نظرا لإهمالنا لتراثنا العربي الأصيل وتبجح الغرب بكونهم آباء العلوم ومصدرها، ها هو ردنا على أننا آباء الفيزياء....تعالوا لنكتشف ماضينا لنبي حاضرنا :
ابن الهائم (753-815 هـ / 1350 -1412 م)
أبو العباس شهاب الدين أحمد بن محمد بن عماد الدين بن علي المعروف بابن الهائم المصري المقدسي ، رياضي وعالم فرائض اشتهر في القرن الثامن الهجري / الرابع عشر الميلادي. ولد بالقاهرة ، وفيها حفظ القرآن ودرس مبادئ العلم الأولى. وعندما بلغ سن الشباب غادر إلى القدس وفيها أقام بقية عمره، ومنها جاء نسبه المقدسي.
قام ابن الهائم بعد استقراره في القدس بتدريس علم الرياضيات وعلوم الشريعة لطلاب العلم، فاشتهر بذلك وعلا شأنه وأصبح من أبرز علماء الرياضيات في العالم الإسلامي. ولعل أهم ما ميز ابن الهائم هو طريقته في التدريس التي أسسها على تقوى الله، فكثيرا ما كان يحث طلابه أن يكونوا قدوة حسنة في العمل الجاد والتمسك بدينهم الحنيف. فلقبه الناس بالمعلم، فأحبه تلاميذه وقدروه وحاولوا تقليده.
ولقد كان ابن الهائم يقضي نهاره في التدريس، ثم ينتقل بعد ذلك إلى المسجد الأقصى فكان يقضي وقته هناك يعظ الناس ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويفقههم في الدين حتى صار من كبار فقهاء الإسلام في الدعوة والإرشاد والإفتاء.
وقد كان لاهتمام ابن الهائم بعلوم الشريعة أثر كبير في توجيهه علم الرياضيات لخدمة الدين، فاهتم اهتماما بالغا بعلم الفرائض ومسائل حساب الميراث وتوزيع التركات حتى أصبح أعلم أهل زمانه في هذا العلم لدرجة أنه عرف بالفرضي ،وما زال ابن الهائم على هذه الحال حتى وافته المنية عام 815هـ / 1412 م. عن عمر يناهز اثنين وستين عاما.
وتتجلى شهرة ابن الهائم في علم الحساب أنه ابتكر طرقا مبسطة لعمليات ضرب الأعداد (فمثلا يكون ضرب أي عدد في خمسة عشر بجمع نصف قيمة ذلك العدد إليه ثم الضرب في عشرة). ولقد أودع هذه الطريقة في كتابه المعروف باسم اللمع في الحساب وهي رسالة تجمع بين العلم والأدب وقد قام بشرحها تلميذه سبط المارديني.
كما ترك ابن الهائم عددا آخر من المؤلفات كان معظمها في علم الحساب والجبر والفرائض من أهمها: كتابه أسنان المفتاح وهي ملخص لكتابه المعونة في الحساب الهوائي ، وله في الحساب الهوائي أيضا كتاب مختصر في علم الحساب المفتوح الهوائي ، ومن كتبه أيضا كتاب الحاوي في الحساب ، وكتاب /1 2 مرشدة الطالب إلى أسنى المطالب وقد شرح هذا الكتاب الشيخ عبدالله الشنشوري. ومن مؤلفاته في الجبر كتاب المقنع في الجبر والمقابلة ، وقد قام بنظمه في قصيدة لامية من حوالي ستين بيتا شرحها في رسالة بعنوان المسمع في شرح المقنع . كما له شرح الأرجوزة الياسمينية لابن الياسمين في الجبر. ومن أعماله في الفرائض كتاب غاية السول في الإقرار بالدين المجهول ، ورسالة التحفة المقدسية /12 وهي نظم في كيفية حساب الإرث.
-----------------------------------------------------
الكندي (185-252هـ / 801 -867م)
أبو يوسف يعقوب بن إسحاق، فيلسوف وطبيعي وكيميائي وفلكي وموسيقي ورياضي اشتهر في (القرن الثالث الهجري - التاسع الميلادي). كتب اسمه بأحرف من ذهب في مجال الفلسفة حتى عرف باسم "فيلسوف العرب". ولد بالكوفة لأسرة عربية أصيلة تمتد أصولها إلى قبيلة كندة. وكانت أسرته ثرية، فكان أبوه حاكما لإمارة الكوفة أيام الخليفة محمد المهدي وولديه الهادي والرشيد، وكان يمتلك أراض خاصة به في البصرة .
توفي والد الكندي وهو ما يزال صبيا فنشأ الكندي يتيما، إلا أنه رأى آثار أبهة الإمارة، وورث بالكوفة بيتا كان من أفخم الدور، ثم انتقل إلى بغداد حيث تعلم الفلسفة وما يتصل بها من علوم طبيعية ورياضية. ولما كانت هذه العلوم في أيدي فئة قليلة من السريان فقد عكف على أخذها من أصولها فتعلم اللغتين اليونانية والسريانية، إلا أنه لم يكن يترجم عنها بنفسه، بل كان يعالج ترجمة النقلة ويصلحها. كما درس العلوم الشرعية فأخذ الفقه عن الإمام أبي حنيفة والقضاء عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى. ثم انتقل الكندي إلى بلاط المأمون والمعتصم، فنال حظا كبير باطلاعه على العلوم المختلفة، وقد انفرد الكندي عن كل فلاسفة عصره بمحاولاته الجريئـة في الجمع بين أصول الفقه والعلوم العقلية، والتي مكنته من كتابة رسالة في التوحيد مبنية على طرق أهل المنطق.
قرب المعتصم بالله الخليفة العباسي الكندي، وكان معجبا بسعة علمه وتعدد معارفه، وعهد إليه بتأديب ابنه أحمد، وقد أهدى للمعتصم كتابه الأول المؤلف في الفلسفة، كما أهدى لابنه أحمد كتبا عديدة من مؤلفاته. ولقد عاش الكندي في دار الخلافة فعمل في خدمة الخلفاء وعلاجهم، واستطلاع التوقعات الفلكية لهم، كما عمل في ديوان الخراج، ونظرا لسعة معارفه فكان يجلس أيضا لمنادمتهم. ولقد ساعدته حياته في كنف الخلفاء على جعله أرسطقراطيا في حياته وفي مجالسه وفي تفكيره، وهذا ما جعل عددا كبيرا من كتاباته العلمية تخدم اهتمامات بلاط الخلافـة مثل رسالته في صناعة الزجاج ، والجواهر ، والعطور ، والموسيقى .
ولقد حافظ الكندي على مركزه في بلاط خلفاء سامراء، فكان يحضر المجالس العلمية التي اعتاد الواثق بالله أن يعقدها ويحضرها كبار الأط باء والفلاسفة، ثم جاء الخليفة المتوكل بعد الواثق فقرب الكندي إليه وقدمه في بلاطه، مما أثار عليه حسد الإخوة بني موسى ، إذ كان يعز أن يتفوق عليهم غيرهم في بلاط الخليفة. فسعوا في الوشاية به لدى الخليفة المتوكل، مما ترتب عليه أن صادر الخليفة مكتبته، والتي يعتبرها الكندي أكبر مصيبة حلت به في حياته كلها، وقد شاء الله أن أعيدت له المكتبة مرة أخرى.
لكن الكندي لم يعد إلى سابق عهده في قصر الخلافة، فمات بعد سنوات قليلة مجهولا مغمورا بعد أن عاش ما يقرب من سبعين سنة. وذكر في وفاته إنه كان يشكو ألما في ركبتيه وكان يعالج ذلك بالشراب العتيق، ولما كف عن تناول استخدام شراب العسل لم ينفعه، فقوي المرض عليه فأوجع العصب وجعا شديدا، فأتى الألم إلى الرأس والدماغ فكان سبب موته.
وتتركز شهرة الكندي في حقيقة أنه كتب في شتى فروع المعرفة، فقد صنف في الفلسفة، والسياسة، والأخلاق، والرياضيات، والبصريات، والموسيقى، والفلك، والجغرافيا، والمعادن، والكيمياء، والهندسة، والطب، وعلم النفس. وقد أودع جميع مؤلفاته في مقالات ورسائل وصلت في مجموعها إلى (250) مؤلفا. ولكن مما يؤسف له أنه لم يصلنا معظمها، وإنما وصلنا بعض رسائله في الفلسفة، وفي الطبيعيات، والموسيقى
-------------------------------------------------------------
الكوهي (000-390هـ / 000 -1000م)
أبو سهل ويجن بن رستم الكوهي. عالم رياضي وفلكي وفيزيائي اشتهر في القرن الرابع الهجري / العاشر والحادي عشر الميلاديين. ولد بمدينة الكوه في جبال طبرستان جنوب بحر الخزر وإليها نسب.
هاجر الكوهي إلى بغداد حيث استقر فيها وتلقى علومه الأساسية. فنبغ في العلوم التطبيقة عامة وفي الفلك خاصة. وعندما استولى شرف الدولة ابن عضد الدولة البويهي على السلطة من أخيه صمصام قرب الكوهي وطلب منه إنشاء مرصد فلكي في بغداد، وتقديم دراسة متكاملة عن رصده الكواكب السبعة من حيث مسيرتها وتنقلها في بروجها.
فبنى الكوهي المرصد في دار المملكة، في آخر البستان، مما يلي باب الحطابين ببغداد. وقد أحكم أساسه وقواعده لئلا يضطرب أو يميل شيء من حيطانه. كما استفاد الكوهي من عطف شرف الدولة لإقناعه ببناء عدة مراصد في البلاد الإسلامية ليتسع لعلماء الفلك تطبيق نظرياتهم الفلكية. وقد رصد الكوهي في مرصده هذا محضرين أخذت فيهما خطوط الحاضرين بما شهدوا، واتفقوا عليه.
