المذكور أو يُضعِف ارتباط الأنا بالفكرة العاملة لتحقيق ذاتها، تلك الفكرة التي يمكن أن ندعوها أيضاً الخافية الكونية cosmic unconscious. نضرب مثلاً الأطباء المعاصرين الذين يرفضون تقارب الفيزياء والميتاقيزياء ظناً منهم بأن الأجسام الحية ليست إلا مجموعات من النسج وحسب. لقد أبعدوا السمة الموضوعاتية عن الطب وأهملوا اعتبار ظاهرة الحياة موضوعة من موضوعات الفكر البشري، حاسبين بذلك أنهم وضعوا طبَّهم على مسافة مأمونة من الميتافيزياء. إنهم ما دروا أن ما فعلوه بذلك إنما هو زلق علمهم إلى قاع صخري حيث كَشْف الشيفرة الوراثية هو ما يضمن ألا نندفع، عفواً أو قصداً، ناحية قاع صخري. من هنا يجدر بنا، ربما، أن نقلع عن تصور التاريخ كسلسلة، وأن نعيد قراءته وفق معايير لاتاريخية.
لا يقل الحديث عن الفيزياء باستخدام المفردات المتداولة أهمية عن العرض المباشر لها. إن التزامنا برؤية وحيدة الجانب، تتمثل بتحديد الاحتكام إلى القانون الفيزيائي وحسب، سيقودنا، آجلاً أم عاجلاً، إلى حالة من الشواش. أذكر هنا وجود ست نظريات لتفسير الليزر وأكثر من مئة نظرية تتناول الجاذبية. لقد دأب علماء كبار على اختبار تلامذتهم بالطلب من هؤلاء التلامذة أن يتحدثوا عن الفيزياء والرياضيات دون الدخول في التفاصيل. إنها رغبة هؤلاء الكبار أن يتفهَّم تلامذتهم الطبيعة الميتافيزيائية للفيزياء.
نسوِّغ ما تقدم بالتعليل التالي: تُعزى التعددية الكبيرة في الأنماط الفيزيائية التي تتناول ظاهرة واحدة إلى اختلاف الموضوعات المستخدَمة في تلك الأنماط. من ناحية أخرى، تتعذَّر مطابقة نمط فيزيائي ما مع الواقعة المرتبطة به ما لم تُضَفْ موضوعات تبسيطية، غالباً ما تصل بالنمط الفيزيائي إلى حد تجريده عن أصوليَّته؛ فلا يبقى من ضمانة للنمط إلا إمكانية الحديث عنه. فالجاذبية هي حقل هندسي، ولعلها حقل سلمي، أو مزيج من الاثنين، أو غير ذلك.
أشرنا إلى أن تحديد الكميات الفيزيائية هو مجرد اصطلاح. من هنا يفضي تغيير المصطلحات إلى بروز قوانين فيزيائية مباينة. ذلك أن الفيزياء تنطلق من فرض منظار معين في رؤية العالم. وعادة ما يلجأ الفيزيائيون إلى إهمال هذا العمل التعسفي عند اندراجهم في تخليق التفاصيل النظرية. مرة أخرى نعود إلى مقولة أن القانون الفيزيائي هو إبداع ذهني محض. نستذكر مثلاً أحد قوانين نيوتن الذي ينصُّ على أن الجسم المعزول يحافظ على حركة منتظمة. أية عزلة تلك التي يتحدث عنها القانون؟! إن شئنا تصوراً فيزيائياً للذهن، كونه راصداً فيزيائياً مقرراً، فإن هذا الذهن، لا شك، سيتبادل التأثير مع الجسم المعزول، ويُفقِده بالتالي عزلته البهيجة! إننا نبرِّر للميتافيزيائيين في هذا السياق بحثهم الدؤوب عن منهج معرفي تسقط السمة الموضوعاتية عنه. إن الواقعة في تحليلنا هذا ليست بدورها إلا حالة طنينية خاصة بأجهزة الحس وتعكس التوحُّد الكوني لهذه الأجهزة.
سبق لأرسطو أن تحدث عن ميتافيزياء الخبرات اليومية؛ ولعله خلص إلى تعذُّر معرفة الأشياء لذاتها. ورثت المادية هذا النهج؛ وبسبب ذلك هبطت إلى مستوى التعليل المباشر المحدود بمواضيع الحواس، باعتبارها المعلومات المتوفرة الوحيدة من نوعها. نجد هنا مكاناً ملائماً لموضوعة مستحدَثة حاولتْ رأب الصدع الذي أحدثه الفكر المادي: موضوعة الوحدة–في–التنوع. يحاول أصحاب الموضوعة تجاوز التأييد أو الدحض، معلِّلين أن الشرخ الحاصل هو شرخ غير جوهري. لو كان الأمر كذلك لما اقترن فعل المعرفة بمبدأ الاصطفاء الأخلاقي، ولما لزمت لهذا المبدأ أية كمية من الطاقة.
لو عدنا إلى نظرية رامزي لاكتشفنا على الفور أن الشرخ في بنية أية مجموعة تتناولها النظرية هو شرخ فعلي. فكلُّ حيِّز في المجموعة يُفصَل بحواجز واضحة عن أيِّ حيِّز آخر؛ هذا بالإضافة إلى أن النظرية تُنعِم على التكوين المنتظم بمكانة خاصة، على الرغم من ضآلته النسبية.
نتساءل هنا عن المعاناة العظيمة لطالب المعرفة الذي هو كائن أخلاقي في الجوهر. إنه يواجه تيار الفوضى الكونية، يحدوه أمل واسع بتحقيق الفكرة لذاتها. إن في تعاظم النماذج المعرفية ورنوها إلى الكمال ضرباً من هذا التحقق ومحاولة من الفكرة لخطاب ذاتها.
لم نأتِ بجديد لدى حديثنا عن مبدأ الاصطفاء الأخلاقي. ففي الإخوة كارامازوف لدوستويفسكي يسجد الراهب زوسيما أمام دميتري في مواجهة هذا الأخير للعذابات الكبيرة التي تنتظره والتي سيلقاها بكل ما فُطِر عليه من طيبة. وقبل دوستويفسكي، أطلعنا الحلاج على مكنونات سريرته: "لو ألقي مما في قلبي ذرة على جبال الأرض لذابت."