قصور الفيزياء التقليدية ونشوء نظرية الكم
في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر ظن الفيزيائيون أنهم وصلوا إلى بناء متكامل لعلم الفيزياء ففيزياء نيوتن تفسر وتحل الميكانيكا وحركة الأجسام ومعادلات ماكسويل تصف وتتنبأ بطبيعة الموجات والثيرموديناميك والميكانيكا الإحصائية التي تعتبر من القوانين الأكثر عمومية في الفيزياء التقليدية وبهذه الفروع قد تكامل هذا العلم فهذه القوانين تفسر تقريبا كل الظواهر المكتشفة في ذلك الوقت, ولكن بوجود علماء ثاقبي النظرة الذين كانوا يرون بعض نقاط الضعف في هذا الصرح الشامخ جعل الأمر بالنسبة لهم ليس كما يتصوره الآخرون , فهناك بعض الظواهر التي أقضت مضاجعهم لم يجدوا لها تفسير ولم يستطيعوا حلها ولو بجمع معادلات الفروع المختلفة مع بعضها البعض.
ومن الممكن أن نلخص هذه الصعوبات بمجموعتين الأولى هي عدم استطاعتهم اكتشاف حركة الأرض عن طريق ملاحظتهم لأشعة الضوء وأيضاً مخالفة مدار عطارد لقوانين فيزياء نيوتن وتنبؤاتها , أما المجموعة الثانية فتكمن في تعارض القيم التي قيست في المعمل مع القيم النظرية وذلك في كلاً من الحرارة النوعية للغازات وخطوط الطيف المرئية المنفصلة وأيضاً أشعة الجسم الأسود, ولقد فسرت المجموعة بعد ذلك بالنسبية لاينشتاين أما المجموعة الثانية ففسرت بنظرية الكم الذي أشعل فتيلها العالم الألماني بلانك وأحدثت ثورة في الفيزياء كما أحدثته النظرية النسبية وتعتبر هاتين النظرتين عماد الفيزياء الحديثة وفي هذا المقام سوف نلقي الضوء على نظرية الكم كيف ظهرت وأين تكمن نقاط ضعف الفيزياء التقليدية وكيف حلت النظرية الكمية لهذه الصعوبات.
تعرف الحرارة النوعية للمادة بأنها كمية الحرارة اللازمة لرفع جرام واحد درجة حرارة مئوية واحدة. من هذا التعريف نعرف أيضاً أنه عندما نرفع درجة الحرارة فإن متوسط الطاقة الحركية لجزيئات المادة سوف تزداد وأن معدل زيادة متوسط الطاقة الحركية هي نفسها لجميع درجات الحرارة وهذه من وجهة نظر الفيزياء التقليدية لكن النتائج التجريبية تعارض ذلك فالنتائج أظهرت الحرارة النوعية للغاز في درجات الحرارة المنخفضة تقل كلما ازدادت البرودة , وبحكم ارتباط نظرية ماكسويل الحركية بقوانين نيوتن - حيث تعتبر نظرية ماكسويل انبثاق من قوانين نيوتن - فإن قوانين نيوتن تعتبر قاصرة وهذه بداية تصدع بناء الفيزياء التقليدية الرائع.