كما قام الكوهي بدوره بتغيير الانقلاب الصيفي والاعتدال الخريفي. كما علق وانتقد بعض الفرضيات الفلكية التي اعتمد عليها علماء اليونان في دراستهم الفلكية. كذلك تفوق الكوهي في صناعة معظم الآلات الرصدية التي استعملها في مراصده في بغداد، ويتضح ذلك في كتابه صنعة الأسطرلاب بالبراهين.
وفي مجال الجبر طور الكوهي هذا العلم، وإليه يرجع الفضل قي تطوير المعادلة الجبرية ذات ثلاثة حدود. كما حل الكوهي بعض المسائل المستعصية على معاصريه في هذا الحقل، وأعطى جل وقته لدراسة المعادلة الجبرية التي درجتها أعلى من الثانية.
أما في موضوع علم الهندسة، فقد ذاع صيته، وذلك بتعديله لكثير من المسائل الهندسية التي تتعلق في حجوم ومساحات بعض الأجسام. كما شرح كتاب أصول الهندسة لإقليدس وحل المستعصي من المسائل على أساتذته من علماء العرب والمسلمين.
وفي مجال الفيزياء طور الكوهي نظريات مركز الثقل واستخدم البراهين الهندسية لحل كثير من المسائل ذات العلاقة بإيجاد مركز الثقل، كما تمخض من دراسته لمركز العقل بحوث قيمة حول موضوع الروافع، واشتهر بلقب أستاذ مركز الثقل ب ين معاصريه.
ترك الكوهي مصنفات متنوعة من أهمها كتاب البركار التام ، وكتاب الأصول على تحريكات إقليدس ، وكتاب مراكز الدوائر على الخطوط من طريق التحليل دون التركيب ، وكتاب الدوائر المتماسة من طريق التحليل ، وكتاب الزيادات على أرشميدس . كما ترك من الرسائل رسالة تثليث الزاوية ، ورسالة عمل المسبع المتساوي الأضلاع في الدائرة ، ورسالة إخراج الخطين من نقطة على زاوية معلومة.
-------------------------------------------------------------------------
فخر الدين الرازي (543-606هـ / 1148 -1209م)
محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين بن علي التميمي البكري الرازي المعروف بفخر الدين الرازي أو ابن خطيب الري. وهو عالم موسوعي امتدت بحوثه ودراساته ومؤلفاته من العلوم الإنسانية اللغوية والعقلية إلى العلوم البحتة في: الفيزياء، الرياضيات، الطب، الفلك.
ولد فخر الدين الرازي بمدينة الري عام 543هـ /1148 م، وكان والده الإمام ضياء الدين عمر بن الحسن فقيها اشتغل بعلم الخلاف في الفقه وأصول الفقه، وله تصانيف كثيرة في الأصول والوعظ وغيرهما. وعلى يد والده تعلم فخر الدين العلوم اللغوية والدينية، وتتلمذ العلوم العقلية على يد مجد الدولة الجيلي بمدينة مراغة ( قرية مشهورة بأذربيجان ).
وصار لفخر الدين الرازي تلاميذ صاروا علماء كبارا من بينهم: زين الدين الكشي، والقطب المصري، وشهاب الدين المصري. وقد كان فخر الدين الرازي شديد الدقة في أبحاثه، جيد الفطرة، حاد الذكاء، حسن العبارة، قوي النظر في صناعة الطب ومباحثها، عارفا بالأدب، ويتقن العربية والفارسية، وله شعر باللغتين العربية والفارسية. وكان طلاب العلم يقصدونه من كافة البلدان يعشقون مجلسه والاستماع إليه، وكان يعقد مجالسه العلمية حيثما حل في بلاد فارس، وخراسان، وبلاد ما وراء النهر، وكان يقرب منه في حلقات درسه تلاميذه الكبار، وبقية الطلاب والأمراء والعظماء من مستمعيه في حلقات تتلوها حلقات.
وقد حدث في إحدى هذه المجالس أن حمامة يطاردها صقر رفرفت في دائر صحن جامع هراة وسقيفته، وكانت العيون ترقبها فلم تجد ملاذا لها سوى أن تدخل إيوان الجامع، ومرت بين الصفوف المتحلقة، وفوق الرءوس، واستقرت في حجر فخر الدين الرازي، فراح يربت على رأسها وريشها، ففر الصقر هاربا ونجت الحمامة، وكان الشاعر شرف الدين حاضرا المجلس، فارتجل شعرا في حكاية الحمامة، ومدح فخر الدين الرازي.
وقد عانى فخر الدين الرازي في صباه وشبابه الكثير من أخيه الأكبر سنا الملقب بالركن، وكان أخوه الركن يعرف شيئا من علوم الفقه والأصول، لكنه كان أهوج كثير الاختلال، ولذلك كان أبوهما لا يخفي إيثار فخر الدين الرازي على أخيه الأكبر، لذا كان هذا الأخ الأكبر يشعر بالغيرة من أخيه فخر الدين الرازي. فقد كان يتبعه في أسفاره ويسير خلفه يشنع عليه ويسفه المشتغلين بكتبه والناظرين في أقواله محتجا بأنه أكبر منه وأعلم وأكثر معرفة بالفقه وأصوله، متعجبا من الناس كيف يقولون فخر الدين الرازي ولا يقولون ركن الدين، ومع ذلك كان فخر الدين الرازي حينما يبلغه هذا الأمر يشعر بالإشفاق عليه ويسارع بالإحسان إليه.
وقد عانى فخر الدين الرازي في شبابه المشقات في أسفاره في طلب العلم، فقد غادر الري قاصدا بخارى ليكتسب جديدا من العلم، ويكسب بعض المال وكانت بخارى ما زالت منارة من منارات العلم والمعرفة، ونزل في الطريق بخوارزم وعقد بها حلقة للعلم تحدث فيها بالفارسية والعربية بآراء لم ترضِ أهل خوارزم فأخرجوه منها، وقصد بخارى فوجد أهلها مثل أهل خوارزم، وعانى من الفقر والجوع، فآوى إلى مسجدها الجامع إلى أن رعاه رجل من أهل بخارى، وجمع له مالا من أموال الصدقات. وعاد فخر الدين الرازي بعد ذلك إلى الري وأمن إلى طبيب حاذق له ثروة وله بنتان تزوج إحداهما، وتوفي هذا الطبيب بعد قليل فورثت ابنته ثروة لا بأس بها.
وتوجه فخر الدين الرازي إلى السلطان شهاب الدين الغوري صاحب غزنة، فبالغ في إكرامه، ثم توجه فخر الدين الرازي إلى خراسان، واتصل بالسلطان خوارزم شاه محمد بن تكش، ويقال إنه قد أرسله رسولا إلى الهند في بعض أموره.
ومن بعد خراسان توجه فخر الدين الرازي إلى هراة (بلدة في إيران)، وقد عزم على الإقامة مع أهله وولديه بها، واستقر فخر الدين الرازي في أواخر حياته بمدينة هراة، وصارت له بها دار فخمة أعطاها له السلطان خوارزم شاه محمد بن تكش الذي كان حريصا دائما على حضور مجالسه العلمية. وقد كان يعقد مجالسه العلمية بمسجد هراة. وقد توفي بهراة، ودفن بظاهر هراة عند جبل قريب منها عام 606هـ /1209 م.
وفخر الدين الرازي بمجمل مؤلفاته هو أول مَن ابتكر الترتيب وفق قواعد المنطق في كتبه، من حيث ترتيب المقدمات واستنباط النتائج مراعيا التقسيم إلى أبواب، وتقسيم الأبواب إلى فصول، وتقسيم الفصول إلى مسائل فلا تشذ منه مسألة، حتى انضبطت له القواعد، وانحصرت معه المسائل. وفخر الدين الرازي هو أول مَن قال من العرب: إن علم المنطق علم قائم بذاته وليس جزءا من غيره.
ومن أهم إنجازات فخر الدين الرازي أنه كان من أوائل العلماء الذين قالوا بنظرية الورود في الضوء من المبصرات إلى العين، وفي كيفية الإبصار . وقد فسر فخر الدين الرازي حدوث الصوت في كتابه المباحث الشرقية بسببين: الأول منهما قريب يحدث من صدم ف سكون فصدم فسكون. والثاني منهما بعيد ويحدث من عاملين: القرع . القلع .
وقد اكتشف فخر الدين الرازي الفرق بين قوة الصدمة والقوة الثابتة، فالأولى زمنها قصير، والثانية زمنها طويل. كما اكتشف أن الأجسام كلما كانت أعظم كانت قوتها أقوى، وزمان فعلها أقصر، وأن الأجسام كلما كانت أعظم كان ميلها إلى أحيازها الطبيعية أقوى وكان قبولها للميل القسري أضعف.
وقد ذكر فخر الدين الرازي أن الحركة حركتان: حركة طبيعية سببها موجود في الجسم المتحرك، وحركة قسرية سببها خارج عن الجسم المتحرك. كما عزا فخر التغير الطارئ على سرعة الجسم إلى المعوقات التي يتعرض لها، ولولاها لاحتفظ الجسم بسرعة ثابتة إذ أن تغير السرعة مرهون بتغير هذه المعوقات، داخلية كانت أو خارجية. وكلما كانت المعوقات أقوى كانت السرعة أضعف.
وذكر فخر الدين الرازي أن الجسمين إذا اختلفا في قبول الحركة الطبيعية، لم يكن ذلك الاختلاف بسبب المتحرك بل بسبب اختلاف حال القوة المحركة بين الجسمين، فالقوة في الجسم المتحرك الأكبر، أكثر مما في الجسم المتحرك الأصغر. وأن الجسمين المتحركين حركة قسرية تختلف حركتهما لا لاختلاف المحرك بل لاختلاف المتحرك، فالمعاوق في الكبير أكثر منه في الصغير.
