قائد العلماء
ادعت حصل أوبنهايمر بعض الصحف الأميريكية أن حياة "روبرت أوبنهايمر "الذي لقب باسم "أبو القنبلة الذرية " هي حياة غامضة , الا أن الحقيقة غير ذلك ....
حصل " أوبنهايمر "على درجته الجامعية الأولى في الفيزيقا عام 1925 ثم التحق بجامعات أوربية عديدة لمدة أربع سنوات حيث تخصص في الفيزيقا النظرية . وفي عام 1929 عين عضوا في هيئة التدريس بجامعة كاليفورنيا ببركلى فأظهر امتيازا على أقرانه . وكان ( أوبنهايمر )فوق هذا مشهورا بثقافته العامة وسعة اطلاعه . فهو أحد المتخصصين في أديب ايطاليا الكبير ( دانتي ) ، ويتقن عدة لغات ، ويهوى تسلق الجبال ، وهو أولا وأخيرا عالم فيزيقا دولي مرموق .ومثل علماء أمريكيين وأوربيين كثيرين ، عرف (أوبنهايمر ) طريقه الى العمل في انتاج القنبلة الذرية من خلال جو الفزع العام الذي سيطر على علماء عديدين غداة نشوب الحرب العالمية لئلا تستطيع ألمانيا النازية أن تسبق الحلفاء في انتاج السلاح الرهيب واستخدامه .
وأسندت الى ( أوبنهايمر ) مهمة جد خطيرة وهي قيادة مجموعة من العلماء والمهندسين الذين صمموا أول قنبلة ذرية في معامل ( لوس الا موس ) تحت اسم ( مشروع ماناهاتن ) ثم أنتجوها بعد ذلك .
أنت المسئول ...يا ترومان !
انتهت روسيا السوفيتية من حربها في الجبهة الألمانية وبدأت قواتها في الشرق الأقصى التحول ضد اليابان .لذا كان العسكريون الأمريكيون حريصين على استخدام القنبلة الذرية ضد اليابان فورا كي يعجلوا باستسلامها قبل تقدم القوات السوفيتية نحوها . ومع أن ( الكسندر ساكس ) – المستشار الأقتصادي للرئيس الأمريكي (روزفلت ) – قد حاور الرئيس في ديسمبر 1944م حول ضرورة القيام ب"بروفة "أمام كل العالم لهذا السلاح قبل استخدامه الفعلي , ومع أن "روزفلت " قد وافق على هذا الاقتراح , الا أن وفاته المفاجئة وتولي "ترومان " رئاسة الجمهورية الأميركية قد غيرا المقف تغييرا كاملا .
ففور تسليم ترومان مقاليد السلطة عين في ابريل 1945م لجنة معظمها من العسكريين لتقدم له النصيحة حول استخدام القنبلة الذرية . وكان من الطبيعي في لجنة منم هذا النوع على رأسها وزير الحرب أن توصي باستخدام السلاح فورا وأن ترفض اقتراحات "مخففة "وضعت أمامها مثل ضرب غابة قريبة من طوكيو ليلا كنذير , أو اعطاء الأهالي انذارا بوقت كاف للجلاء عن المناطق التي سوف تضرب .
ولكن ترومان اختار أن يلقي قنابله الذرية على اليابان بشكل فعلي لابروفه وعلى المناطق الآهلة دون انذار سكانها !.. وذلك على الرغم من أنه كان واضحا من المفاوضات السرية أن اليابن كانت مستعدة للاستسلام اذا لم يتمسك الحلفاء بازاحة امبراطورها من السلطة !.
الصبي الصغير ..يروع العالم !!
ولما أشرقت شمس السادس من أغسطس 1945م ويا ليتها ما أشرت قامت الطائرة (ب29)تحمل الصبي الصغير –من هو ياترى هذا الصبي الصغير؟انه ليس بصبي ولا صغير , انه السم الحركي للقنبلة الذرية التي ألقيت على هيروشيما في تمام الثامنة والنصف صباحا ..
وبعد ثلاث أيام من هذا الحدث المروع ألقيت القنبلة الثانية على نجازاكي ولم يكن قد مضى على دخول الاتحاد السوفيتي الحرب ضد اليابان أكثر من 24 ساعة !.
وقد دلت الاحصائيات اليابانية على أن ضحايا قنبلة ناجازاكي هم 70000 قتيل , 130000 جريح من بينهم نحو 43000 جراحهم خطيرة وقدأعلنت قيادة الحلفاء في عام 1946م أن ضحايا هيروشيما هم 78150 قتيلا , 13983 مفقود , 9428 جراحهم خطيرة , 29997جراحهم خفيفة !!.
وعلى أثر هذه المذابح الرهيبة أنتهت الحرب –بالطبع –باستسلام اليابان .
صحوة .. ضمير .
