جعفر: في صباح يوم العدوان
غادرتُ منزلي صباح الخميس يرافقني الملازم الثاني محمد ياسين قاصداً الموقع البديل لمقر وزارة الصناعة والتصنيع العسكري - في بناية تسويق إطارات السيارات في موقع السيدية جنوب غربي بغداد ومن هناك غادرتُ إلى موقع التويثة حيث استقبلني العقيد أحمد المشهداني مدير أمن البرنامج النووي الوطني ثم اتجهنا صوب مقر قوة الدفاع الجوي لجنوب بغداد الذي يقع خارج سياج التويثة من الجهة الشمالية وعلى بعد بضع مئات الأمتار من نهر دجلة فالتقينا بآمر تلك القوة العميد الركن ناجي خليفة الذي طلب منا تزويد قوته بكميات مضافة من الماء والغذاء لتوزيعها على جميع سرايا قوته المتخندقة حول موقع التويثة كما طلب وقود الديزل لتشغيل أجهزة توليد الدخان الذي يؤمّن التشويش على متحسسات صواريخ توماهوك فيحرفها عن أهدافها، ثم توجهنا إلى مصنعي الربيع ودجلة في موقع الزعفرانية القريب من موقع التويثة فالتقينا بمنتسبي الطوارئ فيها وارتحنا لحالهما، ثم بعد ذلك غادرنا بسرعة إلى مركز السيطرة على توزيع القدرة الكهربائية ضمن بغداد وهو يتبع مؤسسة الكهرباء ومن بعد ذلك زرنا المحطة الثانوية بجهد 400 كيلوفولت في شرق بغداد كما زرنا محطات التحويل الثانوية بقدرة 132 كيلوفولت والموجودة في منطقتي المشتل وبغداد الجديدة جنوب - شرقي بغداد وتفقدنا جميع هذه المحطات وأعددنا تقريراً موجزاً بالدمار الذي لحق بها في الليلة الأولى من القصف أرسلناه إلى الموقع البديل لاطلاع الوزير حسين كامل.
يفعلون عكس ما يقولون في القوانين الدولية
مساء يوم الجمعة 18/1/1991 ظهر جورج بوش الأب على شاشة التلفزيون ليعلن للأمة الأميركية وللعالم أجمع أن جميع المنشآت النووية العراقية قد دُمرت بالكامل ولم تعد تشكل خطراً على السلام العالمي. أثار إعلانه ذلك لدينا الاستهزاء والسخرية فنحن نعلم أفضل من أي شخص آخر أن جميع منشآتنا النووية كانت سالمة إلى تلك اللحظة فأدركنا أن العدوان الأميركي على العراق لم يكن قطعاً لتحرير الكويت بل كان هذا (التحرير) ذريعة لتحطيم كل ما بناه العراق من معالم الحضارة الإنسانية المعاصرة وأن أهم معلم يرغب بوش تدميره هو البرنامج النووي لتبقى إسرائيل المدللة الوحيدة في المنطقة العربية والتي تمتلك سلاحاً نووياً ترهب به العرب. ومما يجدر ذكره أن الجمعية العامة للوكالة الدولية للطاقة الذرية كانت قد أصدرت قراراً تأريخياً في أعقاب عدوان إسرائيل على مفاعل تموز العراقي في 7 حزيران 1981 وينص على أن العدوان على منشآت نووية يكافئ عدواناً بالسلاح النووي. واستناداً لهذا القرار وظناً منا أن أخلاقيات دول الحلفاء سوف لن تسمح لها بالاعتداء على المنشآت النووية العراقية أثناء هذه الحرب كي لا تعرض العراق والدول المجاورة لأخطار تسرب إشعاعي. وكم كان ظناً خاطئاً فلم تمضِ سوى أيام قلائل على إعلان بوش الأب حتى انقضّت طائرات وصواريخ الأمريكان على مباني موقع التويثة وهو الموقع المعلن والمعروف للجميع بكونه موقعاً نووياً. فدمرت مفاعل 14 تموز للأبحاث والذي كان يعمل بكامل قدرته عشية عدوان عاصفة الصحراء ثم دمرت مبنى مفاعل تموز2 وهو المفاعل قليل القدرة الذي لم تصبه إسرائيل في عدوانها قبل عقد من السنين وربما كانت مدركةً ضمن خططها الشيطانية أنها ستترك تدميره لحليفتها الولايات المتحدة الأميركية. وكاد تدمير هذين المفاعلين أن يخلق حادثة نووية مروِّعة لولا عناية الله جلت قدرته في حماية العراق.