وشرح القانون الثالث من قوانين الحركة الذي يقول: لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومضاد له في الاتجاه. وقد شارك فخر الدين الرازي العالم العربي المسلم ابن ملكا البغدادي في القول بأن الحلقة المتزنة بتأثير قوتين متساويتين تقع تحت تأثير فعل ومقاومة أي أن هناك فعلا ورد فعل متساويين في المقدار ومتضادان في الاتجاه يؤديان إلى حالة الاتزان.
وقد ألف فخر الدين الرازي كتبا كثيرة، وشرح كتبا أقل، في شتى العلوم والفنون في عصره، خلال حياة امتدت أربعة وستين عاما. ومن أهم شروحه شرح الإشارات والتنبيهات للعالم ابن سينا .
ومن أهم كتبه في الفيزياء: المباحث الشرقية وهو كتاب موسوعي على غرار كتاب ابن ملكا البغدادي: المعتبر في الحكمة وهو من أشهر كتبه، وقد أودع فيه كافة إنجازاته العلمية.
ومن أهم كتبه في الرياضيات: مصادرات إقليدس وهو كتاب في الهندسة. ومن أهم مؤلفاته في الفلك: رسالة في علم الهيئة . ومن أهم كتبه في الطب: مسائل ف ي الطب . كتاب في النبض . كتاب في الأشربة . وكتابان لم يتمهما: الطب الكبير أو الجامع الملكي الكبير . كتاب في التشريح من الرأس إلى القدم . وهو كتاب هام في علم التشريح وله شروح لبعض كتب ابن سينا الطبية وهي: القانون في الطب . الكليات . عيون الحكمة .
--------------------------------------------------------------------------
قسطا بن لوقا (القرن 3هـ / القرن 9-10م)
أبو الصقر إسماعيل بن بلبل قسطا بن لوقا وقيل أبو عبيد الله بن يحيى المعروف بقسطا بن لوقا، عالم بالطب والفلك والرياضيات والطبيعة والنبات وهو من مدينة بعلبك في عهدها العباسي. ويلقب باليوناني نسبة إلى أصوله اليونانية. وقد عاش في القرن السادس الهجري / التاسع والعاشر الميلاديين، وقد اختلف مؤرخو العلوم في تاريخ وفاته مما يصعب معه تحديد عام وفاته، وقد ذكروا عدة أعوام 286هـ -899م، و300هـ -912م، و310هـ -922م، وتعلم مع لغته العربية اللغتين اليونانية والسريانية وأجادهما إجادته للعربية وكان شغوفا بالمعرفة وبالترجمة والنقل، فراح يتجول في بلاد الروم البيزنطيين (تركيا الآن) طلبا للعلم وللاطلاع على تصانيف علماء اليونان وكتبهم وجمع منها كتبا كثيرة عاد بها إلى مدينة بعلبك، وتسامع به علماء العراق والمسئولون بها فدعوه إلى بغداد ، وكان يعاصره من العلماء في بغداد الكندي ، و ثابت بن قرة اللذان شجعاه على ترجمة الكتب التي جلبها من اليونانية والسريانية إلى العربية.
وقد أثبت بترجمته ونقله إجادته للغات الثلاث، ووصفت ترجمته بجودة العبارة واختصار الألفاظ وحسن جمعه للمعاني ودقة النقل. وشهد بذلك له مؤرخو السير والعلوم من العرب والمستشرقين. وكان قسطا بن لوقا بترجماته ومصنفاته من الرواد الأوائل المؤسسين للحضارة الإسلامية في العصر العباسي الأول، ويبدو أنه دخل إلى بغداد في عهد الخليفة المعتصم بالله أو الخليفة المتوكل بالله، وكان طبيبا ماهرا مصنفا في الطب، ومعالجا للمرضى في العراق وفي أرمينية. وقد اختلف الناس في زمانه في الموازنة بينه وبين حنين بن إسحاق أيهما أطب من الآخر، وقد أشار إلى ذلك مؤرخون من أصحاب الموسوعات عن أعلام العلماء والأطباء. كما يبدو أنه كان شديد العناية في تطببيه مرضاه في الحمامات العامة والخاصة. وإلى جانب ذلك اشتغل قسطا بن لوقا بعلم الفلك.
وفي السنوات الأخيرة من عمره دعاه"سنحاريب"ملك أرمينية إلى بلاده لشهرته في الطب وحسن رعايته لمرضاه بالأغذية والأدوية وحرصه على تجديد نشاطهم بالحمامات، فلبى دعوته وسافر إلى أرمينية وعاش بالقرب منه معززا ومكرما إلى آخر عمره، وربما لأنه فقد القرب الحقيقي من خلفاء بغداد في زمانه مثل علماء آخرين. ويذكر المؤرخون أن قسطا بن لوقا توفي في عهد سنحاريب فشيد له هذ ا الملك قبرا ملوكيا وبنى عليه قبة ملكية اعترافا بقدره.
وقد شملت مؤلفات قسطا بن لوقا خلال حياته العلمية في بغداد وأرمينية صنفين من الكتب: كتب مترجمة أو مشروحة بعد ترجمتها، وكتب مصنفة في الطب والهندسة والرياضيات والفلك والطبيعة والنبات وعلم الحياة. وبعض هذه الكتب كان يترجمها أو يؤلفها من أجل الأصدقاء أو المسئولين في بغداد أو أرمينية. ومن بين الكتب التي ترجمها من اليونانية إلى العربية في الطب: فهرس مصنفات جالينوس . وفي الفلك: تحرير المساكن . و تحرير كتاب الأكر للعالم اليوناني السكندري: ثاوذوسيوس. وفي الرياضيات: الأصول لإقليدس. أصول الهندسة لأفلاطون. ونقل من السريانية إلى العربية كتابا في الزراعة: الفلاحة اليونانية أو الرومية لسرجيوس.
ولقسطا بن لوقا مصنفات علمية كثيرة، وقد صنف في الطب واحدا وأربعين كتابا من أهمها: المدخل إلى علم الطب . الكبد وخلقتها وما يعرض عليها من الأمراض . النقرس . حركة الشريان . الحمام . الوقاية من الزكام ونزلات البرد . الوباء . تركيب العين وأمراضها . السموم الحيوانية والنباتية والمعدنية . الأدوية المسهلة .
وصنف في الهندسة ثلاثة كتب هي: كتاب في رفع الأشياء الثقيلة . الوزن والكيل . ميزان وزن الذهب .
وصنف في الرياضيات أحد عشر كتابا من أهمها: المدخل إلى علم الهندسة . شكل الكرة والاسطوانة . البرهان على حساب الخطأين .
وصنف في الفلك تسعة كتب من أهمها: المدخل إلى علم النجوم . هيئة الأفلاك . المرايا المحرقة . العمل بالأسطرلاب الكري .
وصنف في الفيزياء ثلاثة كتب من أهمها: الجزء الذي لا يتجزأ .
-------------------------------------------------------------------
الخازن (000-550هـ /000 -1156م)
أبو الفتح عبد الرحمن الخازن، أو الخازني، فيزيائي وفلكي، اشتهر في القرن السادس الهجري / الثاني عشر الميلادي. نشأ في رعاية سيده علي الخازن المروزي الذي اشتراه رقيقا من بلاد الروم. أقام الخازني في مرو في بيت سيده الذي شجعه على العلم، فدرس على أكابر علماء عصره آنذاك حتى نبغ في علم الفيزياء والفلك.
خصص الخازني معظم وقته لدراسة الفيزياء والفلك وأثار إعجاب ودهشة الكثير من الناس بإنجازاته في هذين المجالين، فقد درس موضوع السوائل الساكنة، وتوصل إلى عدد من النظريات منها نظرية الميل والانحدار ونظرية الاندفاع. واخترع آلة لمعرفة الوزن النوعي للسوائل، وناقش ضمن دراسته موضوع المقاومة التي يعانيها الجسم من أسفل إلى أعلى عندما يغمر في الماء أو أي سائل. وقد استخدم في تعيين الثقل النوعي لبعض المواد الصلبة والسائلة الجهاز الذي استعمله البيروني ، ووصل منه إلى درجة كبيرة من الدقة. كما ابتكر الخازني معادلة تحدد الوزن المطلق لجسم مكون من مادتين. وأشار إلى أن للهواء وزنا وقوة رافعة كالسوائل، وأن وزن الجسم المغمور في الهواء ينقص عن وزنه الحقيقي، وأن مقدار ما ينقصه من الوزن يتوقف على كثافة الهواء، وبين أن قاعدة أرخميدس لا تسري على السوائل فقط بل إنها تسري على الغازات أيضا. وأشار أيضا إلى نظريات الجاذبية في تجارب أجراها بنفسه وبين فيها أن جميع أجزاء الجسم تتجه إلى مركز الأرض عند سقوطها وذلك بسبب قوة الجاذبية، ورأى الخازني أيضا أن سبب اختلاف قوة الجاذبية راجع إلى سقوط المسافة بين الجسم الساقط والمركز. وقد أودع الخازني إنجازاته هذه في كتابه الشهير ميزان الحكمة ، وهو في ثمانية مجلدات.
وفي مجال الفلك وضع الخازني كتابه بعنوان الآلات العجيبة الرصدية الذي تعرض فيه لعلم آلات الرصد. كما ألف جداول فلكية أسماها الزيج السنجاري (منسوب إلى السلطان سنجر آخر سلاطين السلاجقة) سجل فيها أرصادا دقيقة جدا. وكذلك تناول في كتاب الفجر والشفق قواعد النور، وقام بحساب انكسار النور بمروره في الكرة الهوائية.
---------------------------------------------------------------
كمال الدين الفارسي: (633 -720هـ / 63 -1320م)
كمال الدين أبو الحسن الفارسي، رياضي وعالم فيزياء. ولد كمال الدين الفارسي بمدينة شيراز في بيت اشتهر بالعلم. وتلقى مبادئ علم الطب عن أبيه، وتتلمذ على يد العالم قطب الدين الشيرازي أشهر علماء المسلمين في القرن السابع الهجري -الثالث عشر الميلادي. وصار كمال الدين الفارسي يسترشد بقطب الدين الشيرازي في دراسته، ويعرض عليه ما يواجهه من مشاكل علمية، واتصل بالعالم نصير الدين الطوسي الفلكي الرياضي المشهور.
