه لولا ايران ما كان يمكنها أن تحقق ما حققته في العراق وافغانستان " ، فلقد دمرت الحرب العراق ، ناهيك الى الحرب المدمرة في افغانستان . لقد أحالت الحرب العراق الى خراب ، وبذلك تم تحطيم الأمن القومي العربي ، ولم تعد ما تخشاه اسرائيل من جهة الشرق ، بل اسرائيل بكل مخابراتها ، وتجارها وكل الحرامية التي أمكنها توظيفهم ، طارت بهم الى العراق تحت جناح الغزو ، والسيطرة الاميركية ، ولم يزل الصوت عاليا ، لم ينقطع في ايران ضد اسرائيل ، فكيف فهم هذا الذي جرى ، وكان دور الجمهورية الاسلامية فيه ، دورعدو لمسلمين وخادمة لاسرائيل ، وهي خدمة ما كان يمكنها اسرائيل أن تقدمها لنفسها بنفسها . فما هو هذا الايمان باسلام الذي يملأ فضاء القلوب والعقول في قم ، والذي ييسرها الى كل هذه الخدمات لأعداء المسلمين ، كما يحلو لخامنئي وصفهم . وكيف استحالت قوات ( القدس ) ، وفيلق ( بدر) ، الى موظفة في ذبح أهل السنة من المسلمين في العراق ، وذلك في عملية تطهير طائفي واسعة النطاق ، وتشريد من مناطق الجنوب ، فما صلة كل ذلك ببدر وبفلسطين أم أن الأسماء ، يمكنها أن تكون غطاء لنقيضها ، ولكل ما ليس فيه ما يدل عليها . بل هو العار على القدس والحرية ، أن تكون موصولة باسم جماعات مجرمة بحق المسلمين كهذه ، وانه لأفظع سباب للاسلام أن تحمل جماعات لصوص وجريمة مثل هذه اسما كريما كبدر .
ولعل فكرة الجنوب الشيعي في العراق ، وما أملته من تطهير طائفي ، ونزعة الى فدرالية ، في بواطنها ، ما يكفي من تدحرج بآليات تؤدي الى تقسيم العراق ، منساقة بعقلية مسيرة بفكر ممتد ، في أطماع وطموحات ايرانية ، انما تتجلى باطلالة مستقبلية على رغبة عميقة ، في توسيع السيادة الايرانية ، ناهيك الى ما يشكل لباب المعتقد الشيعي الذي يقود كل ذلك ، ويملي نزعة الى سيطرة على العتبات المقدسة ، لتحويلها الى ما يشبه الكعبة المشرفة لدى أهل السنة ( وفق تصورهم ، فكأنما الحج ليس قرآنا ورحمة لكل مسلم ) ، فهناك حجيج ، وهنا مواكب من البشر تحج أو تزحف الى مواسم الردح واللطم في كربلاء . فهذا هو ما يفسر الجريمة الواسعة النطاق التي استهدفت أهل السنة في الجنوب ، والتي لا لم تعرف وجها لانسانية ولا لدين الاسلام فيها . فتطيهر الجنوب من أهل السنة ، ثم جعل الجنوب اقليما ضمن فدرالية ، على أن يكون بحكم الدستور ، شبه مستقل بذاته عن العراق ، ثم اندماج تدريجي بالنظم في ايران ، يترافق ذلك مع حركة واسعة من كل مكان في ايران من والى العتبات المقدسة ، وخاصة حين يتم جعل هذه المقدسات لدى الشيعة مزارا ميسرا، تتوفر له كل امكانية الترغيب به والتسهيل اليه ، ثم تأتي في زمن لاحق مرحلة تاريخية ، لم يعد فيها فرق بين أن تكون في جنوب العراق أو أن تكون في طهران أو قم ، ويسهل عندها الدمج الكلي بقرار حر من أهالي الجنوب ، مؤيد بموافقة شعبية تأتي ضمن استفتاء شعبي . فبذلك تكون ايران وضعت يدها على بترول الجنوب ، وعلى مركزيتها كدعوة شيعية بين يديها وتحت سيادتها ، كربلاء والنجف ، حيث كان مصرع الحسين ومزار علي بن ابي طالب ، وتصبح من وجهة نظر شيعية في مقابل السعودية التي ترعى الحجيج ، الى بيت الله الحرام وتحرسه وتوفر له امكانياته .
