
20-12-2009, 20:14
|
|
|
تاريخ التسجيل: Dec 2009
المشاركات: 81
|
|
ميكانيكا الكم : 1. مقدمة.
بالرغم من مرور ما يقرب من قرن كامل على ظهور نظرية الكم، إلا أن حتى العلماء لليوم لا يستطيعون إستيعاب غرابتها و ما تعكسه عن طبيعة كوننا، فميكانيكا الكم تنفي أبسط المفاهيم التي نستمدها من حياتنا اليومية لنُصدم بها مراراً بالرغم من أن كل حدث أو إكتشاف آخر بخصوصها لا يؤكد إلا ما سبق أن وضحته ميكانيكا الكم، و هو أن الكون بعيد تماماً في طبيعته عما نتخيله.
نظرية الكم تقوم على عدة قواعد أساسية، منها أن أي طاقة مكونة من مقادير "Quantum's" صغيرة لا يمكن تقسيمها، و هو ما يخالف الفيزياء الكلاسيكية التي ظنت أن الطاقة -كالضوء مثلاً- عبارة عن إشعاع مستمر غير متقطع، و لما كانت الطاقة مكونة من كمات صغيرة، فإن تلك الكمات بدورها لا يُمكن تقسيمها -كالفوتون في حالة الضوء-، و بكلمات أخرى، أن الطاقة مكونة من جسيمات.
و من تلك القواعد أيضاً مبدأ عدم اليقين، و هو يفيد بأننا لا يمكننا معرفة كلاً من موقع الجسيم و سرعته بدقة كبيرة بذات الوقت، فكلما حددنا موقع الجسيم بشكل أكبر تناقصت معرفتنا بسرعته، و العكس صحيح، و حتى و إن قمنا بتكرار نفس التجربة التي أخرجت الجسيم، و بالمرة الأولى قسنا سرعته و بالمرة الثانية قسنا موقعه، فدخول عامل الفرق الزمني بين إجراء التجربتين يُنتج نتائج مختلفة.
أما القاعدة التي سيكون عنها أغلب حديثنا هي ثنائية الموجة-الجسيم، فعلى عكس الفيزياء الكلاسيكية، الجسيمات -كالألكترونات و الفوتونات- ليست كرات ضئيلة، و لا هي موجات، بل هي الأثنين معاً، فالفوتون مثلاً يتصرف كموجة حين ينعكس عن الأسطح أو يتداخل، لكنه يتصرف كجسيم في حالة التأثير الكهروضوئي مثلاً، حيث تنطلق ألكترونات من السطح المعرض لشعاع ضوء قوي، و هو ما يمكن تفسيره على أن الألكترون يمتص موجات الضوء فينطلق بسبب إمتصاصه للطاقة المخزنة بها، لكن حين نوجه ضوء ضعيف الطاقة، لا تخرج ألكترونات، و هو ما يلغي أن الضوء يتصرف بشكل موجة و إلا لأستمر الفوتون بإمتصاص الطاقة حتى يملك ما يكفي للخروج من مداره، بينما تصرف الضوء على أنه جسيمات يستطيع تفسير هذا، فكل جسيم -فوتون- لا يحمل طاقة كافية حين صدمه الألكترون، لا يخرج الألكترون، و يصدمه فوتون آخر لا يحمل طاقة كافية فلا يخرج أيضاً، أي أنه لا يوجد تجميع للطاقة بسبب الطبيعة الجسيمية.
تلك الطبيعة الموجية لا تنحصر فقط بالفوتونات، بل تمتد لكل جسيم آخر بالكون، فكل الجسيمات ذات طبيعة موجية-جسيمية، و لفهم نتائج كون الجسيمات على هذا الحال نأخذ المثال التالي :
حيث يوجد لدينا مصدر فوتونات أو ألكترونات، حين نطلق شعاع هذا المصدر تجاه حاجز به فتحتين ثم نضع بخلف الحاجز حائط أو شاشة لتظهر ما يقع عليها، فنجد أن الشاشة تعرض شكل نموذجي لتداخل موجتين، و هو عبارة عن خطوط منيرة تفصلها مناطق مظلمة، و يمكن تفسير هذا بأن بعض الفوتونات أو الألكترونات مرت من الفتحة اليسرى و بعضها مرت من الفتحة اليمنى و تداخلوا مع بعضهم فنتج ما نراه على الشاشة، لكن بإستمرارنا تخفيض عدد الفوتونات أو الألكترونات الخارجة من المصدر حتى يصبح فوتوناً أو ألكتروناً واحداً يتم إطلاقه بكل مرة، تبعاً للفيزياء الكلاسيكية و الفهم العام المتكون عندنا، الفوتون إما أن يمر من الفتحة اليسرى أو الفتحة اليمنى، و بهذا لا يمكنه أن يتداخل مع أي شي لأنه لا يوجد فوتونات غيره، فلا نرى تداخل على الشاشة بل فقط بقع ضوء متناثرة
و لكن عند إجراء تلك التجربة لا نجد أن هذا هو ما يحدث، بل حتى بإطلاق فوتون واحد بكل مرة نجد على الشاشة تداخلاً، و لا يُمكن تفسير هذا إلا بأن الفوتون -أو الألكترون أو أي جسيم آخر مستخدم بالتجربة- يمر من الفتحتين بذات الوقت، و يتداخل مع نفسه، فيصنع التداخل الواضح على الشاشة، و هو ما تقوله ميكانيكا الكم، فـ بسبب طبيعة الجسيمات الموجية فإنها تمر من الفتحتين بذات الوقت كما تفعل موجات الصوت أو الماء، و لكن الإختلاف الأساسي هنا أن موجات الصوت و الماء تتكون من العديد من الجزيئات، فما يحدث أن بعض الجزيئات يمر يساراً و بعضها يمر يميناً و يحدث التداخل، بينما بتداخل الجسيمات هنا فإن التداخل يحدث حتى إن تواجد جسيم واحد فقط.