وقد عنى كمال الدين الفارسي بالرياضة، وبدراسة علم الضوء ، وكان يسمى في ذلك العصر بـ "علم المناظر"، وانصرفت عنايته بصفة خاصة إلى ما يتعلق بكيفية إدراك صور المبصرات بالانعطاف، ولم يجد في كتاب إقليدس في المناظر، ولا في كتب الفلاسفة بغيته في موضوع الانعطاف، فذهب إلى أستاذه نصير الدين الطوسي يسأله عن رأيه في هذا الموضوع.
ويحكي الفارسي قصة هذا السؤال فيقول: "ولما رأيت في كلام بعض أئمة الحكمة، عن غير واحد منهم أن الضوء يشرق من النير على خطوط مستقيمة، فإذا صادفت سطحا كسطح الماء انعكست عنه على زوايا مساويات للزوايا المضادة، ونفذت فيه على سمت الإشراق عليه. وانعطفت فيه على سمت الانعكاس عنه، فحدثت من ذلك أربع زوايا، هي زوايا: الاستقامة، والانعكاس، والنفوذ، والانعطاف، وكلها متساوية، فتحيرت في هذه الأحكام من أين مأخذها، وثبت على هذه المقدمة، وتفرغت إليها مدة، فتفرعت عنها أحكام في الرؤية بالانعطاف جلها يخالف رأي نصير الدين الطوسي فزادت حيرتي فراجعت الحضرة (نصير الدين الطوسي) وحكيت له".
وقد أرشد نصير الدين الطوسي تلميذه كمال الدين الفارسي، إلى كتاب المناظر للعالم ابن الهيثم وهو في مجلدين كان قد رآه بخزائن الكتب بفارس، وأعطاه نسخة من هذا الكتاب بخط ابن الهيثم نفسه. وكان كمال الدين الفارسي قد وجد قبل حصوله على هذا الكتاب أقوالا في الانعطاف تدل على جهل بهذه الظاهرة، وكانت هذه الأقوال ما زالت تتردد في بعض كتب الحكمة. وكان قد مضى على بحوث ابن الهيثم وبحوثه في الضوء والانعطاف ما يقرب من ثلاثمائة عام. ولم تكن بحوث ابن الهيثم قد عم تداولها في الأوساط العلمية بالعالم الإسل امي في القرون الثلاثة التالية له بسبب ظروف الفتن الداخلية ومحنة التتار والحروب الصليبية.
وقد راع الفارسي كتاب ابن الهيثم وأعجب به وسجل هذا الإعجاب في مقدمة كتابه تنقيح المناظر لذوي الإبصار والبصائر وأيقن كمال الدين الفارسي أهمية إظهار ونشر هذا الكتاب وأنه من الخطأ كل الخطأ أن يظل كتاب ابن الهيثم مهملا منسيا في خزائن الكتب، وأنه من المفروض على العلماء أن يعيدوا تنقيحه حتى يسهلوا على طلاب العلم الاستفادة منه، وتيسير تداوله بينهم. فعرض على قطب الدين الشيرازي القيام بتلك المهمة فاعتذر له وذلك لانشغاله بشرح الكليات من كتاب القانون في الطب للعالم ابن سينا وقد شجع الشيرازي كمال الدين الفارسي على القيام بتلك المهمة بنفسه، فهو أهل لها. وعكف كمال الدين الفارسي على دراسة كتاب "المناظر" لابن الهيثم مرة أخرى، ودرس معه كتاب "أبولونيوس" في المخروطات، ووضع في النهاية كتابه: "تنقيح المناظر لذوي الإبصار والبصائر".
ومن أهم إنجازات كمال الدين الفارسي دراسته لكيفية انعكاس الضوء والإبصار في كرة مشفة واحدة، وفي كرتين مشفتين. وقد أوضح كمال الدين الفارسي بعض مظاهر الخداع البصري، حين صبغ وجه حجر الطاحون بعدة ألوان وأداره بسرعة فوجد أنه لا يظهر إلا لون واحد، لامتزاج الألوان. وبذلك يكون قد سبق اسطوانة نيوتن (1642 -1727م) بعدة قرون.
وقد طور كمال الدين الفارسي نظرية قوس قزح ووضع لها الشكل النهائي في التراث العربي العلمي ليعلل أمرين فيه هما: الأول: الهيئة التي يظهر عليها قوس قزح في السماء كقوس أو كقوسين متحدي المركز، والثاني: الألوان وترتيبها في كل من القوسين. وقد أضاف الفارسي بنظريته إضافة علمية جديدة لعلم الضوء لم يسبقه إليها ابن الهيثم وسبق بنظريته هذه بحوث ديكارت ونيونين عن قوس قزح، واستطاع كمال الدين التوصل إلى تفسير جديد لظاهرة قوسي قزح مداها أن قوس قزح الأول ناتج عن انكسارين للضوء وانعكاس واحد، وأن القوس الثاني ناتج عن انكسارين وانعكاسين وبرهن على تحديد انكسار ضوء الشمس خلال قطرات المطر وهو الانكسار الذي يحدث ظاهرة قوس قزح عن طريق تمرير شعاع من خلال كرة زجاجية. وكمال الدين الفارسي هو أول مَن تكلم عن نظرية الضوء الموجية ، وله اهتمامات ببعض الظواهر الفلكية م ثل: الشفق ، و السمت ، ودائرة البروج.
ولكمال الدين الفارسي كتب في علم الفيزياء ومن أهمها: تنقيح المناظر لذوي الإبصار والبصائر . و الهالة وقوس قزح . ومقال: رسالة في أمر الشفق . وله في الرياضيات كتب: أساس القواعد في أصول الفوائد . وهو شرح لكتاب ابن الخوام البغدادي المسمى: الفوائد البهية في القواعد الحسابية . وله كتاب: تذكرة الأحباب في بيان المتحاب وهو في الأعداد المتحابة .
-------------------------------------------------------------------
البيروني (362-440هـ / 973 -1048م)
أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني، فيلسوف ومؤرخ ورحالة وجغرافي ولغوي وشاعر، وعالم في الرياضيات والطبيعيات والصيدلة. اشتهر في القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي. ولد في قرية من ضواحي مدينة كاث عاصمة دولة خوارزم. ولكن لا يعرف نسبته على وجه التحديد، كما أشار هو نفسه بقوله "أنا في الحقيقة لا أعرف نسبتي... ولا أعرف من كان جدي".
رحل البيروني عن مسقط رأسه وهو في العشرين من عمره، حيث ظهرت عبقريته في علوم كثيرة، وتفتحت على مختلف فروع العلم. وعندما سمت مكانته العلمية، وارتفعت منزلته الأدبية، بدأت تتنافس عليه العروش والقصور. فتبناه أولا بناة الحكمة والعلم من بني سامان ببخارى ، حيث ذاع صيته، وقدرت مكانته العلمية والأدبية عندهم، وتوثقت صلته بهم. وهناك تعرف على الشيخ الرئيس ابن سينا الذي زامله قرابة عشرين عاما. فانتظما معا في المذاكرة والمناظرة، وتبادل الآراء والرسائل، وعلت مكانتهما عند الأمير نوح بن منصور الساماني، الذي ازدانت مكتبته بنفائس وذخائر مؤلفاتهما.
وفي عام 388هـ / 998 م. تألق نجم الأمير الأديب الحكيم قابوس بن وشمكير أمير جرجان الملقب بشمس المعالي، حيث أخذ ينافس آل سامان على جذب هذين النجمين اللذين كانا يضيئان قصور آل سامان ببخارى. فأخذ الأمير شمس المعالي يطلب من أبي الريحان الانتقال إليه ، لكنه رفض وفاءًا لآل سامان الذين كان ملكهم يومئذ يضطرب تحت الفتن والدسائس الداخلية والحروب الخارجية مع ملوك كاشغر في الشرق، وملوك غزنة في الغرب.
وعندما سقط ملك السامانيين خرج أبو الريحان مستصحبا معه ابن سينا إلى جرجان تلبية لرغبة أميرها شمس المعالي الذي أحسن ضيافتهما، وطابت نفسهما بالإقامة في قصره ، حيث كان يهتم بجهابذة العلم وعباقرة الحكمة وعمالقة الأدب. وفي هذا القصر كتب البيروني كتابه الآثار الباقية من القرون الخالية وأهداه إلى شمس المعالي.
وفي جرجان قابل البيروني أيضا أستاذه في الطب أبا سهل عيسى. وظلا معا حتى قامت الثورة العسكرية التي أطاحت بعرش شمس المعالي وأتت على حياته فخرج البيروني راجعا إلى وطنه خوارزم. وهناك استقر في مدينة جرجانية أصبحت فيما بعد ع اصمة خوارزم. وهناك اشتغل البيروني في مجمع العلوم الذي أسسه أمير خوارزم مأمون بن مأمون. وفي هذا المجمع قابل البيروني العالم مسكويه ، وانضم إليه لاحقا زميل رحلته ابن سينا.
وفي خوارزم أقام البيروني سبع سنوات في خدمة الأمير مأمون، حيث أصبحت له عند الأمير مكانة كبيرة، وقدرًا عظيما، إذ عرف الأمير مكانته من العلم، فاتخذه مستشارا له، وأسكنه معه في قصره، وكان يبدي له مظاهر الاحترام والتقدير.
وفي عام 407هـ / 1016 م. قام بعض جنود الأمير مأمون بثورة ضده وقتلوه، مما أدى إلى دخول صهره محمود بن سبكتكين الغزنوي خوارزم للانتقام من القتلة، وضم البيروني إلى حاشيته، وانتقل معه إلى بلده غزنة.