وليس الى هنا وفقط ، بل نظرات الفرس المطلة من عيون تتزيا باسلام ، ممتدة الى حيث هناك جماعات شيعية ، وتتربص ليكونوا لها جسرا الى هيمنة وفكفكة لسلطة وحكم عربي ، وليس أدل على ذلك من تململ في مناطق معينة من الجزيرة العربية ، وما يتكنفها من هواجس ، وأيضا ذلك المشهد الذي صيغ باحكام وظهر عليه حسن نصرالله في غضون الحرب على غزة 2009 ، فخلفية الصورة وعليها كلمة الحسين ، وطريقة الكلام التي تحدث بها وما بها من ملامح شيعية وايماءات ، مثل " هذه كربلائة " ثناء على موقف هنية من رفض للاستسلام تحت أي ظرف ، وما شحن به ألفاظه وهو يدعو جيش مصر الى التحرك ، وأيضا الجماهير المصرية . لقد بدت الكراهية من فمه بكل مكنون في صدره ، وهي التي وجدت فرصتها ، ولو كان انفعاله الجارف ، انحيازا بالفعل الى كل عمل مقاومة ، لما سارع حزبه الى التنصل ، من طلقات معينة جاءت الى اسرائيل عبر الحدود اللبنانية ، أو لفعل عينيا ما يؤيد المناصرة في الوقت الحرج ، وفي مقدوره أن يفعل ، لكنها مصر كانت هي المقصودة بالهجمة الفارسية الرامية الى فوضى تعمها ، فتنشغل بذاتها فتنزاح من أمام التمدد الفارسي في المنطقة العربية .
فمن هذه السردية لمجرى تاريخ مر أمام أعيننا وكابدناه ، نتوصل الى أن قراءة الواقع بكل ما ينضح به من متغيرات واستشفاف حقائقه ، انما هي الضرورة اللازمة للاجابة على الاسئلة التي تعلو متساءلة عن أجوبتها ، ولا بد من الاجابة ، لا باحالة الجواب ، على ما له صلة بواقع مضى ، ولربما ينم على واقع قائم ، ولا بمعزل عن رؤية مستقبلية لحال أمة يتوجب أن تكون عليه ، فنحن بكل ما نراه ماثلا أمامنا ، لا يجب أن يطالبنا أحد بأن نسمي الأمور بغير أسمائها ، فالقرية التي جاء منها الخميني ، قد حملنا لها - نحن العرب - الاسلام ، فمن أجل أن نصل بدعوة الاسلام الى هناك ، جرت دماء رهنت نفسها في سبيل دعوة الله ، فلم نفعل ذلك من أجل أن يأتي من هناك من يسفك دمنا ، باسم هو على قناعة تامة بأنه الاسلام ، وبأنا نحن على ضلال ، وما يدري ، بأنه بفارسيتيه قد قلب المفاهيم ، واستحال بها الى ما يعينه على تحقيق فارسيته ، فنحن بصريح القول بازاء قومية فارسية في مواجهة قومية عربية ، وبازاء تحريف في الدين قد صاغته الفارسية على مقاسها ، وجعلته نافعا لها في خدمتها ، وفي تطلعاتها ، وهذا التحريف يسفر عن أقنعته ، وبكل سفوره ، يقدم نفسه على أنه الأحق بالاتباع ،
فنحن وجها لوجه . ما يفيد بأن نذيرا ينذر بتشويه تفتلت عضلاته ويزمع على التوسع في نشر زيفه ، فلا بد من حمل راية الدين الحنيف في اطار زحف لا يتوقف ، في الدعوة الى الله على الوجه الصحيح ، الذي يتصدى لهذا التحريف وهذا الزيف ، ويبدو بأن هذه هي مهمة القومية العربية ، فهو الله الذي أنزل القرآن باللغة العربية ، فهذه القومية العربية ، يجب أن تعود كما كانت ، تحمل أعباء رسالة السماء ، الى بلاد فارس من جديد ، بل والى الدنيا كلها . لقد كان العرب بحملهم الرسالة السمحاء يمثلون مادة الاسلام ، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، الاسم الذي لا يحتمل سماعه ، أولئك الشيعة الآتون بذبح الى أهل السنة في العراق ، فالقومية العربية هي جوهر الاسلام ، وعلى ما يبدو كانت هذه هي مهمتها ، وقد جاءت ثورة الخميني ، لتوقظها من سباتها ، لتجدد دورها التاريخي الذي كان هو دورها والذي هو في انتظارها .