شكل تعليم العلوم في السنوات الأربعين الماضية تحدياً اجتماعيا رئيسياً في مختلف البلدان لا سيما بعد أن ارتبط هذا التعليم بفكرة التنمية. لكن ورغم كل محاولات التجديد وتطوير المناهج فإن الأهداف الموضوعة لم تتحقق في معظم الأحيـان. ومنـذ بدايـة الثمانينـات بدأ يتضح للباحثين في مجال تعليم العلوم أن الحل ينطلق من تحليل، ومن زوايا نظر جديدة، لعناصر العلاقـة التعليمية وهـي: العلم والمتعلم والمؤسسة صاحبة المشروع التربوي الذي تتحدد في إطاره العلاقة بين المتعلم والعلم.
وتبين الورقة الأولى كيف أن التحليل الإبستمولوجي للعلم لا بد وأن يؤدي إلى الاستدلال على نتائج تعليمية. فأبستمولوجيا العلوم تعنى بالإنتاج العلمي وتحاول الإجابة على تساؤلات تتعلق بتعيين الأفاهيم الأساسية لعلم ما، وبالعلاقات التي تربط هذه الأفاهيم فيما بينها وبالتعديلات والتغييرات التي أدخلت على معانيها عبر التاريخ. ودراسة تاريخ إنتاج المعرفة العلمية يدل على شروط إنتاجها. فمن المهم إذاً إيضاح الإبستمولوجيا التي يرتكز عليها بناء منهج العلوم كي يمكن تحديد الخيارات المتعلقة بالأهداف والمحتوى والممارسات التعليمية وبالتالي الحكم على النتائج المحققة. والخيار الإبستمولوجي يتحكم إلى حد بعيد بما يمكن أن تحققه المناهج. فأحد الأسباب الرئيسية لإخفاق معظم مشاريع المناهج، التي أعدت في الستينات والسبعينات تحت عناوين مثل "البحث والتقصي" و "الاكتشاف"، هو أنها ارتكزت إلى أبستمولوجيا تقليدية، يعاد النظر فيها حالياً، وتعتبر أن إنتاج المعرفة العلمية يتم وفق ما يسمى بالطريقة التجريبية وقوامها: الملاحظة والفرضية والتجربة والنتائج والتفسير ثم الاستنتاج. أي أن بناء الأفهوم يتم وفق مسار خطي. بينما أظهرت البحوث التاريخية أن البناء يتم على نحوٍ متقطع سواء عبر قطيعة معرفية حسب غاستون باشلار أو عبر ثورة علمية حسب توماس كون. والإبستمولوجيا التقليدية تعطي دوراً رئيسياً للتجربة الحاسمة التي تدعم النظرية أو تقيم الدليل على صحتها مع استبعاد للتجارب التي تنقضها. ولا يخفى انعكاس هذه النظـرة على مسار الأنشطة المخبرية في المدرسة وعلى سياق عرض المحتوى في الكتب التعليمية: تجربة حاسمة ثم استقراء للقانون.
وحول علاقة المتعلم بالعلم توضح الورقة الأولى كيف أن التلميذ يقبل على تعلم العلوم وهو يمتلك تصورات خاصة به حول الظواهر الطبيعية والأفاهيم وأنماط تبريرها وتفسيرها. وتختلف هذه التصورات في مواقع كثيرة عن النماذج العلمية،إلاّ أنها تتصف بتنظيمها وبمنطقها الخاص وبتماسكها وبملاءمتها، بالنسبة للمتعلم، لتفسير بعض الظواهر، ولو جزئياً، مما يؤدي إلى جعلها أكثر ديمومة وأكثر تجذراً من التصورات والتبريرات الناتجة عن التعليم. ولا تتولد هذه التصورات وأنماط التبرير فقط عن الخبرات الاجتماعية والعاطفية التي يمر بها المتعلم ولا عن تعامله مع الأشياء فقط بل إنها في كثير من الأحيان هي نتاج للتعليم. فلقد أظهرت البحوث وجود مثل هذه التصورات عند المعلمين ومؤلفي الكتب والخبراء في تعليم العلوم. والكشف عن وجود التصورات أدى إلى إحداث تغيير جذري في إعداد المناهج سواء لجهة الأهداف التعليمية أو المحتوى مثلا" (منهج الفيزياء للصفين الثالث والرابع من المرحلة المتوسطة في فرنسا) أو لجهة إعداد المعلمين بعد أن كان معلم العلوم لا يفهم لماذا يخطئ المتعلم أو لا يفهم. كما طورت مؤخرا" استراتيجيات وأنشطة تعليمية يصل المتعلم في نهايتها إلى استبدال تفسيراته الخاصة بأخرى علمية وفق اواليات التغيير الأفهومي. إلا أنه بدأت بالظهور بعض الانتقادات إلى النظرة التبسيطية لعملية التغيير الأفهومي. فقد لفت عدد من الباحثين الإنتباه إلى استحالة تحقيق هذا التغيير عبر إحداث صراع لدى المتعلم بين منظومته الأفهومية وبين معطيات التجربة خلال حصة تعليمية واحدة أو اثنتين. فصعوبة تكوين نظرة علمية شاملة حول الموضوع خلال فترة قصيرة فقط يسمح بتغييرات هشة وغير جذرية.