لازم البيروني السلطان محمود الغزنوي في كل رحلاته وغزواته. ومن خلال هذه الرحلات دخل البيروني الهند مع السلطان محمود في غزواته لهذه البلاد والتي بلغت سبع عشرة غزوة في المنطقة الشمالية الغربية من الهند، واستمرت حتى سنة 414 هـ / 1024 م. ولقد صاحب البيروني السلطان الغزنوي ثلاث عشرة مرة، مما أتاح له أن يحيط بعلوم الهند وتعلم من لغاتها السنسكريتية، إلى جانب إجادته العربية، والفارسية، واليونانية، والسريانية، فاستطاع أن يتوصل إلى المراجع الرئيسية. وهو ما كان ما يريده البيروني.
ولكن الأمور لم تساعد البيروني كثيرا، إذ لم يكن السلطان محمود الغزنوي من المهتمين بالعلم كثيرا، لذا كان عديم الاهتمام بأحاديث البيروني ومحاضراته. ولحسن حظه أن هذا الأمر لم يدم كثيرا، إذ ما لبث أن اعتلى عرش البلاد أكبر أولاد السلطان وهو مسعود الغزنوي وكان ذا رغبة مشتعلة، وبصيرة نافذة لتقبل العلوم ودراسة أسرارها. فأعطى البيروني المكانة اللائقة وقدم له ما يحتاجه من معونة أثناء بقائه في الهند. وعندما رجع البيروني من الهند ليستقر في قصر الأمير مسعود، أهدى له كتابه الشهير القانون المسعودي في الهيئة والنجوم.
ولما حمل البيروني هذه الهدية إلى السلطان مسعود، أراد السلطان أن يكافئه على هذه الهدية الثمينة، فأرسل له ثلاثة جمال محملة من نقود الفضة ، فردها أبو الريحان البيروني قائلا: إنه إنما يخدم العلم للعلم لا للمال. كما ألف البيروني كتابا آخر وهو الدستور وأهداه إلى شقي ق الأمير مودود بن محمود الغزنوي. ولقد بقي البيروني في غزنة، ولم يغادرها منقطعا إلى الدرس والبحث والعلم والتأليف حيث كتب معظم مؤلفاته الشهيرة.
ولقد كان البيروني مجتهدا في البحث لدرجة أن أحد أصدقائه كان يزوره وهو مريض جدا ، فسأله البيروني عن موضوع سبق أن ناقشه فيه. فقال له صديقه: أفي هذه الحالة؟ فرد البيروني: يا هذا أودع الدنيا وأنا عالم بهذه المسألة، ألا يكون خيرا من أن أتركها وأنا جاهل بها. فدار النقاش بينهما حتى اقتنع البيروني ثم خرج صديقه، وفي الطريق سمع عن وفاة البيروني. فكانت وفاته عام 440هـ / 1048 م عن عمر يناهز الثمانين.
وتعود شهرة البيروني الحقيقية إلى مؤلفاته الغزيرة التي تظهر علمه الوافر ونبوغه الفكري بالإضافة إلى انتمائه الديني الواضح في كل كتابته التي يزينها دائما بآيات القرآن الكريم. ويظهر انتماؤه إلى الإسلام ولغة القرآن بقوله في مقدمة كتابه الصيدنة في الطب : "ديننا والدولة عربيان توءمان، يرفرف على أحدهما القوة الإلهية وعلى الآخر اليد السماوية؛ وكم احتشد طوائف من التوابع، وخاصة منهم الحيل والديلم في إلباس الدولة جلابيب العجمة فلم تنفق لهم في المراد سوق. ومادام الأذان يقرع آذانهم كل يوم خمسا؛ وتقام الصلوات بالقرآن العربي المبين خلف الأئمة صفا صفا؛ ويخطب به لهم في الجوامع بالإصلاح كانوا لليدين والفم، وحبل الإسلام غير منفصم ، وحصنه غير منثلم ".
كتب البيروني في شتى المعارف فألف في حقل الرياضيات والفلك والطب والصيدلة، والآداب والجغرافيا والتاريخ. ولكن أكثر اهتمامه قد تركز على الفلك والرياضيات والطبيعيات. ففي علم الفلك برهن البيروني على حقائق علمية هامة منها مساحة الأرض ونسبتها للقمر ، وعن أن الشمس هي مركز الكون الأرضي، وعن بعد الشمس عن القمر، وعن مساحة الأرض ونسبتها للقمر، وبعدها عن جرم الشمس وأبعاد المجموعة الشمسية عن الأرض، وبعد الكوكب عن الآخر في المجموعة وهو أول من قال إن الشمس هي مركز الكون الأرضي مخالفا كل ما كان سائدا في وقته من آراء تتفق كلها على أن الأرض هي مركز الكون. كما أثبت أن أوج الشمس غير ثابت. وقد استطاع ب ناء على أربعة أرصاد في المواسم الأربعة أن يحسب مقدار هذه الحركة بواسطة الحساب التفاضلي، وقد كان المقدار النهائي الذي أثبته الفلكيون المسلمون لهذه الحركة هو (12.09) ثانية في السنة، وهو تحديد يختلف قليلا عن المقدار المثبت في العصر الحاضر وهو (11.46) ثانية في السنة. كما رصد الكسوف والخسوف وشرح بطريقة واضحة، الشفق والغسق. وحسب محيط الأرض بدقة فائقة ، وحدد القبلة التي يتجه إليها المسلمون عند أداء صلاتهم ، مستعملا نظرياته الرياضية. ومن المسائل المعروفة باسم البيروني مسائل عديدة ، منها التي لا تحل بالمسطرة والفرجار ، مثل: محاولة قسمة الزاوية إلى ثلاثة أقسام متساوية ، وحساب قطر الأرض، وأن سرعة الضوء تفوق سرعة الصوت .
وقد أولى البيروني عناية كبيرة لعلم الجبر فدرس مؤلفات محمد بن موسى الخوارزمي وفهمها فهما تاما ، وأضاف إليها الكثير من التعليقات ، كما درس المعادلة الجبرية ذات الدرجة الثالثة وطورها بحلوله الهندسية والتحليلية. وحل المعادلة المشهورة في القرون الوسطى (س3 = 1 3س)، وحصل على نتيجة مرضية لجذورها مقربة للغاية إلى ستة منازل عشرية. واشتهر ببرهان القانون المعروف بجيب الزاوية مستخدما المثلث المستوى.
وفي حقل الكيمياء اتفق البيروني مع الكندي في رفض ادعاء القائلين بإمكانية تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب ، وأنكر سعيهم وراء الإكسير. وقد انصبت اهتماماته على دراسة عدة صناعات كانت قائمة في زمنه، كطلاء الأواني الفخارية، وتحضير الفولاذ المعد لصنع السيوف ، واستخلاص الزئبق من الزنجفر. وعرف بعض الطرائق الكيمياوية الهامة كالتصعيد، والتسامي، والتقطير، والتشميع، والترشيح إضافة إلى تحضير عدد من المركبات الكيمياوية.
ويعرف أبو الريحان البيروني أيضا بالصيدلاني المحترف بجمع الأدوية واختيار الأجود من أنواعها مفردة ومركبة على أفضل التراكيب التي خلدها له مبرزو أهل الطب ، وهذه أولى مراتب صناعة الطب ، إذا كان الترقي فيها من أسفل إلى أعلى.
ترك البيروني ما يقارب ثلاثمائة مؤلف من بين كتاب ورسالة بشتى اللغات. منها حوالي (183) مؤلفا باللغات العربية من أشهرها بخلاف ما ذكر كتاب ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة ، وكتاب الجماهر في معرفة الجواهر ، وكتاب التفهيم لأوائل صناعة التنجيم ، وكتاب تحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن ، ورسالة استيعاب الوجوه الممكنة في صنعة الأسطرلاب . وكتاب رؤية الأهلة ، ومقالة في تحديد مكان البلد باستخدام خطوط الطول والعرض ، وكتاب المسائل الهندسية ، ورسالة في معرفة سمت القبلة ، ورسالة في الميكانيكا والأيدروستاتيكا .
--------------------------------------------------------------------
قطب الدين الشيرازي (634-710هـ / 1236 -1310م)
قطب الدين محمد بن ضياء الدين مسعود بن مصلح الفارسي الشيرازي، قاض، ومفسر، وعالم بالطبيعيات اشتهر في القرن السابع الهجري / الثالث عشر الميلادي. ولد في مدينة شيراز ببلاد فارس عام 634هـ لأسرة مشهورة بالطب والتصوف فقد كان أبوه ضياء الدين أستاذا صوفيا وطبيبا مشهورا.
تلقى قطب الدين في شيراز تعليمه الأساسي، كما تلقى بعض الممارسات الخاصة بالطب والتصوف تحت إشراف والده. وبالإضافة إلى هذا فقد تعلم قطب الدين في طفولته عددا كبيرا من الصناعات ماعدا صناعة الشعر. ولقد بدأ قطب الدين تعلمه للطب مبكرا، إذ لم يتجاوز عمره آنذاك العشر سنوات.
وببلوغه الرابعة عشرة من عمره وفي حضرة وفاة والده أسند لقطب الدين وظيفة والده كطبيب ممارس في مستشفى مظفر بشيراز. وبقي في هذا المنصب قرابة عشر سنوات. وأثناء هذه المدة التي قضاها في مستشفى مظفر درس لقطب الدين ثلاثة أساتذة كلهم كانوا من أعمامه. ثم انتقل إلى أستاذه كمال الدين أبي الخير الكيزروني ومعه درس كليات ابن سينا . ومع أستاذه شمس الدين محمد بن أحمد الكبشي درس قطب الدين العلوم الدينية.
سافر قطب الدين إلى بغداد عام 665هـ / 1268 م، حيث اشترك في الحلقة العلمية لشرف الدين زكي البشكاني، ومن خلال اشتراكه في دروس شرف الدين استطاع قطب الدين أن يطلع على شروح ابن سينا في الطب وكذلك أعمال الرازي . وقد وجد قطب الدين من خلال اطلاعه على هذه الأعمال لذة في دراسة فلسفة وطب ابن سينا، ولكن لم يكن في ذاك الوقت من هو أهلا لأن يشبع رغبة قطب الدين في معرفة المزيد في هذه العلوم. ولهذا السبب ترك قطب الدين وظيفته في مستشفى المظفر متجها إلى مراغة عام 660هـ.
