على الرغم من جنوح الفيزيائيين إلى التعامل مع الأجزاء فإنهم لا يطيقون إلا الإبحار في تيار التوحيد. يتجسد ذلك بنظريات فيزيائية معاصرة تتطلَّع إلى ما قبل الحقبة التي بدأ فيها كسر التناظر. من جانبهم، يسعى الميتافيزيائيون إلى القفز حتى سوية الكلِّية. لقد أقر الفيزيائيون بإسقاط التجربة كضرورة. فالحديث يدور اليوم عما جرى في طفولة الكون – تلك الطفولة التي نستطيع استبصارها لا رؤيتها. ويرى طالب المعرفة أن انحباس الأنا في تشكيل فسيولوجي معين هو اختبار لمقدرة الأنا على تمثيل دور الكون، بما يسهل تحقيق الفكرة لذاتها؛ إنه يدرك أزلية الفكرة. على العكس، يفضي الابتعاد عن مبدأ الاصطفاء الأخلاقي إلى القبول بحقيقة الذات المرميَّة في العالم بدون تعليل؛ الأمر الذي سيدفع هذه الذات إلى استدراج أحوال من الرضى البيولوجي المستمد من سويات دنيا من الطنين، كالطعام والجنس. اختزل الحلاج إشكالية الأزلية بقوله: "علم الألف في النقطة، وعلم النقطة في المعرفة الأصلية، وعلم المعرفة الأصلية في الأزل."
إن التطبُّع الحسي هو من أخطر الإرهاصات؛ فما هو إلا انحدار إلى قاع صخري يحجب الركائز الأساسية للحقيقة. يفضي ذلك التطبُّع إلى مسلسل مضنٍ من انعكاسات الأنا على ذاتها، تمتد وتتعاظم حتى تفتِّت عرى الذات وتدفعها إلى تعليق إشكالية وجودها على مشجب وهمي يدعى "الظروف الموضوعية" التي هي مشجب الآخر. لقد أوغل ديكارت بعيداً في هذا النهج، وخلص إلى مصادرته الشهيرة: "أنا أفكر، إذن أنا موجود." لقد غَرُب عن بال ديكارت أن لفظة "أنا" لا تقبل المحمول؛ إنها حامل ومحمول. ولا نقصد هنا باللفظة مجرد نطقها، وإنما نرغب بتأكيد طبيعتها الميتافيزيائية. لا تقوم الأنا على موضوعات؛ إنها منبع الموضوعات ومصدر تخليقها. من هذه الحقيقة بالذات اشتَقَّت الميتافيزياء والفيزياء ومناهج أخرى مقياساً يعجز الجميع عن تجاهله، يدعوه بعضهم إلهاماً، ويصفه آخرون بأنه حدس مبدع. على أية حال، يتنافى هذا المقياس مع كل قواعد المحمول. أما اختزال المقياس إلى قفزة نوعية تتحقق إثر تغيرات كمية فما هو إلا تلاعب بالألفاظ؛ ناهيك عما ينطوي عليه من تقليص لحقيقة التجربة الخلاقة.
إن التجربة الفيزيائية هي تجربة ميتافيزيائية منطوقة. يعتمد النطق فقرات سابقة؛ فإن لم تتوفر تلك الفقرات نَحَتَ الفكر موضوعات معينة وألبسها سمة الشمولية كيما تصلح قاعدة مشتركة لبدء أيِّ تبادل للجمل المنطوقة. هل تعجز الكائنات الصمَّاء عن تحقيق المعرفة يا ترى؟! نجد في مثال بيتهوفن إجابة شافية على هذا السؤال.
