لقد برز أثر الفراغ بروزاً بيِّناً في محاولة أينشتاين بناء نظرية للمجال الموحَّد. أما ما أدهش الفيزيائيين بحق فكان اكتشاف ديراك أن الفراغ ينطوي على محيط من الإلكترونات السالبة الطاقة، المرتبة وفق تناظرات تبلغ حد الكمال. يعجز الباحث عن تحسُّس أحد هذه الإلكترونات ما لم يقتلعه من سكونه المطلق عن طريق صدمه بفوتون عالي الطاقة؛ عندئذٍ يجسد الإلكترون ذاته في هيئة إلكترون موجب. وكما هي حال الإلكترون، كذا هو شأن القسيمات الأخرى؛ فلكلِّ قسيم particle محيطه الخاص. تتداخل المحيطات وتتراكب، ولا قاع لأيٍّ منها. تتخلل هذا الموج المتلاطم قسيمات طاقة يحمل كل منها طاقة مساوية للصفر تماماً. خلص ديراك إلى اكتشافه بتطبيق الموضوعة الأساسية للنسبية الخاصة على معادلة شرودنغر الكوانتية. ألمح الحلاج إلى أمثال هذه المحيطات بقوله: "وكل ما يقع عليه بصر أحد فهو نقطة بين نقطتين." إنه عود إلى الكون الساكن مطلقاً الذي تصوَّرته الميتافيزياء.
هنا لا بدَّ من أن نعرج على مبدأ هايزنبرغ في الريبة: يحدد هذا المبدأ أصول تعاملنا مع الطبيعة؛ وهو ينص على تعذُّر المتابعة الفعلية للمتغيرات الفيزيائية في نفس الوقت. فلو حاولنا حساب طاقة قسيم حساباً دقيقاً لأضعنا دقة مقابلة في حصر الفترة الزمنية التي تَعامَل القسيم في أثنائها مع كمية الطاقة المشار إليها. على العكس، لو نجحنا في تحديد الفترة الزمنية التي تفاعل القسيم في أثنائها مع قدر من الطاقة لما أمكننا تقييم ذلك القدر على نحو مُرْضٍ. يُدعى صنف من أصناف القسيمات باللبتونات leptons؛ وتنتمي الإلكترونات لهذا الصنف. تتحسَّس هذه القسيمات بعضها بعضاً بتبادل قسيمات وساطة أكبر منها كتلة. لكن كيف يتأتى لقسيمات خفيفة كاللبتونات أن تتبادل قسيمات الوساطة المذكورة العظيمة الكتل؟ نستعين في سياق التفسير بمعادلة أينشتاين التاريخية التي تنصُّ على أن الطاقة تساوي جداء الكتلة في مربع سرعة الضوء: E = m.c2.
تستطيع قسيمات الوساطة أن تقترض ما تشاء من الطاقة ما دامت عملية الإقراض هذه تتم أثناء فترة زمنية بالغة القصر، أقل مما يفرضه مبدأ هايزنبرغ في الريبة Uncertainty principle. يترجم قرض الطاقة إلى كتلة (وفق معادلة أينشتاين المذكورة) هي كتلة القسيم الوسيط. لكن لما كانت مدة القرض غاية في القصر فلا بدَّ أن يسدِّد القسيم الوسيط ما اقترضه من الطاقة. ولا يمكن حدوث ذلك إلا بامتصاص أحد الليبتونات له. تدعى هذه المدة بـ"فترة هايزنبرغ"، وتتميز بولادة الطاقة من لا شيء في أثنائها. بكلمة أوضح، تُخرَق كل نواميس الطبيعة أثناء الفترة المذكورة، أي يتم الخلق من العدم والعودة إلى العدم. وعلى الرغم من انتماء القسيمات الوسيطة للمحيطات الوهمية إلا أن لها أثراً حقيقياً. من ذلك مثلاً انخفاض شحنة الإلكترون بسبب القسيمات الوهمية التي تحيط به والتي تحول بيننا وبين جزء من شحنة الإلكترون. نقرأ هنا الحلاج مرة أخرى: "وغيبتك بالاحتجاب لا بالارتحال."
على الرغم من اعتماد شِقَّيْ الفيزياء المعاصرة (النسبية والميكانيكا الكوانتية) الرياضياتِ المجردة فإن هذين الشقين يصوِّران عالمين مختلفين. تذهب النسبية إلى أن العالم محكوم بسببية صارمة؛ أما الميكانيكا الكوانتية فإنها ترسم العالم في هيئة أحوال متباينة، لكلِّ حال منها احتماله الخاص في التحقق. ما يهمنا هنا هو المعين الذي يستمد منه الشقان التفاصيل اللازمة لصياغتهما. نذكر، على سبيل المثال وليس الحصر، توقُّف الميكانيكا الكوانتية على فضاء هلبرت، والتصاق نسبية أينشتاين بهندسة ريمن. نؤكد بأن الرياضيات اختراع عقلي صرف. بذا تكون المقولات الفيزيائية بدورها اختراع عقلي صرف. وعلى الرغم من تأكيد أينشتاين على موضوعية العالم فقد أصر على رأيه القائل بأن القانون الفيزيائي هو إبداع عقلي صرف.