تتلمذ قطب الدين في مراغة على يد أستاذه نصير الدين الطوسي ولقد كان اختيار قطب الدين للأستاذ والمكان اختيارا موفقا، فقد كان نصير الدين الطوسي أحد أساتذة الفلسفة والفلك في وقته، كما أنه كان مديرا لمرصد مراغة الذي كان قد اكتمل بناؤه وبدئ العمل فيه وقت أن وصل قطب الدين لمراغة. ولم يكن مرصد مراغة هذا مرصدا فلكيا فقط وإنما كان مكتبة ضخمة تحوي أكث ر من أربعمائة ألف كتاب، بعضها كان مؤلفات لأشهر علماء اليونان.
مكث قطب الدين في مرصد مراغة عدة سنوات حضر خلالها الحلقات العلمية التي كان يعقدها نصير الدين الطوسي، حتى أخبره أستاذه نصير الدين أن يتفرغ لدراسة الرياضيات والفلك. أخذ قطب الدين بنصيحة أستاذه، حتى كان لهما عملا مشتركا في مجال الفلك عرف باسمها لاحقا كأحد أفضل أعمال القرن الثامن الهجري / الرابع عشر الميلادي، ألا وهو تصور كامل لحركة الكواكب.
أكمل قطب الدين دراسته لفلسفة ابن سينا على يد أستاذه نصير الدين، وقرأ أحد أهم كتب ابن سينا المعروف باسم الإشارات والتنبيهات . كما أكمل أيضا دراسة كتاب القانون لابن سينا، واستطاع بمساعدة أستاذه ومن خلال تواجده في مكتبة مراغة أن يجد إجابات للمعضلات التي واجهها أثناء قراءته لهذا الكتاب في شيراز.
ولما كانت رغبته في معرفة المزيد تفوق ما كانت مكتبة مراغة تمنحه إياه، فقد آثر قطب الدين الرحيل إلى خراسان. وهناك درس مع نجم الدين القزويني الذي كان فيلسوفا وفلكيا ورياضيا مشهورا في وقته. وبعدها توجه قطب الدين إلى قزوين ثم أصفهان . وهناك ارتبط قطب الدين بالعمل مع حاكمها، بهاء الدين محمد الجويني. ثم غادر قطب الدين أصفهان إلى بغداد، وهناك قابل عددا من أساتذة التصوف كان من بينهم محمد بن السكران البغدادي.
غادر قطب الدين بغداد متجها إلى الأناضول وقابل بها جلال الدين الرومي، أحد أشهر شعراء التصوف في الإسلام. ولكن قطب الدين لم يمكث طويلا في الأناضول، إذ غادرها متوجها إلى قنا، وبها تتلمذ على أستاذه صدر الدين القناوي، فدرس معه الطريقة الصوفية والتفسير وعلوم الحديث. وفي قنا استطاع قطب الدين أن يقابل عددا كبيرا من العلماء الذين اتخذوا من قنا ملجأ بعد أن غزا التتار الجزء الشرقي للعالم الإسلامي.
وبوفاة صدر الدين القناوي، غادر قطب الدين قنا متجها إلى سيواس وملطايا في قطاع الأناضول وكانت وقتها تحت حكم المغول، حيث تقلد منصب القضاء فيها بتعيين من معين الدين بروانة، الحاكم السلجوقي لقطاع الأناضول، وكان قطب الدين قد تعرف عليه سابقا أثناء تواجده في قنا. ولما كان معظم عمل قطب الدين ينجز من قبل مساعديه، فقد تفرغ قطب الدين للتدريس والكتابة.
قام قطب الدين بعدة زيارات لتبريز، عاصمة الإخنديين في فارس. من خلال زياراته المتكررة لتبريز، أصبح قطب الدين صديقا قريبا لأحمد تكدر وهو ابن لهولاكو ملك التتار. وكان لهذه الصداقة أثر كبير في اعتناق أحمد تكدر الإسلام. وبسبب صلة قطب الدين بالإخنديين فقد قدر له أن يعمل بالسياسة.
وفي عام 681هـ أرسل أحمد تكدر، قطب الدين برفقة كمال الدين الرافعي وبهاء الدين بهلوان كسفراء عنه إلى المستنصر سيف الدين قلاوون، سلطان المماليك في مصر، وذلك حتى يشهروا إسلام أحمد له، وكذلك للتوصل إلى السلام بين المماليك والتتار. وعلى الرغم أن قطب الدين لم يفلح في مهمته السياسية، إلا أن رحلته إلى مصر كانت موفقة جدا من الناحية العلمية. فأثناء زيارته إلى مصر، عرج قطب الدين على مكتبات مصر وهناك وجد شروح لقانون ابن سينا، منها شرح ابن النفيس . ولقد كان عثور قطب الدين على هذه الشروح إشباعا لرغبته الملحة في التوصل إلى إجابات عن استفساراته في قانون ابن سينا والتي طالما طاف الديار بحثا عنها.
ترك قطب الدين مصر متجها إلى سوريا وبها مكث طويلا حيث قام بتدريس كتاب الشفاء لابن سينا. ومن سوريا رجع قطب الدين إلى الأناضول وبه بدأ كتابة شرح على القانون وأسماه شرح كليات القانون . وفي عام 690هـ / 1291 م استقر قطب الدين في تبريز والتي كانت وقتها تحت حكم جازان خان خليفة أحمد تكدر، كما كانت مركزا ثقافيا هاما للعالم الإسلامي. وبها مكث قطب الدين بقية عمره واهبا نفسه للكتابة حتى وافته المنية عام 710هـ / 1311 م.
اشتهر الشيرازي بإنجازاته المتنوعة ففي الفلك أكمل الكثير من التجارب الفلكية التي لم يكملها أستاذه نصير الدين الطوسي. فقد طور أنموذجا فلكيا لعطارد الذي بدأ به الطوسي، وفي الطبيعيات اكتشف مسببات قوس قزح ، وعلق على كروية الأرض تعليقا علميا، وشرح النقاط الغامضة في مؤلفات أستاذه. كما علق وشرح كتاب القانون لابن سينا.
ترك قطب الدين الشيرازي عددا كبيرا من المؤلفات معظمها في الفلك والطبيعيات والطب. من أهمها: كتاب شرح التذكرة النصيرية في الهيئة ، وكتاب التحفة الشاهية في الهيئة ، وكتاب نهاية الإدراك في دراية الأفلاك ، وكتاب التبصرة في الهيئة ، ورسالة في حركة الدحرجة والنسبة بين المستوي والمنحني ، وكتاب تحرير الزيج الجديد الرضواني ، وكتاب بعض مشكلات المجسطي . وكتاب درة التاج لغرة الديباج وهو في الطبيعيات ومن أهم كتبه. وفي الطب كتاب نزهة الحكماء وروضة الأطباء وهو شرح وتعليق على قانون ابن سينا ، ورسالة في بيان الحاجة إلى الطب وآداب الأطباء ووصاياهم ، ورسالة البرص .
---------------------------------------------------------------
ابن سينا (370-428هـ / 980 -1037م)
أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا، فيلسوف وطبيب وعالم طبيعي اشتهر في القرنين الرابع والخامس الهجريين / الحادي عشر الميلادي. ولد في أفشنة وهي قرية مجاورة لبخارى (التي تقع الآن في جمهورية أزبكستان السوفيتية).
نشأ ابن سينا وترعرع في ظل أسرة مستقيمة متكاملة، فقد كان والده من بلخ، ثم انتقل إلى بخارى في أيام حكم الأمير نوح بن منصور حيث قام على ضيعة من ضياع بخارى اسمها خرميثن، ولكنه سكن بأفشنة وأقام بها، حيث كانت قريبة من مقر عمله، ومن هذه القرية اختار زوجته سارة التي أنجبت له ولدين أكبرهما هو ابن سينا ثم انتقلت الأسرة بعد ذلك إلى بخارى.
ولما كان أبوه من الحكام فقد استطاع أن يوفر له ولأخيه تعليما مثاليا بالنسبة لثقافـة ذلك العصر. فأحضر لهما والدهما معلما للقرآن ومعلما للأدب. وفي سن العاشرة كان ابن سينا قد أتم حفظ القرآن ودرس كثيرا من كتب الأدب، ثم أرسله أبوه إلى رجل يعلمه الحساب، وكان هذا الرجل بقالا، إلا أنه كان عليما بالحساب. ثم درس ابن سينا الفقه وطرق البحث والمناظرة، وقرأ التصوف فكان من أفضل السالكين فيه.
ثم قدم إلى بخارى رجل اسمه أبو عبد الله الناتلي وكان يدعى المتفلسف، فنزل ضيفا في دار ابن سينا فعلمه شيئا من الفلسفة أثناء إقامته عندهم. فبدأ الناتلي بكتاب في المنطق. ولكن ابن سينا كان يتصور المسائل المنطقية خيرا منه، وكثيرا ما بُهر أستاذه بمعرفته بدقائق المنطق وتفصيلاته. وتولى ابن سينا بعد ذلك قراءة كتب المنطق وشروحها بنفسه حتى أتقن هذا العلم ووقف على دقائقه. ثم شرع بعد ذلك في دراسة كتاب في أصول الهندسة وقرأه على أستاذه أيضا، لكنه لم يقرأ عليه سوى خمسة أو ستة أشكال من أول الكتاب، ثم تولى بعد ذلك تعلم بقية الكتاب بنفسه. ولما غادر أستاذه إلى بخارى، أخذ ابن سينا في دراسة العلم الطبيعي، وانفتحت عليه أبواب العلم فعرج على الطب فدرسه ونبغ فيه في مدة قصيرة، إذ لم يجده ابن سينا من العلوم الصعبة فأتقنه حتى أصبح متميزا فيه، ولجأ إليه كبراء الطب يقرءون عليه أنواعه والمعالجات المقتبسة من التجربة، كما تولى علاج المرضى، ولم يكن يتقاضى أجرا نظير ذلك.