وقعت الواقعة ، وبقى العلماء الأمريكان حيرى في مسئولياتهم ازاء كل ما حدث . وزاد من حيرتهم أن العالم الأمريكي (تيللر ) قد اقترح الاستفادة من الحرارة الهائلة الناتجة عن الانشطار في القنبلة الذرية لتفجير (القنبلة الانصهارية ) ، التي عرفت فيما بعد بالقنبلة الهيدروجينية ، وماذا كان موقف ( أوبنهايمر ) من هذا الاقتراح ياترى ؟ لقد وقف ضده بكل قوة وعارضه على أسس فنية وسياسية .
فقد كانت الحرب الباردة داخل لجنة الطاقة الذرية الأمريكية في عنفوانها حول موضوع بناء القنبلة الهيدروجينية ، كان ( أوبنهايمر ) ما يزال رئيسا للجنة الاستشارية في داخل اللجنة المشار اليها ، لكنه خسر الصراع في النهاية عندما تقرر بناء القنبلة الهيدروجينية . ولكن يكفيه أنه أرضى ضميره لعدم تكرار مآسى القنبلة الذرية ، وتمسكا بموقفه انسحب من رئاسته للجنة الاستشارية وقرر التفرغ لعمله في جامعة (برنستون ) .
( مسألة أوبنهايمر ) ...
ولكن هل حلا ل ( تيللر ) وأصدقاءه السياسيين أن يتركوا ( أوبنهايمر ) في عزلته الجديدة سالما ؟ كلا – ومن هنا بدأت الدراما السياسية الرهيبة التي عرفت باسم ( مسألة أوبنهايمر ). ولكن ما هي هذه المسألة ؟.
في ديسمبر 1953 تسلم ( أوبنهايمر ) وهو في معمله بجامعة (برنستون ) خطابا من لجنة مجلس الشيوخ الأمريكي يتضمن أربعة وعشرين اتهاما !! . وكانت خلاصة هذه الاتهامات أنه ليس صالحا للعمل في لجنة الطاقة الذرية الأمريكية وأانه قد تقرر بناء على ذلك سحب الترخيص الذي كان ممنوحا له بالاطلاع على الوثائق السرية للجنة .
محاكمة ... بأثر رجعي !
وأحيل ( أوبنهايمر ) للمحاكمة . واستمرت المحاكمة ثلاثة أسابيع ، ونشرت وثائقها بعد ذلك في تقرير كبير بعنوان ( حول مسألة أوبنهايمر ) . وأدانت اللجنة ( أبو القنبلة الذرية ) باعتباره خطرا على أمن الولايات المتحدة .
وقد كانت كل الاتهامات التي وجهت الى ( أوبنهايمر ) ، باستثناء الاتهام الأخير ، تتعلق باتصالاته قبل الحرب بعناصر ومنظمات يسارية أمريكية . ومع أنه لم ينكر هذه الاتصالات ، ورغم أن جنرال ( ليزلى جروتز ) عندما اختاره للعمل معه خلال الحرب كان يعرف كل هذه الارتباطات السياسية ، الا أن اللجنة قد صممت على أن تحاكمه حول هذه الاتصالات السياسية ، أي محاكمة بأثر رجعي !!.
جاليليو ... يعود من جديد !!
وأما الاتهام الأخير ، الرابع والعشرين ، فقد كان أخطر لأنه يتعلق بموقفه المعارض لانتاج القنبلة الهيدروجينية . وحول هذا الاتهام كان
(تيللر ) هو شاهد الاثبات الأول ، وكان رئيس لجنة الطاقة الذرية هو شاهد الإثبات الثاني . وبطبيعة الحال كانت شهادة هذين الاثنين ، غريمة وخليفته ، كافية لادانة ( أوبنهايمر ).
ومع أن ( أوبنهايمر ) كان بالفعل معارضا لانتاج القنبلة الهيدروجينية على أسس فنية وسياسية واضحة كما ذكرنا ، ولأن ضميره كان يعذبه للدور الذي لعبهه في قنابل اليابان الذرية بشكل مؤلم وواضح كما ذكرنا كذلك ، الا أن موقفه أثناء المحاكمه لم يكن مع الأسف بهذا الوضوح ! . فلقد تردد في ردوده على أسئلة اللجنة وتذبذب ، وكان هذا الموقف لم يكن في صالحه فادين .
لقد فقد العالم فيزيقي كبير شجاعته في هذه اللحظة التاريخية الحاسمة ، وبدلا من أن يدافع في ججرأة عن رأيه بدت محاكمته وكأنها تكرار مأساوي لموقف ( جاليليو ) عند محاكمته من قبل محاكم التفتيش .
ولكن قد يكون هذا الموقف غير الشجاع نفسه من ( أوبنهايمر ) هو الذي شفع له بعد ذلك أيام حكومة (كنيدي )، عندما قررت أن تمنحه أرفع جائزة علمية في جائزة (فيرمي ) . وعندما اغتيل (كنيدي ) قبل تسليمه الجائزة قام (جونسون ) بهذه المهمة وقال له : ( لقد كانت من أعز أمنيات كنيدي ، أن يقوم هو شخصيا بتسليمك الجائزة والميدالية ) .