نعمان: إنقاذ ما يمكن إنقاذه
جاء هذا العدوان على موقع التويثة ليضعنا أمام مسؤولية كبيرة تجاه شعبنا وتجاه شعوب العالم فتقرر نقل الوقود من تحت أنقاض المفاعلين المدمرين إلى موقع آمن في مكان قريب من موقع التويثة يسمى جرف الندَّاف ويبعد عنه نحو 7 كم فأجرى جعفر اتصالات مستعجلة وعلم بوجود أحواض كونكريتية لدى منشأة الفاو العامة بحجم 2.5×2×2 متر مكعب كانت المنشأة قد بنتها لخزن الماء لمواقع القوات المسلحة المرابطة في الأراضي العراقية والكويتية فابتاع عدداً منها ووضع كل واحدة داخل حفرة في موقع جرف الندّاف وضمن محيط دائرة واسعة. وتولّى مصنع الربيع الميكانيكي تصنيع أحواض من الحديد المغلفن ثم وُضعت داخل الأحواض الكونكريتية وملئت بالماء اللاأيوني (أي الخالي من الأملاح)... كل ذلك أنجز أيام الحرب ثم جاءت الفعاليات البطولية حيث تطوع عدد من المنتسبين للتسلل إلى أقبية الوقود في أحواض مائية تحت أنقاض المفاعل المدمر وكأنهم محترفو تسلق الجبال تحزموا بحبال يمسك بها رجال خارج المبنى المدمر فأخرجوا قضبان الوقود من مخابئها تحت الأنقاض ونقلوها إلى الموقع الأكثر أمناً ضمن سلالٍ من الشباك المصنوعة من الفولاذ الذي لا يصدأ وأشرف جعفر بنفسه على هذا الإنجاز الكبير الذي تم أثناء النهار وفي فترات متقطعة بين غارات الحلفاء غير آبهين بتساقط القنابل من حولهم يدفعهم إلى ذلك شعورهم الوطني بواجب تجنيب العراق كارثة بيئية محققة هي عندهم أهم بكثير من أرواحهم وسلامتهم.
جعفر: قرار جديد
وفي نيسان (ابريل) 1991 صدر قرار بتفكيك وزارة الصناعة والتصنيع العسكري إلى كيانين: الأول هو وزارة الصناعة والمعادن والثاني هيئة التصنيع العسكري وأبقى القرار على حسين كامل مشرفاً عليهما... إضافة لكونه وزيراً للدفاع ومشرفاً على وزارة النفط آنذاك وعُيِّن عامر السعدي وزيراً للصناعة والمعادن، وحيث أنني كنتُ قبل ذلك مسؤولاً عن قطاع الكهرباء وهو قطاع عائد إلى وزارة الصناعة والمعادن فالتحقتُ بالعمل وكيلاً لهذه الوزارة ومسؤولاً عن قطاع الكهرباء أيضاً فتوطدت صداقتي مع عامر السعدي واقتربت وجهات نظرنا في العديد من الشؤون التكنولوجية والصناعية. وأصبحت هيئة التصنيع العسكري تحت إدارة الوكيل الأقدم عامر محمد رشيد العبيدي والوكيل العميد نزار جمعة قصير العاني. في 8 تموز 1991 أصدر حسين كامل أمراً بتعييني لهيئة التصنيع العسكري وكالة وهي مؤسسة عملاقة تحتاج إلى مدير متفرغ لإدارتها بالكامل مما أبعدني أكثر فأكثر عن منتسبي بترو-3 مما جعلهم يشعرون بأنهم أصبحوا الآن بلا قائد موجِّه ولا هدفٍ، فأي تحطيم للمعنويات أكثر من هذا لأناس كانوا شعلة وضاءة وجيشاً معطاءً في العلم والتكنولوجيا.