تفرغ ابن س ينا للدرس وانقطع للعلم، فلم ينم ليلة واحدة بطولها ولا اشتغل في النهار بغير العلم، وفي خلال هذه المدة لم ينقطع عن دراسة الفقه وجميع أجزاء الفلسفة. وكانت له طريقته الخاصة في فهم القضايا والحجج، فقد كان يرتب المسألة التي يريد فهمها على شكل قياس منطقي، ويجتهد في إيجاد الحد الأوسط واستكشافه، لأنه كان يعتقد أنه لا يمكنه فهم المسألة إلا إذا عرف الحد الأوسط. وكان يجهد نفسه في ذلك، فأحيانا يقع على الحد الأوسط بعد طول عناء، وأحيانا أخرى ييأس من ذلك فيقوم إلى الجامع فيتوضأ ويصلي ويتجه إلى الله بالدعاء رجاء أن يوفقه ويفتح عليه مغاليق المسألة، ثم يأوي إلى فراشه فيفتح الله عليه في المنام ما انغلق عليه فيستيقظ في الصباح ويتصدق على الفقراء حمدا لله على ما أنعم عليه من نعم.
ولقد أنهى ابن سينا تحصيل جميع العلوم المعروفة في عصره وهو في سن السادسة عشرة. وحدث بعد ذلك أن الأمير نوح بن منصور مرض، وحار الأطباء في علاجه، فجرى اسم ابن سينا في حضرة الأمير، فأمر بإحضاره ليشارك الأطباء المشورة والعلاج. فحضر وقام على علاج الأمير حتى شفي. فقربه الأمير، ثم استأذنه ابن سينا بعد ذلك في أن يدخل مكتبة القصر، فأذن له الأمير. وكانت مكتبة ضخمة لم يكن يدخلها أحد إلا بإذن الأمير. فقرأ ابن سينا كل ما في المكتبة وظفر بفوائدها وعرف مرتبة كل رجل في علمه حتى احترقت هذه المكتبة في اضطرابات حدثت بالدولة السامانية، ولم يبق منها إلا ما حواه ابن سينا بعقله وقلبه.
ولقد فرغ ابن سينا من تحصيل جميع العلوم من لغة وفقه وحساب وهندسة ومنطق وفلسفة وطب وهو في سن الثامنة عشر، ووقف على تفصيلاتها ودقائقها وأغراضها، إلا علما واحد استعصى عليه ولم يفهمه وهو علم ما بعد الطبيعة (الإلهيات). فقد قرأ كتاب أرسطو في هذا العلم ولم يفهم منه شيئا، وأعاد قراءته أربعين مرة حتى حفظه عن ظهر قلب دون أن يفهمه. وفي يوم من الأيام ذهب إلى السوق فعرض عليه دلال كتابا صغيرا في أغراض ما بعد الطبيعة، فرده ابن سينا ردا متبرما متحججا بأنه علم لا فائدة منه. فأخبره الدلال بأن الكتاب سعره ثلاثة دنانير فقط وصاحبه في حاجة إلى ثمنه، فاشتراه منه، فإذا هو كتاب الفارابي في أغراض ما بعد الطبيعة. فأسرع ابن سينا إلى البيت وقرأه فانفتح ما استغلق عليه في الحال لأنه كان يحفظ كت اب أرسطو، ففرح لهذا وتصدق كثيرا على الفقراء. لكن العلم لم ينضج في ذهنه إلا بعد أن بلغ مدارك الرجال، واكتسب الخبرات من السفر والترحال.
بدأ ابن سينا أسفاره بعد أن اضطربت أمور الدولة السامانية، وبعد أن مات والده وكان عمره اثنتين وعشرين سنة آنذاك، فخرج من بخارى إلى كركانج، وكان يلبس زي الفقهاء، فأكرمه أمير خوارزم وقرر له راتبا شهريا يقوم به. وانتقل بعد ذلك إلى جرجان وخراسان وقصد الأمير قابوس فأكرم وفادته. ولما أسر الأمير قابوس وسجن غادر إلى دهستان ومرض بها مرضا صعبا، فغادر إلى جرجان، حيث التقى بأبي عبد الله الجوزجاني.
وفي جرجان تنقل ابن سينا من قصر أمير إلى آخر حتى تقلد الوزارة مرتين لشمس الدولة في همدان. وقد عانى كثيرا من الدسائس والفتن التي كانت مستعرة بين أمراء ذلك العصر حتى أنه تعرض للتشريد والنهب والسجن والطرد من الوظائف السياسية. ولكنه رغم هذه الحياة السياسية المتقلبة لم ينقطع عن الكتابة والدرس والتأليف. فكان يبدأ الدرس مع تلاميذه في أول الليل، يملي عليهم الكتب دون أن يحضره الكتاب، وفي الصباح يذهب إلى الوزارة يدير شئونها.
ولقد تميزت إسهامات ابن سينا في جوانب كثيرة من المعرفة أودعها مؤلفاته العديدة التي وصلت ما يقارب مائتين وخمسين مؤلفا، بين كتاب ورسالة ومقالة، صنفها في شتى أنواع العلوم والمعارف منها الرياضيات والمنطق، والأخلاق، والطبيعيات، والطب، والفلسفة. إلا أن أبرز إنجازاته تظهر في مجال الطب فصنف فيه كتابه القانون ، الذي وضع فيه ملاحظات دقيقة مثل ربطه بين السل وأمراض الرئة الأخرى، والإشارة إلى دور الماء والأتربة في نقل العدوى المرضية إضافة إلى الربط بين العوامل النفسية والعاطفية والمرض وأسباب الشذوذ. ولقد نال هذا الكتاب شهرة كبيرة في الأوساط الطبية، فقد شرحه من قبل عدد كبير من الأطباء الذين جاءوا من بعده. كما ترجم إلى لغات أوروبية عديدة، حيث ظل يدرس في جامعات أوروبا طوال أربعة قرون متصلة. علاوة على ذلك فيعد ابن سينا واحدا من أشهر الشعراء الذين وضعوا أرجوزات في العلوم. وتعد أرجوزته في الطب من أشهر هذه الأرجوزات.
أما عن إسهاماته في الطبيعيات، فتظهر في كتبه الشفاء ، والنجاة ، والإشارات . ولقد تميزت فلسفة ابن سينا بأنها تؤلف بين الفلسفة اليونانية والفلسفة الإسلامية. وقد كان ابن سينا من الرافضين لفكرة تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب . كما درس الظواهر الطبيعية كقوس قزح وتشكل الصورة بورود الضوء إلى العين. وناقش فكرة الما لا نهاية، وقال إن سرعة الضوء لا نهائية، ودرس علاقة الزمن بالحركة، وأجرى تجاربه وقياساته لحساب الكثافة النوعية للعديد من المواد، وابتكر ميزانا للحرارة يقوم على تمدد الغاز المحصور.
و مما يؤسف له أن ابن سينا رغم عقليته الفذة في الطب وسائر العلوم لم يكن من المهتمين بصحتهم. ففي آخر حياته كثرت عليه الأمراض، وحاول بعض خدمه التخلص منه لنهب أمواله، وشعر هو بضعف صحته، وعرف أن قوته قد سقطت فامتنع عن مداواة نفسه حتى أدركته المنية عام 428هـ / 1037 م بهمدان.
--------------------------------------------------------------------------
ابن ملكا البغدادي (480-560هـ / 1087 -1165م)
أبو البركات هبة الله بن علي بن ملكا البغدادي، طبيب وفيلسوف اشتهر في القرن السادس الهجري / الثاني عشر الميلادي. لقب بأوحد الزمان، وعرفه عامة الناس باسم البلدي. ولد ونشأ بالبصرة ، ثم سافر إلى بغداد وعمل في قصور الخليفتين العباسيين المقتدي ، والمستنصر، وحظي بمكانة عظيمة، حتى لقب بفيلسوف العراقيين في عصره.
ولد ابن ملكا البغدادي في أسرة من أصل يهودي، وترعرع بين آل ملته، ولكنه قبل وفاته اعتنق الإسلام وتفقه فيه حتى صار حجة وصار في مقدمة علماء المسلمين في العلوم التطبيقية. وكان سبب إسلامه أنه دخل يوما إلى الخليفة المستنجد بالله، فقام جميع من حضر إلا قاضي القضاة كان حاضرا ولم يقم مع الجماعة لكون ابن ملكا ذميا. فقال: يا أمير المؤمنين، إن كان القاضي لم يوافق الجماعة لكونه يرى أني على غير ملته، فأنا أسلم بين يدي مولانا، ولا أتركه ينتقصني بهذا، وأسلم.