يخطئ الكثيرون من المنحازين إلى منهج أو آخر في إغداق صفة الشمولية على منهجهم، ويذهب بعضهم حتى تحميل المنهج ما لا يطيقه. إن أي فعل أو تفاعل منهجي ما هو إلا أطروحة تغطيها مفردات وتراكيب مستمَدة من لغة معينة. أما اللغة فهي، بدورها، مجموعة من مصطلحات ميتافيزيائية توظَّف في نطاق أبعاد منتهية محدودة؛ بينما الفكرة أو الحقيقة أو المطلق هي المتجاوِز لكل بنية اصطلاحية. يزودنا العلم بتأكيد جزئي لهذه الفكرة؛ فهو يفرض علينا أن ننحت مفردات مستحدَثة إزاء كل كشف جديد.
لا نستبعد أن نضطر إلى تعديل اللغة إن تحولنا عن العيش على كوكب الأرض. ومن يدري، فقد نتعلم معايشة النموذج، لا خطابه؛ وبكلمات أوضح، نستغني عن اللغة لصالح التخاطر telepathy. وعلى الرغم من عجز اللغة عن وصف ما ستؤول إليه الأحوال بعد ذلك فإننا نهتدي في تصوير وميض الفكرة بتأمل شهاب يهوي، أو تخيل الحياة المضطرمة لنجم. نذهب بعيداً في تحليلاتنا، مهتدين بقول الحلاج: "تتجلَّى عليَّ حتى ظننتك الكل، وتُسلَب عني حتى أشهد بنفيك." إنها تظاهرات الفكرة في الأنا، وإرهاصات الأنا في الفكرة. أية تظاهرات وأية إرهاصات؟ يعتمد الخطاب الفكري المنطوق أبجديات ومفردات ومصطلحات؛ وتودَع في هذه المجموعة من الرموز كلُّ محصلات الفكر البشري. وكما يقرر هذا الفكر في إحدى موضوعاته بأن المكان صنيعة المادة، شأنه في ذلك شأن الزمان، كذا أمر الحقيقة المنقولة؛ فهي من قدر عناصر تلك المجموعة. لكن الحقيقة المطلقة تتجاوز أية مجموعة، مهما كان نمطها. من هنا كان عجز أي كتاب أو منهج أو جدل عن السمو إلى حيث الحقيقة المطلقة؛ إذ يجب ألا يغرب عن بالنا أن الحقيقة، كما أتى عليها أي كتاب أو منهج أو جدل، إنما هي حقيقة منحوتة في أبجديات ومفردات ومصطلحات محدودة.
ينبغي أن نقوِّم المصادرات المتباينة انطلاقاً مما تقدم، كقولنا إننا لن نستطيع معرفة العالم. فعلى الرغم من إقرارنا بانتفاء الحدود في الحياة العيانية، نرفض مُثُل أفلاطون، ونقبل بوجود قسيم يعلَّل كيانه الفيزيائي باستحالة كشفه، كقسيم الكوارك quark مثلاً. يتوِّج الفكر سلسلة من التساؤلات بطرح مصادرة؛ وسرعان ما تقطع هذه جذورها الأصلية – ويا لها من مفارقة! إن الحياة ليست مصادرة بشكل من الأشكال؛ إلا أن المدنية المعاصرة اختزلت الحياة إلى سمة اليومية، مستبدلة بظاهرة الحياة كموضوعة الحياةَ اليومية كمصادرة بالغة الضيق والمحدودية.
أليست الوحدة والتعددية مصادرات تزيِّنها الحواس؟ ألا تصنَّف الطقوس الدنيوية، مهما كانت متضادة، في قائمة المصادرات؟ تقصد تلك الطقوس الغائب أو الحاضر؛ لكن ما تقصده فعلاً – وياللعجب! – هو كلاهما. ليس من قبيل الصدفة أن يتمخض الاصطفاء الأخلاقي عن التجاوز كطقس أسمى، وأن يقرر الفيزيائيون انتفاء الحدود في الحياة العيانية. هنا نلتقي التجاوز مرة أخرى؛ فما يحدث في الحياة العيانية يتجاوز في حقيقته – ولا شك – مشهد تلك الحياة. هذا ما يعترف الفيزيائيون به الآن.