ملتقى الفيزيائيين العرب - عرض مشاركة واحدة - الفيزياء والميتا فيزياء
عرض مشاركة واحدة
  #7  
قديم 16-06-2013, 16:01
الصورة الرمزية بروفيسورة الفيزياء
بروفيسورة الفيزياء
غير متواجد
فيزيائي نشط
 
تاريخ التسجيل: May 2013
المشاركات: 44
افتراضي

يؤكد أئمة الميكانيكا الكوانتية أن لا حدود لسلوك القسيمات، وأن القسيمات تضرب عرض الحائط بنواميس الحياة العيانية. فبعضها يتصرف، مثلاً، وكأنه يعرف تصرفات بعضها الآخر عن بعد. أما في أحوال أخرى فتلجأ القسيمات إلى الامتثال لرغبة الراصد، مصوِّرة له السبب وفق ما يهوى؛ لا بل إنها قد تعمد إلى وضع النتيجة في لحظة زمنية تسبق لحظة السبب! وعلى الرغم من محاولة النسبية التمسك بأهداب الموضوعية، إلا أنها تقرر تبعية المادة لانحناءات الفراغ أو اللاشيء. وفق النسبية، تساوي كتلة الفوتون السكونية صفراً؛ ذلك أن الفوتون لا يسكن في أي مرجع. هنا تتجاوز الفيزياء نفسها وتلج عالم الميتافيزياء. لكن أليست قوانين الفيزياء إضافات عقلية تابعة لتصورات الباحث؟ يتأكد ذلك بنظريات التوحيد المعاصرة التي تنحت كميات فيزيائية مصطنعة هي الثوابت المعيارية.
لم يألُ الفيزيائيون جهداً في استدراج الرياضيات إلى حلبة الفيزياء. لقد تحولت الفيزياء إلى نظريات رياضية في بنيتها. لكن أحداً لم يحاول نمذجة الميتافيزياء بواسطة الرياضيات. فالميتافيزياء ليست نظرية عن الأوليات؛ ناهيك عن أن نمذجتها رياضياً قد تفضي إلى رجحان كفة أحد المذاهب الميتافيزيائية وتقديمه على ما سواه. حتى في الفيزياء لم ترجح كفة نظرية فيزيائية على أخرى. نذكِّر إضافة بأن أياً من المذاهب الميتافيزيائية لم يحقق سبقاً على المذاهب الأخرى. يقدِّم العلمانيون الحقيقة الآنفة الذكر كعلَّة في استحالة النمذجة الرياضية للميتافيزياء. إننا نردُّ بمفردات بالغة البساطة بأن شأن النظريات الفيزيائية أشبه بحال المذاهب الميتافيزيائية؛ فبتطبيق الرياضيات تعجز أية نظرية فيزيائية عن التقدم على النظريات الأخرى. كذا فإن هذا العجز سيستمر كما هو بتنحية الرياضيات جانباً. أما قمة المفارقات فهي التقاء الجميع على تقويم الرياضيات كأسمى حكم عقلي.
لقد التقت الفيزياء والميتافيزياء سابقاً في إطار تطوير التفاصيل على مبدأي الاستقراء والاستنتاج. توسع هذا اللقاء الآن حتى الأصول المنهجية، فلم يعد الحديث عن الجمال والبساطة والاتساق والانتظام غريباً عن الفيزيائيين، وتحولت هموم الفيزياء إلى شجون ميتافيزيائية. ألم يكن طرح مبدأي الاستقراء والاستنتاج فعالية ميتافيزيائية من الأساس؟
إننا نشهد عودة اللحمة بين الفيزياء والميتافيزياء. يترافق ذلك بتقديم التعليلات الموجبة لإبقاء الرياضيات بعيداً عن عالم الميتافيزياء. من ذلك، مثلاً، أن الرياضيات تعجز عن الدخول إلى عالم التفاصيل الواسعة للفيزياء. فالشحنات الكهربائية هي كينونات مركَّزة، ولا توجد أنماط رياضية تتناولها بشكل دقيق أو معروف؛ بينما تقدم الرياضيات طيفاً واسعاً من الأدوات لصياغة نموذج الحقل. لذا ثابر العلماء الكبار، منذ ماكسويل، على تطوير ذلك النموذج، على الرغم من الفشل الواضح الذي يؤول إليه نموذج الحقل في جوار المصادر النقطية للحقل. لكن هذا الفشل سرعان ما تحوَّل إلى نجاح باهر في أحوال متفردة، كحالة الثقوب السوداء. امتد نموذج الحقل فشمل الفكر الكوانتي؛ إذ ذهب بعض أتباع المدرسة الكوانتية إلى القبول بحقل من الاحتمالات الرياضية المجردة، مسؤول، أولاً وأخيراً، عن حركات وتفاعلات القسيمات الأولية. إن الانتقائية في سياق البنى الرياضية الناظمة للنظريات الفيزياء لدليل ساطع على الطابع الميتافيزيائي للفيزياء. من ذلك، على سبيل المثال وليس الحصر، البنية الرياضية للحقل التي تتخلل معظم نظريات الفيزياء، كما أشرنا للتو. نذكر أيضاً نظرية كالوزا لعالَم من خمسة أبعاد: فعلى الرغم من افتقار البعد الخامس لنظير فيزيائي محدَّد، نجح كالوزا حيث فشل الآخرون في توحيد الثقالة والكهرطيسية. إلا أن نظريته لم تلقَ رواجاً في أوساط العلماء لصعوبة التشكيلات الرياضية الداخلة فيها. نذكر في نفس السياق تحويلات لورنتس الرياضية الطابع التي استطاعت حل إشكالية التأثير عن بعد.