وتتناول الورقة الثانية (الأيوبي) تطور مناهج العلوم وبالتحديد الأميركية منها مع حصر التحليل بالأهداف وبالمحتوى. فرغم ما أظهرته الدراسات المقارنة من ضعف نظام تعليم العلوم الأميركي فإن هذا النظام قد باشر حركة التجديد منذ الخمسينات وأنتج أعدادا" كبيرة من مشاريع المناهج التي تتنوع بمرتكزاتها الفلسفية والنفسية وإستراتيجياتها للتعليم وبوسائلها التعليمية مما أغرى معظم بلدان العالم بتطبيق هذه المناهج بحذافيرها أو بعد تكييف. كما يتميز هذا النظام بسرعة ربط البحث بالممارسة. ولهذا الغرض تصدر الجمعية القومية لمعلمي العلوم في الولايات المتحدة (NSTA) سلسلة من المطبوعات تحت عنوان: ماذا يقول البحث لمعلم العلوم؟ ?What Research Says to the Science Teacher .ونشير في هذا السياق إلى أن تأسيس مراكز البحث في تعليم العلوم في الولايات المتحدة وفي أوروبا قد ترافق دائماً مع إنطلاقة حركة تجديد مناهج العلوم حيث كان إسهام رجال العلم في الجامعات أو عبر التجمعات المهنية والأكاديمية كبيراً.
توضح الورقة الثانية أيضاً أن مشاريع المناهج، التي ركزت على البنية المنطقية للمادة العلمية وعلى بناء النماذج الأفهومية وعلى المحتوى، كما هو حال مناهج العلوم الحالية في لبنان، قد أخفقت في تحقيق هدف إعداد التلاميذ كي يصيروا لاحقاً من أصحاب الكفاءات العلمية العليا. وبدورها لم تنجح مشاريع الموجة الثانية، التي أعدت تحت شعار "علم من أجل جميع التلاميذ" في تحقيق أهدافها، إذ لم يرتفع عدد الخريجين من أصحاب الكفاءات العلمية ولم يتأكد إعداد المواطنين المثقفين علمياً لأن المبالغة في تقليص المحتوى قد تؤدي إلى عدم تزويد المتعلمين بما يلزم لاحقا من معرفة علمية. كما أن الإهتمام الزائد بالمشكلات الاجتماعية الناجمة عن العلم والتكنولوجيا وجعلها محور منهج العلوم لم يلق تأييداً واسعاً. وأثبتت كل هذه التجارب أن أخذ العوامل الاقتصادية والاجتماعية وحدها في الحسبان عند إعداد المنهج غير كاف لتحقيق الأهداف.
أما في التسعينات فقد ترافقت حركة تجديد المناهج مع تغيير جذري في وظيفة وفي دور المؤسسة مع نظرة جديدة إلى مناهج العلوم. فمن المعروف أن مشاريع المناهج الأميركية هي محلية ولا تطبق على المستوى القومي. ويختص كل واحد منها بصف معين ولا يتناول مرحلة تعليمية بكاملها. وتجاوزاً لهذه الصيغة باتجاه نموذج المنهج القومي المتكامل، واقتداءً بما حصل في مجال تعليم الرياضيات، استوحى المجلس القومي للبحث National Research Council (NRC) ، التابع لأكاديمية العلوم والهندسة، من مشروعي SS & C و Project 2061 المعايير Standards التي ينبغي الأخذ بها في إعداد أي مشروع. كانت هذه المعايير حصيلة عمل شمل في مراحله الأخيرة مراجعة آراء ثلاثين فريق عمل وأربعين ألف جهة معنية بالموضوع وآلاف الردود الفردية. وقد أعلن المجلس هذه المعايير في تشرين الثاني من عام 1994 تحت شعار: إعداد علمي أساسي لجميع الأميركيين، وهو الإعداد الذي يسمح لكل فرد باتخاذ قرارات حكيمة كمواطن (بيئة، طاقة...) أو كفرد (صحة، غذاء، تزايد عدد السكان...) على أن يشجع هذا الإعداد الفضول والحشرية ويولد لذة الاكتشاف وفهم العالم الطبيعي والتكنولوجي، وأن يسهم في تحسين ممارسة الديمقراطية وفي زيادة الإنتاجية الاقتصادية للمجتمعات الحديثة والمعقدة حيث تتزايد المعارف والمهارات العلمية والتقنية. وتتناول المعايير مختلف عناصر النظام التعليمي: المحتوى والأهداف وكيفية التعليم وإعداد المعلمين والتقييم والامتحانات والظروف الإدارية والتنظيمية لعملية التعليم. ويرى الخبراء في هذه المعايير إنقلاباً في مسار عملية التطوير التربوي في الولايات المتحدة، فهناك تحول من اللامركزية المطلقة إلى مركزية التوجيه والمراقبة. وقد صدرت عن خبراء في فرنسا دعوات لاتخاذ خطوات مماثلة بعد أن بدأت اليابان سلوك المسار نفسه.
وفي سياق مناقشة المشاركين في الحلقة الدراسية للورقتين المقدمتين أثيرت تساؤلات حول مشروع مناهج العلوم في لبنان والذي هو في طور الإعداد. من هذه التساؤلات:
ما هي الإبستمولوجيا ونظرية التعلم التي ترتكز عليها هذه المناهج؟
وإلى أي حد أخذت بعين الاعتبار تصورات التلاميذ اللبنانيين؟
هل هي مناهج للنخبة أم لكافة المتعلمين؟
هل تراعي المناهج الجديدة الإطار الثقافي للمجتمع بقدر مراعاتها للحاجات وللتطورات العلمية؟
بما أن فعالية أي تغيير في المنهج تتوقف بصورة مباشرة على إعداد المعلمين، فهل سيترافق هذا التغيير مع تغيير جذري في ما يحدث داخل الصف أو في الامتحانات؟
وبقيت هذه التساؤلات من دون إجابات نهائية بانتظار صدور المناهج كاملة والبدء بتطبيقها.