جعفر: وللحديث هذه الصلة
بعد بضعة أيام من مباشرتنا منصب إدارة الهيئة أمرنا حسين كامل بإعداد مسودات لأوامر يُصدرها صدام بنقل عدد من فعاليات بترو-3 إلى الهيئة وأعددنا خمسة فقط وقعها حسين في الحال وبعث بها إلى مكتب رئيس الجمهورية لغرض توقيعها. في تشرين الأول من العام ذاته استقال حسين كامل من جميع مناصبه من غير أن ينشر السبب عن هذا الحدث المفاجئ غير أننا نستطيع الآن توضيح الأسباب التي أدت لذلك بما يلي: إثر قصف الجسور في العراق خلال عاصفة الصحراء تضرر العديد منها ومن بينها جسر الجمهورية في بغداد الذي يعد أهم جسر في مركز بغداد ويقع بجوار وزارة التخطيط كما تهدم الجسر المعلق بالكامل وهو الذي يربط الكرادة داخل بكرادة مريم في الكرخ ويقع على مقربة من البوابة الجنوبية للقصر الجمهوري. وكان حسين كامل رئيساً للجنة العليا للحشد الهندسي للطرق والجسور (تشكلت أثناء الحرب العراقية - الإيرانية لدعم المجهود الحربي في إنشاء الطرق والجسور والسواتر الترابية) وهي لجنة تضم عدداً من الوزارات والشركات الإنشائية ذات الصلة وسكرتيرها العام عدنان عبد المجيد جاسم العاني أحد وكلاء وزارة الصناعة والتصنيع العسكري آنذاك. وبعد أن وضعت الحرب أوزارها أُوكِل لهذه اللجنة مسؤولية وضع الأولويات لإعمار جسور العراق المتضررة كافة بما في ذلك إصلاح الجسرين في بغداد فأُوكِل إصلاح جسر الجمهورية إلى وزارة الإسكان والتعمير في حين أُوكِل إصلاح الجسر المعلق إلى هيئة التصنيع العسكري. بعد الحرب كان إعمار جسر الجمهورية عملاً مدنياً تقليدياً فسارت عملية إعماره بسرعة بينما تطلب إعمار الجسر المعلق تهديمه بالكامل بجهد صنف الهندسة الآلية الكهربائية التابعة للجيش وتطلب إعماره استيراد الحبال الفولاذية وتصنيع الكثير من المستلزمات محلياً. إكتمل إصلاح جسر الجمهورية بوقت قياسي في تموز من عام 1991 فتولى وزير الإسكان والتعمير المهندس محمود ذياب أحمد المشهداني زف البشرى إلى صدام حسين مباشرةً دون إرسالها عبر اللجنة العليا للحشد الهندسي التي يترأسها حسين كامل فكان ذلك سبباً لغضبه لأنه رغب أن يتولى ذلك بنفسه باعتباره مسؤولاً عن الإعمار. إستجاب صدام حسين لطلب وزير الإسكان والتعمير أن يتم حفل تدشين الجسر برعايته (الكريمة)، ورشح عزت ابراهيم لرئاسة الاحتفالية نيابةً عن رئيس الجمهورية. وفي صبيحة احتفالية افتتاح الجسر تولى حاجم خميس مدير مكتب حسين كامل إبلاغ الوزراء ومن هم في درجة وزير ووكلاء الوزارات التي يشرف عليها حسين كامل بعدم حضور الاحتفالية وهو إجراء غير مألوف نظراً لأن أي احتفالية برعاية رئيس الجمهورية تقتضي وجوب حضور جميع المدعوين إلى الاحتفالية، غير أن أمر حسين كامل تغلب على البروتوكول فتخلف جميع من أُبلغ بعدم الحضور. جرت الاحتفالية في الصباح ثم عبر الجسر صدام حسين راجلاً ليلاًً لتفقد الجسر فأصدر أوامره بتكريم وزير الإسكان والتعمير والعاملين بمعيته في إصلاح الجسر. جنّ جنون حسين كامل وتصرف كطفل مدلل فأرسل ورقة استقالته من جميع مهامه الإشرافية على الوزارات والهيئات واللجان العديدة. وقبِل صدام استقالة صهره وعيّن ابن عمه علي حسن المجيد (وهو عم حسين كامل) وزيراً للدفاع. وفي