إذاً ما هي تلك نوعية تلك الموجة التي يتخذها الجسيم ؟، الجواب أغرب مما سبق، فتلك الموجة هي موجة إحتمالية لخواص و مواقع تواجد الجسيم، و حين نقول موجة إحتمالية لا نعني أن الجسيم بموقع محدد ما لكننا فقط لا نعلم مكانه، بل الأمر أساسي فيزيائياً بشكل أعمق، فالجسيم متواجد بكل مكان تابع للموجة، و هو ما يخالف الواقع المعتاد الذي يخبرنا بأن أي شيء يستطيع التواجد في مكان واحد فقط بنسبة 100%، أما الجسيمات فتتواجد في حالة مشوشة كمومية، حيث لا تتواجد في مكان معين أو حال معين، بل تأخذ جميع القيم الممكنة لها، فيكون الجسيم بتلك الحالة الموجية متواجد هنا و هنا و بعيداً هناك، و لتوضيح مدى عمق هذا يمكنك تخيل أن الجسيم مُمثل بورقة وُضعت على حافتها، فإما أن تقع لليسار أو لليمين، لكن لو تصرفت تلك الورقة كالجسيم لسقطت إلى اليمين و إلى اليسار بذات الوقت، و تظل ساقطة على اليمين و اليسار، طالما لم يتم رصدها.
أما إن تم رصد الجسيم ؟، لنتخيل نفس التجربة السابقة لكن بعد وضع جهاز كاشف عند أحد الفتحتين و لتكن الفتحة اليسرى، و نبدأ بإطلاق فوتون تلو فوتون، عند إجراء التجربة قبل وضع جهاز الكشف نجد أن الفوتون يمر من الفتحتين و يتداخل مع نفسه، و لهذا يظهر على الشاشة نمط تداخل، لكن بعد وضع جهاز الكشف ننظر للشاشة مرة أخرى فلا نجد نمط تداخل بل بقع ضوء مفردة، و هنا نجد أن جهاز الكشف يضطر الفوتون أو الجسيم خلال رصده للتخلي عن طبيعته الموجية و إتخاذ موقع محدد له، فبدلاً من أن يمر وجوده 50% من عند الفتحة اليسرى و 50% من عند الفتحة اليمنى، يضطر لإختيار إما هذا الموقع أو ذاك، و لما كانت موجته الإحتمالية تختفي، فلا يبقى للجسيم ما يتداخل معه.
لكن ما هو الشيء المميز جداً بعملية الرصد الذي يجعل الجسيم يخرج من حالته الكمومية ؟، توجد عدة تفسيرات تم وضعها بهذا الخصوص، لكن أكثرها شيوعاً بين العلماء اليوم هو ما يدعى بـ فك الترابط، Decoherence، و حسب هذا التفسير لا يوجد أي شيء يميز عملية الرصد ذاتها، فلا الرصد ولا العين و لا الإنسان هو ما يدفع الجسيم للخروج من حالته الكمومية، بل أي تأثير فيزيائي، فإن كان هناك ألكتروناً بحالة كمومية، و خلال بقاءه بتلك الحالة صدمه -أو بالأصح صدم موجته الإحتمالية- فوتوناً، يضطر الألكترون لمغادرة الحالة الكمومية و إختيار موقع له كي يتم تحديد هل سيصدمه الفوتون أم لا، و لا يوجد أي شرط أن يكون هذا الفوتون موجه من راصد أو إنسان ما.
فسبب أننا لا نرى كل يوم أشخاص يهيمون في حالة كمومية هو أن أجسادنا طوال الوقت معرضة لتأثيرات فيزيائية، موجات كهرومغناطيسية و فوتونات ضوء تصدمها من كل إتجاه، جزيئات هواء لا تتوقف عن الإرتداد عن سطحها، و حتى بداخل أجسادنا ذاتها لا تتوقف جسيماتها عن التصادم نظراً لأنها غير معزولة، مما يجعلنا طوال الوقت بحالة فك الترابط الكمومي تلك، و قد تم إثبات صحة فرض فك الترابط إلى حد بعيد، و خصوصاً بعد أن إستطاع العلماء وضع فيرس في حالة كمومية، فكل ما يتطلبه الأمر لإدخال جسم ما في حالة كمومية يصبح بها الجسم حاملاً لجميع خصائصه و مواقعه الممكنة هو منع كل التأثيرات الفيزيائية على جسيماته، و هذا يشمل الضوء، الحرارة، الموجات الراديوية، و حتى إصطدام جزيئات و ذرات و جسيمات هذا الجسم ذاته مع بعضها، و عندها يدخل الجسم الحالة الكمومية، و لكن ما زال الأمر ينطوي على صعوبة كبيرة بتقنيتنا الحالية لإحداث هذا لإنسان كامل.
|