يَسِمُ التجريبيون الميتافيزياء بالغرابة، كونها تُعنى بكل ما هو غير مألوف؛ لكنهم ينسون (أو يتناسون) حقيقة أن الفيزياء بدورها لا ترتقي إلا بنشدان غير المألوف. هاكم بعض المقولات التي استجرتها الفيزياء من عوالم غير مألوفة:
- سرعة الضوء ثابتة لا تتغير بتغير سرعة الراصد؛ وهي أكبر سرعة مسموحة في الكون.
- هناك كمٌّ أدنى للطاقة تتعامل به الطبيعة.
- ينحني الفراغ ويلتف بوجود المادة؛ وبدورها تلعب الهندسة دور الموجِّه لسلوك المادة.
- العالم هيولى متلاطمة عديدة المعالم، ويتحدد كل شيء لحظة تدخل الوعي.
- ينتقل العالم من حال إلى حال بقفزة كوانتية.
- تكميم البنى ضرورة أزلية، وإلا عدم الكون مَن يتحدث عنه؛ إذ تتكاثر نظائر العناصر بإيقاع غير منتهٍ، حاجبة كل فعالية فكرية.
- تتصف القوانين العيانية بالاختزال وبالمحدودية؛ ذلك أنها تتناول كيانات متباينة. أما القوانين الباطنة فمتعددة وكثيرة لأنها تطال عناصر متماثلة. إننا، إذا أبصرنا إلكتروناً، فكأننا نشاهد كل الإلكترونات.
- تحكم قوانين الفيزياء الكون وهي علة وجوده؛ أما وضعه الراهن فيتوقف على شروطه الابتدائية.
لا يخفى على أحد الطابعُ الميتافيزيائي لهذه المقولات. وهاكم مثالان آخران أيضاً: ماذا لو رصدنا سيارة منطلقة من سيارة أخرى متحركة؟ تعلِّمنا الميكانيكا الكلاسية أن سرعة السيارة الأولى تساوي مجموع أو فرق السرعتين. أما في حال رصد شعاع ضوئي شعاعاً ضوئياً آخر فسيراه منطلقاً بسرعة الضوء. أيبدو هذا الأمر مألوفاً؟! يا للعجب! ماذا لو استطاعت ذرة أن تقرأ وصفها الكوانتي. سيكون الوصف أشبه بقراءة الطالع؛ وقراءة الطالع بعيدة كلَّ البعد عن كل ما هو مألوف!
انطلق الكون من شروطه الابتدائية مطوراً ذاته وفق ما تمليه قوانين الفيزياء. إن قوانين الفيزياء لم تكن فاعلة قبيل ذلك؛ فالقوى الكونية لم تكن قد ولدت بعد. لذا يتعذَّر تضمين الشروط الابتدائية في سجلات الفيزياء. إنها من طبيعة ميتافيزيائية ولا شك. نواجه هنا إشكالية معرفية: فالشروط الابتدائية مصطلح فيزيائي، وقد رأينا للتو أن الشروط الابتدائية للكون ذات طبيعة ميتافيزيائية. لا يُحَلُّ هذا التناقض إلا بافتراض الطبيعة الميتافيزيائية للقوانين الفيزيائية. حسبنا من هذا الافتراض أن نقبل بالسمة غير الموضوعاتية لتلك القوانين؛ وكل ما لم يكن موضوعاتياً يصنَّف بالضرورة في قائمة الإبداعات العقلية الصرفة. بذلك نعود، مرة أخرى، إلى أينشتاين الذي أشار إلى أن قوانين الفيزياء ما هي إلا إبداع عقلي صرف. إن الضمانة الخاصة بمنطقية القوانين الفيزيائية ترتكز على هذه الحقيقة – حقيقة أن هذه القوانين منحوتات عقلية بحتة.
ماذا لو أغمضنا الأعين عن كل التظاهرات ومحونا كل المصطلحات؟ ماذا لو حاولنا أن ندلف إلى الوجود بإمكاناتنا الحسية الاستشعارية، تاركين كل القيود والاشتراطات، مطلقين العنان لأذهاننا كي تنحت ما تشاء من الصور والأخيلة؟
أن ننقطع عن الزمان والمكان، وأن نطلَّ على الزمان والمكان من حيِّز لازماني ولامكاني؛ أن ننعتق من ذواتنا وأن نُحجِم عن تكرار الخطاب الخاص بما نريد، متسامين إلى حيث الإرادة؛ أن "نزهد فيما سيأتي، وننسى ما قد مضى"، على حدِّ قول جبران...
سنتحسَّس عندها سيمفونية الكون الرائعة وندرك المعنى العميق لوجودنا القائم على التسامي عن كل التظاهرات والمصطلحات ومدلولاتها، التي هي، بدورها، تظاهرات ومصطلحات، محققين المعرفة في ومضة تخبو وتتخلَّى، لتتلوها أخرى تتأرجح وتتجلَّى، كما ثبت في قول الحلاج: "المتجلِّي عن كل جهة، المتخلِّي من كل جهة."
منقــــــــــــــــــــــــــــــــول
رد مع اقتباس