جعفر ضياء جعفر ونعمان النعيمي
طارق عزيز يقلد جعفر وساماً. نعمان: مفاجأة الارتجال والعجلة
بعد أسبوعين كاملين من غزو الكويت وتحديداً في 17 آب (أغسطس) 1990 وعندما كنتُ منشغلاً في مكتبي في موقع التويثة بمسألة علمية هامة في حوالى الساعة 13:30 من يوم قائظ رنّ جرس هاتفي وإذا بي أسمع الدكتور خالد ابراهيم سعيد المدير العام للمجموعة الرابعة يخبرني بانفعال أن حسين كامل في طريقه من البوابة الخارجية إلى البوابة الداخلية لموقع التويثة وأن علينا الذهاب على عجل لاستقباله كوننا المسؤولين الوحيدين المتواجدين في هذا الموقع.
حسين كامل يريد قنبلة نووية على وجه السرعة
لم يترك حسين كامل لنا مجالاً للسلام عليه وعلى رفيقه بل بادرنا بالقول خذوني إلى غرفة اجتماع سرية لا يتمكن أحد من التنصت إلى حديثنا فاقترح خالد الذهاب إلى غرفة اجتماعات شبه مهجورة في مبنى إنتاج النظائر المشعة وكأنه كان مستعداً لأمرٍ كهذا.. وما أن جلسنا حول مائدة الاجتماع حتى بادر حسين كامل إلى إصدار أمره للبدء الفوري بمعاملة قضبان الوقود النووي عالي التخصيب وكذلك الوقود الأدنى تخصيباً بما فيه المشعع وغير المشعع واستخلاص اليورانيوم عالي التخصيب منها لاستخدامه بصنع قنبلة نووية ريثما يصل برنامج التخصيب إلى إنتاج الكميات المطلوبة لإنتاج المزيد من هذه القنابل. وقع هذا الأمر موقع الصاعقة على مسامعي وقلتُ له: "إن هذا الوقود خاضع لرقابة مستديمة لتفتيش دوري ولمرتين في كل سنة من قبل مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية". لم يرق هذا الاعتراض لمسمع حسين كامل وأخذته العزة بمركزه لتنفيذ هذا المشروع الذي أطلق عليه اسم البرنامج المعجّل وكاد أن يشتاط غضباً فحاول خالد ابراهيم سعيد تهدئة غضبه بدعوى أن تنفيذ هذا البرنامج أمر ممكن. نظرت إلى عامر السعدي فوجدته يهز رأسه تأييداً للأمر بابتسامته المعهودة التي يُعرف بها. وبينما كان الموقف متشنجاً من غير أن ندرك بأن اعتراضنا على أمر حسين كامل قد يفقدنا المنصب أو ربما يطيح برأسنا دخل جعفر إلى غرفة الاجتماع، حيث كان قد استلم مهاتفة عاجلة من سكرتيره يخبره بوجود حسين كامل في موقع التويثة فحضر مسرعاً، وحال جلوسه على كرسي قبالة حسين كامل أعاد عليه الوزير أمره دون أن يقول له كلمة "الله بالخير" لازمة الترحيب المعروفة عند العراقيين. حوّل جعفر وجهه نحوي وخالد، ثم بدأ يتحدث عن الجوانب التكنولوجية اللازمة لتنفيذ الأمر فتفتحت سريرة حسين حيث اعتبر حديث جعفر التكنولوجي موافقة ضمنية منه على البدء بتنفيذ أمره. ونهض مسرعاً يهبط السلم متخطياً تسلسله المدرج ويتبعه لاهثاً عامر السعدي، أما نحن الثلاثة فلا نكاد نستطيع اللحاق بالاثنين لاضطراب حالنا من صدمة هذا الأمر الذي لم يكن بالبال ولا بالحسبان.
