3
العالم الواقعي والعالم الغرائبي بين النسبية والكوانتية
عندما تصدى العالم الألماني الفذ ماكس بلانك Max Planck سنة 1900 ة لحل مشكلة الجسم الأسود المشع، لم يكن يتخيل مقدار الثورة المفاهيمية والتكنولوجية التي أطلقها. واليوم وبعد قرن وعقد ونصف من الزمن تقريباً حصلت ما يشبه المعجزات لكنها معجزات علمية وليست دينية خرافية، من الفرضية الأولى للكموميات quantification الى التجارب التي أجريت وتجرى حالياً لتحقيق النقل الفوري أو الآني الكمومي أو الكوانتي téléportation quantique. كيف كان الآباء المؤسسون يفكرون بهذا الفتح العلمي المسمى فيزياء الكموم أو الكوانتوم وكيف يمكننا تخيل مواقفهم من هذه الفيزياء في الوقت الحاضر؟ فآينشتين Einstein لم يعش طويلاً ليشهد منجز بيل Bell في المتباينات les inégalités التي برهنت على صحة كل نظرية محلية ذات تنويعات خفية variables cachées في مجال الرياضيات الحديثة ولم يطلع على التجارب العملية والمختبرية التي اثبتت صحة وسلامة وصلاحية نظرية الكوانتا أو الكموم، ربما كان سيصر على موقفه مدافعاً عن رؤيته للواقع المادي الملموس مقابل غرابة العالم الكمومي أو الكوانتي وهو عالم مبني على مسلمات الاحتمالات probabilités ومبدأ الاحتمالية الذي لم يستسغه آينشتين أبداً. بالرغم من النجاحات المنقطعة النظير التي حققتها فيزياء الكموم وثراءها في مجال التفسيرات والتوقعات إلا أن هناك العديد من الأسئلة والتساؤلات مازالت قائمة. والمشكلة تكمن في أننا وصف واقع كمومي أو كوانتي يفلت أو يخرج عن نطاق مفاهيمنا التقليدية المألوفة والمتعارف عليها بعبارات وصيغ ومفاهيم كلاسيكية عاجزة عن وصفه فكيف لنا أن نتخيل مفهوم إزدواجية الطبيعة الثنائية للوحدة التكوينية الأولى للوجود أي الطبيعة الموجية والجزيئية للجسيم الأولي la dualité onde-corpuscule أو مفهوم التعقيد أو التشويش intrication،، ومبدأ اللاتحديد المكاني la non-localité والتي قد تقف كلها وراء مختلف محاولات التفسير وعلى رأسها تفسير مدرسة كوبنهاغن l’interprétation de Copenhague الذي اقترحه وشرعه العالم الدنماركي بور Bohr واعتبر تفسيرا أورثودوكسيا متشدداً. لنتذكر أن تجارب العالم الفرنسي آلان آسبيه Alan Aspect التي أجراها في سنوات الثمانينات من القرن الماضي أثبتت أن قياسات تجرى على جسيم يتواجد في باريس يمكن أن يكون لها تاثير مباشر وآني على جسيم آخر كان متشابكاً معه في وحدة واحدة في حالة تعقيد وشواش intrication سابقاً ويتواجد الآن في بكين، أو على أية مسافة كانت في الكون المرئي حتى ولو بالقرب من الأفق الكوني فمبدأ اللاتحديد المكاني la non-localité ينطوي على استنتاج يقول أن المسافات في الفيزياء الكمومية أو الكوانتية لا قيمة لها وغير موجودة أو تكون معدومة وليس فقط المسافات بلا والزمن كذلك فكثير من الظواهر الكمومية أو الكوانتية آنية الحدوث في آن واحد وفي عدة أماكن وهذا ما يتعارض مع معطيات النسبية الخاصة relativité restreinte لآينشتين لو حاولنا تفسيرها باعتبارها أحداث تقع على مسافات مختلفة. ولتحاوز هذه الصعوبات اضطر العلماء لوضع فرضيات غاية في الغرابة بالنسبة للتفكير العقلاني كفرضية الأكوان المتعددة des univers multiples للعالم إيفريت Everett وغيره الذين أدخلوا عامل الوعي المراقب la conscience de l’observateur الذي يؤثر على طبيعة وماهية الواقع المراقب أو المرصود ودور أجهزة المراقبة والرصد وتأثيرها ايضاً ولاستيعاب ذلك لجأ العلماء الكموميون أو الكوانتيون الى الشكلانية الرياضاياتية le formalisme mathématique للخروج من هذا المأزق العلمي والاحتماء بالصيغ الرياضياتية الغريبة والمعقدة والصعبة للغاية لكي يواصلوا تقدمهم بعيداً عن الاتهامات بالهرطقة وميتافيزيقية التفسيرات.
واليوم وبعد مضي مايقرب القرن وعقدين من الزمن لم تخرج تجربة علمية واحدة تدحض التكهنات والتوقعات النظرية للفيزياء الكمومية أو الكوانتية ومازال هناك غموض يلف ظاهرة اختزال الحزم الموجية la réduction du paquet d’ondes وهي مسلمة ضرورية للمرور من عالم مليء بالتراكبات والتداخلات الكمومية أو الكوانتية superposition quantique غير المضمونة أو المؤكدة الى العالم الواقعي والحقيقي الذي ندركه ونتحسسه بعبارة أخرى المطلوب هو تحديد الحد الفاصل بين العالم الميكروسكوبي monde microscopique والعالم الماكروسكوبي monde macroscopique.
وفي سنوات السبعينات قدم بعض العلماء تفسير عقلاني بفضل نظرية اللاتماسك أو اللاترابط المنطقي la théorie de la décoherence التي وضعت لها مهمة جلب العالم الكمومي أو الكوانتي للعالم الواقعي. ونجحوا في ذلك نسبياً وما زالت الجهود تبذل على قدم وساق لتصميم الكومبيوتر الكمومي أو الكوانتي ordinateur quantique الذي من المفترض أن يحل الكثير من القضايا العالقة في هذا المجال حيث ستكون له قابلية لامحدود للخزن وسرعة الأداء. إن تطور الكهروديناميكية الكمومية أو الكوانتية électrodynamique quantique ونظرية الحقل الكمومي أو الكوانتي théorie quantique du champ قد فتحا الطريق أمام تطور فيزياء الجسيمات la physique des particules التي تعمل جاهدة لكشف سر وربما اقتناص الغرافيتون Graviton الذي يفترض به كجسيم اولي يكون حامل وناقل للثقالة أو الجاذبية والمسؤول عن التفاعل الثقالي interaction gravitationnelle في الكون والهدف من وراء ذلك هو الجمع في صيغة واحدة القوى الكونية الجوهرية الأربعة التي تعتبر دعامات النموذج المعياريmodèle standard للكون المرئي وبذلك سيتحقق حلم آينشتين بإيجاد النظرية الكاملة والجامعة التي تضم الفيزياء الكمومي أو الكوانتي والنسبية العامة. ونتمنى أننا سنتمكن من تبسيط هذا العلم في سلسلة المقالات القادمة من حكايات الكوانتا. يتبع
jawadbashara@yahoo.fr
المصدر :
http://www.elaph.com/Web/opinion/2013/12/857059.html