ولنأخذ الصعوبة الأخرى المتمثلة بإشعاع الجسم الأسود - الجسم الأسود هو جسم مثالي يمتص جميع الأشعة الساقطة عليه ولا يعكس أي شعاع ولصعوبة إيجاد هذا الجسم فلقد اعتبر جسم كروي مفرغ من الداخل ومعتم وفيه ثقب صغير جدا كمثال على الجسم الأسود – فلو سلطنا شعاع داخل الجسم فإن هذا الشعاع سوف يعاني من انعكاسات كثيرة ونظرا لصغر احتمال خروج الأشعة من الثقب فإن أكثر الأشعة سوف تمتص من قبل السطح الداخلي للجسم وهو في نفس الوقت يشع إشعاع بنفس معدل امتصاصه للإشعاع (وذلك خلال التوازن الحراري) - وللتفرقة بين الإشعاع والانعكاس فإن الإشعاع عبارة عن أشعة تختلف في ترددها وخصائصها عن الأشعة الممتصة أما الانعكاس فإن الأشعة المنعكسة لها نفس تردد وخصائص الأشعة الساقطة حيث لا تعاني من أي تفاعل مع السطح العاكس - فلو أخذنا الأشعة الصادرة من داخل الجسم وحللناها إلى طيفها بواسطة المنشور ومن ثم قياس شد إشعاع كل طول موجي أي كل لون بواسطة الفوتوميتر , وعند تحصيل نتائج هذه التجربة مثلت العلاقة بيانيا بين شدة الإشعاع كمتغير تابع أي بالمحور العمودي و الطول الموجي على المحور الأفقي كمتغير مستقل فوجد بلانك أن هذه العلاقة البيانية تتميز ببعض السمات هي كالتالي:
عند الأطوال الموجية نلاحظ القيمة المنخفضة لشدة الإشعاع بينما تكون ذروتها عند لون معين ثم المنحنى ينخفض إلى الصفر بصورة سريعة عند الأطوال الموجية القصيرة ولاحظ أيضا أنه بزيادة درجة الحرارة فإن قمة المنحنى ينزاح إلى الأطوال الموجية القصيرة وأن المساحة تحت هذا المنحنى تزداد أيضا بزيادة درجة الحرارة وتعبر هذه المساحة عن الطاقة الكلية الصادرة من داخل الجسم في الثانية الواحدة وبالتالي فإن معدل إشعاع الجسم يزداد. ولذلك لوحظ أن زيادة درجة الحرارة تزيد من سرعة إشعاع الجسم في كافة الألوان وأن لون الإشعاع يتغير من الأحمر مرورا بالأزرق الضارب وأخيرا إلى الأبيض.
بالنسبة للفيزياء التقليدية استنتجت من هذه المعلومات بعض النتائج فلوحظ أن معدل إشعاع الجسم للطاقة يتناسب طرديا مع القوة الرابعة لدرجة الحرارة المطلقة وقد استنتج هذه العلاقة تجريبيا بولتزمان أما نظريا فاستنتجها ستيفان ولذلك يطلق على هذا القانون قانون ستيفان-بولتزمان . أما القانون الثاني فهو العلاقة بين قيمة قمة المنحنى ودرجة الحرارة وذلك حينما نضرب قيمة قمة المنحنى بدرجة الحرارة الخاصة به فإن الناتج هو العدد نفسه أي عدد ثابت وسميت هذه العلاقة بقانون فين للإزاحة وقد استنتجها فين من قوانين ماكسويل للإشعاع.
بهذين الاستنتاجين تكون أقصى ما توصلت له الفيزياء التقليدية ولذلك لم تستطع أن تجيب على الأسئلة التالية:
لماذا تتحكم درجة الحرارة بلون ( بتردد ) الإشعاع الصادر؟ ولماذا تتطلب الألوان ذات الأطوال الموجية القصيرة درجات حرارة عالية ؟.
عند دراسة بلانك لأشعة الجسم الأسود افترض بعض الفرضيات , فافترض أن الطريقة التي تتفاعل بها الأشعة مع الوسط المادي للسطح الداخلي لجسم – مع افتراض أن الأشعة داخل الجسم عبارة عن أشعة موقوفة أو مستقرة وأن هذه الأشعة أو الموجات تشبه الموجات التي تنشأ من اهتزاز وتر كمان أي أن هناك عقد منتشرة على طول الموجة الموقوفة والتي لها البعد نفسه عن بعضها البعض واهتزاز هذه الموجات تكون بشكل متساوي أي لها سعات متساوية – أن هذه الموجات تهتز كما يهتز جسم مربوط بنابض اهتزازا حرا, فلذلك افترض أننا لو أخذنا أحد هذه الموجات ونظرنا إلى طرفيها المتصلان بالجدار لوجدنا أنها موصولة بهزاز صغير , وبما أننا أدخلنا مفهوم الهزاز فلابد من دخول مفهوم الفعل وذلك لعلاقة الفعل بسعة الاهتزاز , إن الفعل في حالة اهتزازة واحدة يساوي حاصل قسمة الطاقة الكلية للهزاز على تردده ومن هذه العلاقة نجد أن الطاقة لهزاز واحد له تردد معين هي عبارة عن حاصل ضرب الفعل بهذا التردد , ولحساب طاقة جميع الهزازات استعان بلانك بهذه الصيغة وبصيغة الاحتمال لبولتزمان , وبذلك علم أنه حصل على صيغة جديدة تختلف عن الصيغة التي تفترضها صيغة رايلي – جينز والتي تعتمد على مبدأ تساوي توزيع الطاقة بين درجات الحرية حيث أثبتت هذه الأخيرة قصورها لتفسير الأشعة ذات الترددات العالية حيث تفترض أن متوسط الطاقة مساوية لضرب ثابت بولتزمان بدرجة الحرارة المطلقة ولذلك ظهرت ما تسمى كارثة الأشعة الفوق بنفسجية.