جعفر: بعد توديع حسين وعامر
عدنا إلى مكتبي فأصدرتُ أمراً بتشكيل لجنة برئاسة نعمان وعضوية عدد من الكيماويين والمهندسين الكيماويين والمصممين والمصنعين لتنفيذ الجانب الأول من البرنامج وهو استخلاص اليورانيوم عالي التخصيب من الوقود الفرنسي المشعع لدرجة قليلة والوقود الروسي غير المشعع على أن ينجز العمل في غضون ثلاثة أشهر. وأمرنا خالد أن يسير ببرنامج التسلح بسرعة تتناسب وسرعة الحصول على مادة اليورانيوم عالي التخصيب الملائم لصنع القنبلة، غير أن خالد أخبرَنا بكل برود أن برنامجه يسير بأقصى سرعة ولا يمكن التعجيل به أكثر من ذلك فوعدناه بأننا سندخل مع منتسبيه للتعجيل بالجوانب النظرية لبرنامج التسلح. وفي اليوم التالي أرسلنا مذكرة إلى حسين كامل أخبرناه فيها أن استخدام هذا الوقود لغير الاستعمالات المقررة له في تشغيل المفاعل النووي سيعني خرق العراق لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية (NPT) وهي المعاهدة التي كان العراق قد وقع عليها عام 1972 كما أخبرناه أن الوقود يخضع لمسؤولية منظمة الطاقة الذرية العراقية وليس إلى مشروع البتروكيمياويات-3 فجاءت الإجابة سريعة بأن الموافقة قد حصلت على تنفيذ البرنامج وكذلك على نقل الوقود من مسؤولية منظمة الطاقة الذرية إلى مشروع بترو-3. وأدركنا أن جملة (حصلت الموافقة) تعني عرفاً موافقة الرئيس بالذات فبدأنا بتنفيذ البرنامج المعجل بثقة واطمئنان على أن البرنامج يحظى بموافقة المسؤول الأعلى في العراق. أما نحن مؤلفي هذا الكتاب فلا نعلم حتى الآن مَن الذي أوحى لحسين كامل بهذه الفكرة إذ أنه لم يكن يعلم بوجود هذا الوقود ولم يعلم بإمكان استخلاص اليورانيوم عالي التخصيب منه، أي أنه لا بدّ وأن يكون قد وصله مقترح من شخص ذي خلفية علمية نووية.
الأيام تتسارع والمخاوف تتحقق
وبدأ تشاؤمنا يزداد يوماً بعد يوم غير أن عملنا تواصل وفق الخطة وبالزخم ذاته وكأن شيئاً لم يحدث وبدأنا نلاحظ عناد صدام وعدم استجابته للانسحاب من الكويت كما أنه لم يكترث لتجمع مئات الآلاف من أفراد قوات الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها في منطقة الخليج العربي. واستمر صدام يعيش في برجه العاجي أسير أفكاره وتخيلاته إذ إن المعروف عنه – وهو يتباهى بذلك دوماً - أنه لا يتراجع عن قرار اتخذه.
نعمان: واستمر العمل بالبرنامج
استمر نشاطنا في نصب الفاصلات الكهرومغناطيسية الإنتاجية في موقع الطارمية فاكتمل نصب ثماني فاصلات وخضعت للتشغيل التجريبي حيث أنتجنا حوالى 750 غراماً من اليورانيوم بدرجة تخصيب 3-4 في المئة وهو إنجاز مهم تكنولوجياً غير أنه غير كافٍ - لا من حيث كمية المنتج ولا من حيث درجة التخصيب لصنع قنبلة نووية. ووصل البرنامج المعجّل بقيادتنا إلى مراحل متقدمة حيث أُنجز تصميم وتصنيع ونصب وتجربة منظومة استخلاص اليورانيوم من قضبان الوقود المخزونة ذات التخصيب العالي (93 في المئة) ثم جاء حسين كامل لتفقدها ففرح بما تحقق من إنجاز.