اليوم التالي اتصلنا بوزير الدفاع الجديد نستفسر منه في ما إذا يتوجب علينا الاستمرار بمنصبنا مديراً لهيئة التصنيع العسكري وكالة فأبلغنا الوزير أن أمر حسين كامل لم يكن نظامياً وعليه لا يعتقد أن بقاءنا في ذلك المنصب أمر مستساغ فاتصلنا بمكتب رئيس الجمهورية وتسلمنا أمراً خطياً من رئاسة الجمهورية بضرورة التحاقنا بمنصبنا السابق وكيلاً لوزارة الصناعة والمعادن وأن نستمر بتركيز جهدنا لإدارة شؤون قطاع الكهرباء. وفجأة قرر صدام آخر شباط (فبراير) 1992 إعادة تعيين حسين كامل مشرفاً على هيئة التصنيع العسكري وعلى وزارة الصناعة والمعادن ووزارة النفط وبذلك عاد إلى وضعه السابق، الرجل الثاني في نظام صدام. في أول أعماله استحصل حسين كامل على أمر من صدام بنقل بترو-3 بكامل معداتها وتجهيزاتها ومنتسبيها إلى هيئة التصنيع العسكري فعقد اجتماعاً على عجل مع الكادر المتقدم لبترو-3 مساء 13/3/1992 وأخبرهم بقرار النقل وأعلمهم بأنه يتضمن احتفاظ منتسبي بترو-3 بكافة امتيازاتهم ودرجاتهم الوظيفية السابقة وأن القرار يقضي أيضاً - واعتباراً من ذلك اليوم - بانتهاء الوجود الرسمي لمشروع بترو-3 مما يعني إلغاء هذا الكيان وإلغاء برامجه وخططه السابقة كافة وأن المنتسبين سيتوزعون على منشآت التصنيع العسكري كل بحسب اختصاصه. فودع أولئك المنتسبون الحاضرون بعضهم بعضاً وأدركوا احتمالية عدم التقائهم لاحقاً وأنهم وبكل تأكيد سوف لن يعملوا مع بعضهم كوحدة متماسكة نظراً لأن هيئة التصنيع العسكري واسعة جداً ومنشآتها منتشرة ضمن رقعة جغرافية كبيرة ولا رابط بينها سوى الإدارة المركزية للهيئة.
نعمان: نعم سيدي... أمرك سيدي
خرجتُ من ذلك الاجتماع في ساعة متأخرة من المساء مكتئباً فلقد أضعتُ أفضل مرحلة من عطائي العلمي ضمن برنامج لم يعطِ ثماره والآن انتقلنا إلى هيئة تنفيذية لا مجال للبحث العلمي فيها وإن وجد فيجرى على وفق مفاهيم المؤسسة العسكرية وأنه سيصعب عليَّ وأنا العالم الباحث الليبرالي المنهج والسلوك أن أعمل بمعية مجموعة من الضباط لم أسمع منهم طيلة ذلك الاجتماع غير كلمات نعم سيدي، أمرك سيدي، و(صار سيدي) مع تبجحات تسهيل الأمور خلاف ما تحتمل ولدينا مثال: أخبرتُ حسين كامل أثناء الاجتماع أن المجموعة الكيميائية التي كانت تعمل في موقع التويثة لم يعد لها مختبرات تعمل ضمنها وهي الان محشورة في بناية لا تصلح حتى كمكاتب للدراسة النظرية فأدار وجهه صوب نائبه نزار جمعة القصير وقال له عليك أن تبني لهذه المجموعة وعلى وفق متطلبات نعمان بناية تلائم عملهم على أن تنجز البناية في غضون ثلاثة أشهر فقال له (نعم سيدي) فعجبتُ لذلك إذ أن خبرتي ترشدني أن هذه المدة قد لا تكفي لتحديد المواصفات وإنجاز التصميم الأساس وفي اليوم التالي استدعاني نزار إلى مكتبه واستدعى المدير العام لتنفيذ المشاريع الصناعية الدكتور علاء محمود حسين التميمي وهو أحد منتسبينا السابقين وقرأ عليه أمر حسين كامل كما مدون في مفكرته وقال له نريد أن نفتتح المبنى في 17 تموز المقبل فأجابه- أمرك سيدي. فالتفت إليّ وقال: "هذا هو فماذا تريد؟! (وكأن المبنى قد اكتمل)... فصول منتقاة من كتاب سينشره مركز دراسات الوحدة العربية في اواخر الشهر الجاري