علينا ألا نعتقد بإمكانية التحقق التجريبي من الموضوعات. إن أحدث تجريب على هذا الصعيد هو التجريب العقلي، من نحو الإبحار ذهنياً بعكس التيار الزمني حتى الهنيهات الأولى بعيد ولادة الكون، بغية التحقق من بعض الموضوعات الفيزيائية الحديثة.
الحق نقول، إن التطورات الأخيرة في الفيزياء قلَّصت من القيود التي ينبغي فرضها على منظومة موضوعاتية فيزيائية، إلى حد أنها لم تُبقِ إلا على قيد واحد، ألا وهو الاتساق الداخلي بين موضوعات المنظومة. ولا غرو في ذلك؛ فالاتساق الداخلي هو القيد الوحيد الذي يجب أخذه بعين الاعتبار عند بناء أي هيكل رياضي. ما الذي يمنع من قبول موضوعة الفراغ أو المطلق بُعيد إسقاط قيد الوضوح الذي كان يُطلَب فيما مضى؟ إن محاولة دحض إحدى الموضوعات في الفيزياء المعاصرة تؤدي في نهاية المطاف إلى تأييد صحة الموضوعة. فإذا قلنا باتصال العالم انتهينا إلى انفصال مكوِّناته؛ والعكس بالعكس. فيا للعجب! هذا هو شأن الميتافيزياء أيضاً. فصحة موضوعة ميتافيزيائية ما هي إلا نفي لها؛ كذلك نفي الموضوعة يعني صحتها. هذا ما دعا الميتافيزيائيين إلى القول بضرورة تقدُّم الميتافيزياء بلا موضوعات. ولعل ذلك هو ما دفع الفيزيائيين إلى اتهام الميتافيزيائيين بالعداء للعلم، على الرغم من أن العلوم المعاصرة نبتت على جذور المحاولات الميتافيزيائية الأولى. تُرَدُّ البنى الرياضية، على سبيل المثال لا الحصر، إلى أطروحات أفلاطون الجدلية.
يجب ألا نعجب لأن هناك أكثر من مدرسة في الفيزياء والعلم بصورة عامة. فالميتافيزياء هي الأصل، وهي ليست نهجاً وحيداً؛ إنها مطامح لمفكِّرين متباعدين. وكما أن الفيزيائي طالب معرفة، كذا هو شأن الميتافيزيائي. يتفق الفيزيائي والميتافيزيائي على ضرورة هجر الإيمان بالأشياء. ويعني هذا، فيما يعنيه، أن مبدأ التسامي فوق مصادرة الشيئية هو حجر الزاوية لكل نشاط فكري خلاق. إنما لا زال بعض التجريبيين يمارون في رفض هذا المبدأ. يصادر الإيمان بالأشياء المقدرة على المناقشة والتأمل؛ ناهيك أن ما نراه مباشرة يعدم أي تعريف إلا التعريف الاصطلاحي، تماماً كالمفردات اللغوية التي هي مجرد اصطلاحات.
إن ادَّعت الفيزياء أنها تكتفي بظاهر الأحوال فتلكم دعوى باطلة. فالاستكمال المطَّرد والتدريجي للنموذج الرياضي الذهني الممثل للقانون الفيزيائي ما هو إلا اقتراب من معرفة الشيء لذاته، لا سيما أن الشيء، أصلاً، هو هيئة عقلية باطنة. تُحَلُّ إشكالية الإيمان بإضافة التمثل؛ وإذ ذاك نعود إلى ثنائي نظرية المعرفة، أي الاستنتاج والحدس.
ما هو عدد العناصر الذي يمكن أن يُقحَم في نظرية؟ يجيب الرياضيون بأن الأمر ليس اختيارياً على الإطلاق؛ إذ إنه يتوقف على ما يُعرَف بدرجات الحرية. تساوي هذه الدرجات عدد العناصر المعتمَدة، مطروحاً منه عدد المعادلات التي تربط بين تلك العناصر. توصف هذه المعادلات بأنها معادلات مقيدة؛ أما عددها فيتناسب عكساً مع درجة كمال التناظر الذي يقبل العقل به كقالب للنظرية. نذكِّر بالأصول التناظرية لقوانين الانحفاظ؛ فانحفاظ الطاقة انعكاس لتجانس الزمان، على سبيل المثال وليس الحصر. وعن الحرية الإنسانية نقول: إنها حرية بالغة التقييد؛ ونعزو ذلك إلى العدد الكبير من القيود المفروضة على العناصر الداخلة في البنى البيولوجية.
انطلق الكون من تناظر أكمل، واتَّسمت مسيرته بكسر التناظرات القائمة في مراحل متتالية. هكذا ولدت القوى الكونية المعروفة في سياق كسر تناظرات محددة. يحاول الفيزيائيون الآن قراءة التاريخ الكوني في محاولة للوصول إلى التناظر الأول فيما يدعونه اصطلاحاً القوة الموحدة الفائقة. ليست هذه القوة هي كل شيء؛ ببساطة لأنها تعجز عن ترجمة الإنسان! هل يعني ذلك ضرورة الإبحار وراء تلك القوة بحثاً عن الترجمة المنشودة؟ ما الذي سنلتقيه بُعيد إبحارنا يا ترى؟ أهو مطلق لم ينجم عن أي تناظر، بل تجاوَز كل التناظرات ولم ينلْ منه أيُّ انكسار؟ أيضم ذلك المطلق، بالتالي، خفايا الإنسان؟ يتأيد هذا التصور بالمدى الشاسع للعالم الداخلي للذات وبرحابته بالقياس إلى ضآلة الكون الفيزيائي، على اتساعه الهائل. ألا يضيق المتأمل ذرعاً بكون متواتر الهيئات، مكرِّر لنفسه في كل الاتجاهات؟!
نقبل اليوم ما سبق للحكمة القديمة أن أكدته من أن كل جسم هو كون مصغَّر، وأن الجسم أسير المكان والزمان. حري بنا أن نُنزِل عملية المعرفة إلى منزلتها اللائقة، لا أن نقلِّصها في إطار تطبيقات مفتقرة للمعنى. فكما أن الاحتواء الوجودي هو مبدأ الكينونة، كذا أمر المعرفة؛ فهي أسيرة الحقيقة.