جعفر: دعوتي لزيارة صدام حسين
بعد يومين أو ثلاثة من زيارته هذه طلب حسين كامل مني مرافقته لزيارة صدام حسين في داره في الرضوانية واستقبَلنا مرافقه الأقدم اللواء أرشد ياسين (زوج أخته غير الشقيقة) والذي هيأ لنا مكاناً للاجتماع في باحة قصره السكني ذلك. بادر حسين كامل بإعلام صدام حسين بالتقدم الحاصل في البرنامج المعجّل وأنه سيحصل على كمية من اليورانيوم عالي التخصيب كافية لتصنيع قنبلة نووية أولى في غضون فترة قريبة، غير أن صدام استمع دون أن يعقب، إذ كان سارح الذهن يفكر في أمر ما يقلقه فلم يعلق على الخبر ولم يحث على المزيد من الاستعجال فأيقنتُ أن صدام غير مستعجل بالأمر وسألت نفسي: تُرى لماذا بدأنا المشروع إذا؟! ولماذا ضيعنا جزءاً مهماً من جهدنا وسنعرِّض العراق للمساءلة عن سبب خرقه لتعهداته ضمن معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية؟! وهكذا يبدو لنا الآن ونحن نسجل الشهادة أن حسين كامل كان يتصرف لذاته يدفعه إلى ذلك غروره واعتداده بنفسه وعدم وجود أحد في الدولة ممن يجازف ويعارضه أو يقول له إن قرارك هذا غير صحيح.
نعمان: الليلة الأخيرة
في حدود الساعة الثامنة من مساء الأربعاء 16/1/1991 قمنا بجولة ضمن أرجاء موقع التويثة يرافقنا سامي الأعرجي فتفقدنا خنادق الطوارئ التي كانت قد حُفِرت في عدة أماكن من حدائق التويثة الجميلة فشوهتها ووجدنا تلك الخنادق غير ملائمة للجوء المنتسبين داخلها فهي ضيقة ورطبة ومغطاة بصفائح غير سميكة من الفولاذ المغلفن وفوقها طبقة من التراب فاستنتجنا أنها غير ملائمة ولكن ما العمل الآن؟! ثم ذهبنا للقاء أعضاء اللجنة المعنية بتنفيذ البرنامج المعجَّل فوجدناهم يستعدون لإذابة أحد قضبان الوقود الفرنسي المنشأ في خزان الإذابة وهي الخطوة الأولى ضمن خطوات استخلاص اليورانيوم عالي التخصيب من قضيب الوقود المكون أصلاً من يورانيوم مغلفٍ بسبيكة من الألمنيوم. وبعد مداولة مستفيضة تقرر إرجاء هذه الخطوة الحاسمة إلى صباح اليوم التالي فيما إذا لم يحدث العدوان في تلك الليلة ولنطلب من جعفر الحضور لمشاهدة البدء بهذا العمل الهام والمحفوف بالمخاطر التكنولوجية وبتبعاته السياسية. ولاحظنا أن مفاعل 14 تموز (IRT 5000) كان لا يزال يعمل بكامل طاقته في هذه الليلة التي تنذر بالشؤم، ولم أتدخل في الأمر حيث أن جعفر كان قد طلب من منظمة الطاقة الذرية الاستمرار بتشغيل المفاعل بهدف تشعيع مادة البزموث والحصول على مقادير من البولونيوم 210 لاستخدامه كقادح للقنبلة النووية. ووافق رئيس المنظمة على مضض تنفيذ الطلب وعدم رفضه فهو يعلم أن حسين كامل متأهب لإبلاغ صدام بأن رئيس المنظمة يضع العراقيل أمام البرنامج النووي، ومن يقوى على إزعاج صدام في تلك الأيام العصيبة؟! غادرت بعد ذلك إلى داري مرهقاً وخلدت إلى نوم قلق دون تناول وجبة العشاء المتأخرة جداً. وعند الساعة الثانية والنصف من بعد منتصف الليل استيقظنا مع جميع أفراد العائلة على أصوات انفجارات مدوية فتجمع الجميع في ركن آمن من أركان البيت في الساعة السابعة من صباح يوم 17/1/1991 وصل السكرتير مؤيد (أبو أحمد) إلى دارنا يقود السيارة المخصصة لنا أثناء الطوارئ وكانت من نوع لاندكروز واصطحبنا إلى موقع التويثة مروراً بشوارع بغداد وقد وجدناها مقفرة وموحشة. وصلنا وسكرتيرنا الذي واصل مرافقتنا طيلة أيام الحرب إلى موقع التويثة فوجدنا سامي الأعرجي وفريق طوارئه قد تخندق في ملجأ تحت أرض مباني هيئة الخدمات الهندسية الواقعة قرب السياج الخارجي لموقع التويثة. وتجولنا ضمن موقع التويثة نتفقد أبنيتها فوجدناها سالمةً ولم تصب بأذى.