إن للسببية وجهين: فإما أن تكون سببية إحصائية منقطعة الجذور؛ وإذ ذاك لا يمكن تفسير القوانين الفيزيائية السببية إلا بكونها تخييلات فرضها عَسَفُ الفكر البشري. وإما أن تكون سببية معرفية؛ عندها نستطيع قبول القوانين المذكورة باعتبارها مفسِّرة لذاتها. وهكذا نجد أنفسنا – دون تحضير مسبق – في أروقة الميتافيزياء.
نقلِّب، من ناحية أخرى، دفاتر الميكانيكا الكوانتية. أضاعت التجارب المتأخرة الهوية الحقيقية للإلكترون؛ فهو ليس بقسيم كما أنه ليس بموجة. هل يعقل أن يكون الإلكترون مفتقراً إلى السمات المكانية والزمانية؟ كيف ذلك وتجمعات الإلكترونات تبدو مالكة لتلك السمات؟! هل تتأتى الريبة الكوانتية، في سياق تنفيذ القياسات الدقيقة، عن حقيقة محبطة تفيد بعدم وجود أشياء دقيقة يمكن قياسها؟ مرة أخرى، نكتشف أننا تحوَّلنا إلى مصطلحات الميتافيزياء.
لقد سُنَّت قوانين الفيزياء بهدف إلغاء السمة الشمولية للمصطلحات. فعوضاً عن الحديث عن الحرارة والبرودة، نقرر أن درجة الحرارة تساوي عدداً معيناً. وبصورة مماثلة، نصبُّ باقي المصطلحات في حقل الأعداد، ثم نعمد، في مرحلة تالية، إلى تجريد مختلف الأعداد وإقامة علاقات بين رموزها. تلكم هي قوانين الفيزياء. أليست اختراعاً عقلياً بالفعل؟ إننا نكمِّم العالم، بينما يعدم العالم أي تكميم.
يذهب بعض مفسِّري الميكانيكا الكوانتية إلى أن المعالم معدومة في الوجود، وأن العالم هيولي البنية. نجد في آليات عمل الجهاز العصبي ما يؤيد ذلك؛ فالمعلومات التي تقدمها حواسنا ليست موجودة في المحيط وفق التشكيلات التي ندركها. إن عقولنا هي المسؤولة عن بناء الإشارات الواردة فيما يُخيَّل إلينا أنه عالم موجود خارجنا، ومستقل عن إرادتنا؛ وبالتالي، فالأسباب التي نلمسها ليست إلا آثاراً. يحق لنا أن نتساءل إن كانت الأسباب موجودة فعلاً، أم أنها مجرد مصادرات نظرية. أما من يقول بالاحتكام للواقع فنذكِّره بالتناظر القائم بين علاقة القانون الفيزيائي بالواقع، من ناحية، وبين ارتباط المقولة الأخلاقية بالفعل، من ناحية أخرى.
على أية حال، يُطمْئِننا القانون الفيزيائي بأن تفسير العالم أمر ممكن. بكلمات أدق: إن خلق العالم أمر معقول، وهو خلق مستمر يشارك الفكر الإنساني فيه مشاركة فعالة. وتتم عملية الخلق هذه في حقل ميتافيزيائي لا انفصال فيه.
إذا قرر العقل أن العالم كان موجوداً قبله وسيستمر من بعده، فإنما يقرر ذلك على خلفية حقيقية مفادها أن هذه المقولات وأمثالها إنما هي تشكيلات عقلية، وأن تفسيرها، بدوره، تشكيل عقلي. لعمري ما الذي سيحدث لكلِّ تلك التشكيلات لحظة الانهيار الفيزيائي للدماغ؟ إن كان العقل مرجعاً على هذا النحو فلنا في قول ابن عربي دليل: "لا إله بلا مألوه"!
يطفو القانون الفيزيائي على السطح في خضم جَيَشان الخلق المستمر. يؤكد لنا أحد القوانين انجذاب الأجسام المختلفة الشحنة الكهربائية بعضها إلى بعض. لكن ما الذي يحدث فعلاً عندما يتجاذب الجسمان أمام أنظارنا؟ قرر نيوتن أن الأجسام كلها تتجاذب بفعل القوة الثقالية. فلنتصور معاً الأرض والشمس وقد تجاذبتا إثر اتفاق بينهما على وجوب انطباق قانون نيوتن في حالتهما. هكذا يبدأ التجاذب بينهما بُعيد تحقُّقهما من اشتراطات القانون. إنه حديث يفتقر إلى المعقولية، ويدفعنا إلى وضع لا نستطيع معه إلا أن نقبل بأن القوانين الفيزيائية هي ترجيعات وأصداء عقولنا.
وكما نفعل عند إنشائنا بنى رياضية جديدة، على الأخص عند تعريف عناصر مستحدثة، كذلك ننهج في الفيزياء. فالكتلة، والشحنة الكهربائية التناظرية، وشحنة الغرابة، وسواها، إنما هي عناصر من هذا القبيل. تتقدم الرياضيات بإضافة الموضوعات؛ وكذلك تفعل الفيزياء. تقوَّم نظرية فيزيائية معينة، من حيث كونها مقررة أو احتمالية، بالاحتكام إلى موضوعاتها الخاصة. وهكذا قد لا يكون العالم سببياً أو احتمالياً أو أي شيء آخر!
يتبع