وللتغلب على هذه المشكلة استعان فين بصيغة إحصاء بولتزمان فكانت طريقة جيدة لتفسير الترددات العالية ولكنها لم تستطع أن تفسر الإشعاع عند الترددات المنخفضة, ولذلك ظهر بلانك بصيغته الجديدة مستعينا بمبدأ الفعل والتردد المضروبين ودمجها مع إحصاء بولتزمان للحصول على طاقة الهزازات.
ولكن ظهرت مشكلة ألا وهي انتهاء قيمة الفعل إلى الصفر وذلك اعتمادا على الفيزياء التقليدية التي تقول بأن الفعل يؤول إلى الصفر وهذا القول يقود صيغة بلانك الجديدة إلى صيغة رايلي - جينز القاصرة , وقد حصل على هذه المشكلة بعد سلسلة من نتائج دراسته التي استخدم بها العديد من القيم العددية , ولكن لاحظ أن هذه المشكلة تظهر بعد قيمة معينة للفعل - وهذه القيمة ما تعرف اليوم بثابت بلانك - ولذلك فرض مبدأ تكميم الفعل وبالتالي تكميم الطاقة وبهذه الفكرة الثورية بدأ عصر جديد في الفيزياء التي فتحت الآفاق لهذا العلم بأن تكثر فروعه.
وبالنظر إلى هذه الفكرة واجهت بلانك مشكلة الطبيعة الجسيمية للموجة ولذلك افترض أن بداية الموجة عبارة عن كم من الطاقة ما تلبث أن تتحول فوراً إلى موجة.
ولقد استفاد اينشتاين من هذه الفكرة في تفسير ظاهرة الكهروضوئي والتي قال فيها أن الضوء عبارة عن جسيمات - كقول نيوتن من قبله - وأيضا هي عبارة عن موجات - وهذه بداية ظهور الطبيعة المزدوجة (جسيم – موجة) - ولكنها ليست كالجسيمات العادية فإن هذه الجسيمات - والتي أطلق عليها اسم فوتونات - لها كتلة سكونية صفرية وفسر بها هذه الظاهر وقال أن الفوتون والذي هو عبارة عن كم من الطاقة يعطي طاقته للإلكترون الموجود في المادة أو المعدن ومن ثم إن كانت هذه الطاقة أكبر من طاقة ربط الإلكترون داخل المعدن فإنه سوف يتحرر ويكون تيار كهربائي.
ولقد عزز أيضاً فكرة اينشتاين وبلانك العالم كمتون وذلك بتفسيره لظاهرة حيود الأشعة السينية بأن الأشعة السينية عبارة عن كمات من الطاقة تتصادم مع الكترونات المادة المستهدفة ومن ثم تحيد عن مسارها بسبب هذا التصادم. ولقد فسر اينشتاين وحل مشكلة الحرارة النوعية بصيغة بلانك لمتوسط الطاقة .
ومن فكرة اينشتاين في الطبيعة المزدوجة استنتج الأمير دي برولي أن للجسيمات طبيعة موجية كما أن للموجات طبيعة جسيمية ولقد استنتج قانون طول الموجة المصاحبة والتي تعتمد على كل من كمية الحركة وكم الفعل الأولي ( أي ثابت بلانك) , ومن هذه الأفكار نتج ما يسمى اليوم بميكانيكا الكم والتي تأخذ بالحسبان الطبيعة الموجية للجسيمات وتأثيرها عليه.
والجدير بالذكر أن نظرية الكم أو ميكانيكا الكم تعتبر تعميم لفيزياء نيوتن ولكن تطبق هذه النظرية على الجسيمات الذرية وتحت الذرية نظراً لاختفاء التأثير الموجي للجسيمات الكبيرة وظهور هذا التأثير بشكل لا يقبل إهماله في الجسيمات المتناهية الصغر.