وقد كان لابن ملكا البغدادي اهتمام كبير بالطب في صغره، حتى إنه صار يجلس عند باب كبير الأطباء في زمانه وهو الحسن سعيد بن هبة الله بن الحسين يستمع لشرحه لطلابه كي يتعلم مهنة الطب. وكان الحسن من المشايخ المتميزين في صناعة الطب، وكان له تلاميذ عدة يأتون إليه كل يوم للقراءة عليه، وكان يرفض أن يحضر مجلسه يهوديا أصلا. وكان ابن ملكا يريد أن يجتمع به، وأن يتعلم منه، وحاول ذلك بكل الطرق، فلم يقدر على ذلك. فكان يتخادم للبواب الذي له، ويجلس في دهليز الشيخ بحيث يسمع جميع ما يقرأ عليه، وما يجري معه من البحث، وهو كلما سمع شيئا تفهمه وعلقه عنده. وذات مرة كان الشيخ الكبير يناقش مسألة مع طلبته محاولا الحصول على الإجابة، فصعب ذلك على الشيخ وعلى تلاميذه. وبقوا مدة يتداولون هذه المسألة واحدا بعد الآخر حتى ألهم الله سبحانه ابن ملكا حل هذا المشكلة. فلما كان بعد مدة سنة أو نحوها. جرت مسألة عند الشيخ، وبحثوا فيها فلم يعثروا لها عن جواب وبقوا متطلعين إلى حلها. فلما تحقق منها أبو البركات، دخل وخدم الشيخ، وقال: يا سيدنا، عن أمر مولانا أتكلم في هذه المسألة؟ فقال: قل إن كان عندك فيها شيء فأجاب عنها بشيء من كلام جالينوس، وقال:- يا سيدنا، هذا جرى في اليوم الفلاني من الشهر الفلاني، في ميعاد فلان، وعل ق بخاطري من ذلك اليوم. فبقي الشيخ مستعجبا من ذكائه وحرصه، وطلب منه أن يخبره عن الوضع الذي كان يجلس فيه ويستمع إلى هذه الدروس، فأعلمه به. فقال: من يكون بهذه المثابة ما نستحل أن نمنعه من العلم، وقربه من ذلك الوقت، وصار من أجل تلاميذه.
ولقد اشتهر ابن ملكا البغدادي بجرأته في مداواة المرضى، فكان رحمه الله لا يتردد في أخذ القرارات في إجراء العمليات الجراحية الخطيرة، كما كان ينصح طلابه بأن الطبيب الناجح إذا اقتنع بأن ليس لديه حل بديل عن إجراء العملية الجراحية، فإنه لا يجب أن يعطي المريض الانطباع في أنه ليس مقتنعا، حتى لا يجعل المريض متخوفا، وربما يقوده تخوفه إلى صعوبة شفائه. كما كان ابن ملكا من علماء العرب والمسلمين الذين اعتنوا بالأمراض النفسية التي تصيب الناس، وحاول جاهدا أن يعالجها بأسلوب الإيحاء الذي أدهش لها علماء الطب في القرن العشرين.
ولقد عرف ابن ملكا بأنه موفق في المعالجة لطيف في المباشرة، خبير بعلوم الأوائل، حلو العبارة، لطيف الإشارة، وقف على كتب المتقدمين والمتأخرين في هذا الشأن، فكانت نصائحه يتناقلها العلماء بعده واحدا بعد الآخر.
فمن أقواله:- الخطيب هو الذي تصدر عنه الخطابة، ومن شرطه أن يكون متنسكا مستعففا فصيحا بليغا، يقدر على استمالة السامعين واستدراجهم، ويعرف أخلاق الناس، ويكلمهم على قدر عقولهم. الخير الحقيقي أربعة: العفة والشجاعة والحكمة والعدالة. عادة الدنيا لطف الحواس
وقد لاقى ابن ملكا في حياته صعوبات كثيرة، فحين أسلم، عاداه أبناء جلدته من اليهود وصار معزولا من عائلته وبناته الثلاث اللاتي رفضن أن يسلمن وبقين على دين اليهودية . ورغم يقينه أن بناته سوف يحرمن من إرثه، إلا أنه أصر على إسلامه. وكذلك اتهمه السلطان محمد بن ملكشاه ذات مرة بأنه أساء علاجه فحبسه مدة. كما أصيب في صحته، ففقد بصره في آخر عمره، وأصيب بأمراض كثيرة ولكنه صبر على ذلك، فقضى معظم أوقاته في القراءة والبحث في مخطوطات الأقدمين، في مختلف العلوم. وظل على ذلك حتى وافته المنية بهمذان عن عمر يناهز الثمانين عاما.
ترك ابن ملكا العديد من المؤلفات في الطبيعيات والطب. فمن الطبيعيات له كتاب المعتبر في الحكمة وهو موسوعة كاملة في الطبيعيات وأهم أعماله فيه صياغة أولية لقوانين الحركة، ولا سيما القانون المتعلق بالفعل ورد الفعل والذي اشتهر فيما بعد بقانون نيوتن الثالث للحركة. كما له مقال في سبب ظهور الكواكب ليلا واختفائها نهارا . أما مقالاته في الطب فله مقال اختصار التشريح في كلام جالينوس، وكتاب الأقراباذين (من ثلاث مقالات)، ومقال في الدواء ، ومقال اختصار التشريح .
----------------------------------------------------------------------------
العباس بن فرناس (194-273هـ / 810 -887م)
أبو القاسم عباس بن فرناس بن ورداس التاكرتي، طبيب فيزيائي وأديب وفنان اشتهر في القرن الثالث الهجري / التاسع الميلادي. ولد في برارة ، ثم انتقل إلى قرطبة ودرس فيها شتى العلوم حتى لقب "بحكيم الأندلس"
نشأ ابن فرناس وترعرع في قرطبة، التي كانت آنذاك منارة للعلم والفن والأدب في بلاد المغرب والأندلس، فتعلم- كعادة أبناء وطنه عند بداية طلب العلم- القرآن الكريم ومبادئ الدين الحنيف في كتاتيبها، التي كانت منتشرة في ذلك الوقت، ثم بدأ يرتاد حلقات العلم التي كانت تعقد في مسجد قرطبة فكان ينصت إلى ما يجري فيها من أبحاث ومناظرات ومجادلات علمية، ويستمع إلى ما يلقيه العلماء الأندلسيون من العلم الذي أخذوه عن علماء المشرق الإسلامي. ثم قصد المجالس الأدبية ليستمع إلى شيوخها استماعا متبصرا فأفاد من شعراء الأندلس وأدبائها.
وكان بالإضافة إلى حرصه على تلقي العلم متوقد الذكاء شديد الحفظ دقيق النظر، فكان كثير التردد إلى أصحاب الفنون الرفيعة ينعم السمع إلى الأصوات التي يضعونها، ويراقب الآلات الموسيقية التي يوقعون عليها ألحانهم، وكثيرا ما كان يتردد على أماكن أهل الصناعات الدقيقة فيدقق النظر في أعمالهم وصناعاتهم وفنونهم العجيبة. فكان له السبق بين علماء زمانه بما انفرد به من معارف وعلوم.
ثم عرّج ابن فرناس على دراسة مصنفات الطب، فدرس خصائص الأمراض وأعراضها وتشخيصها، وطالع طرق الوقاية منها وكيفية علاج المصابين بها ومراحل هذا العلاج. كما درس خصائص الأحجار والأعشاب والنباتات ووقف على خواصها المفيدة في العلاج. وكان في سبيل ذلك يقصد الأطباء والصيادلة ويناقشهم فيما ظهر له من من الملاحظات أثناء إطلاعه على هذه الصنعة الجليلة التي تحفظ البدن وتقي من الآفات والأمراض.
وقد اكتسب ابن فرناس ثقة ملوك ورجال دولته لسعة علمه وكثرة اطلاعه وشهرته بين أطباء وعلماء عصره، لذلك اتخذه الأمراء الأمويون في الأندلس طبيبا خاصا لهم ولأبناء الأسر الحاكمة ومشرفا على صحتهم وطعامهم.
ولم يكتف ابن فرناس بدراسة الطب والنبوغ فيه بل درس أيضا الفلسفة والمنطق والنجوم والعلوم الروحانية، فجمع المصنفات التي تبحث في هذه العلوم، فقرأها قراءة دقيقة فاحصة، ثم اشتغل بدراسة علم النحو وقواعد الإعراب وآراء علماء النحو في التعليل، فبلغ في ذلك مبلغا عظيما حتى صار من أعلم الناس بالنحو في عصره في ربوع الأندلس، فصنفه العلماء في الطبقة الثالثة من نحاة الأندلس. كما كان ذا باع في اللغة والأدب وعلم العروض، وفوق ذلك كله كان شاعرا ذا موهبة شعرية فريدة، فخلف شعرا كثيرا في أغراض مختلفة، وقد أهّله ذلك أن يكون شاعر البلاط الأموي في الأندلس كما كان طبيبهم.
يروى أنه لما دخل كتاب العروض (العلم الذي ابتكره الخليل ابن أحمد وضبط به بحور وأوزان الشعر العربي) إلى الأندلس ووصل إلى الأمير عبد الرحمن بن الحكم، عرضه على علماء قرطبة وأدبائها ليوضحوه له، فعجزوا عن ذلك، وصار الكتاب مما يتلهى به في قصر الأمير، حتى إن بعض جواري القصر كن يقلن لبعضهن: صير الله عقلك كعقل الذي ملأ كتابه من: مما ومما، فبلغ الخبر ابن فرناس، فتقدم إلى الأمير وطلب منه إخراج الكتاب إليه، ففعل. ولما قرأه ابن فرناس وتدبره علم أنه في علم العروض، ، ففك ابن فرناس غوامضه وشرحه لقومه فسهل عليهم دراسة هذا الفن الجميل والاستفادة منه.
وهكذا كان ابن فرناس ضليعا في علوم وصناعات وآداب متعددة. لقد كرس جهده لتحقيق المسائل العلمية التي درسها وصنع آلات وأدوات تساعده على رصد النجوم والكواكب ومراقبة حركاتها حتى أنه جعل داره كهيئة السماء وصور فيها الشمس و القمر والكواكب ومداراتها فكان ذلك من عجائب صنعته وبديع ابتكاراته. كما قام بتجارب وتحاليل كيميائية مختلفة استطاع من خلالها تطوير صناعات من مواد قليلة الثمن، سهلة، في متناول الناس في ديار الأندلس.
وأخيرا فقد درس ابن فرناس ثقل الأجسام ومقاومة الهواء لها، وتأثير ضغط الهواء فيها إذا حلقت في الفضاء. وتوج دراسته هذه بمحاولة للطيران فكان أول من طار وحلق في الهواء كما تطير الطيور.
يروى أنه بعد أن تأكد من صحة ما لديه من المعلومات حمله ذلك على أن يجرب الطيران الحقيقي بنفسه، فكسا نفسه بالريش الذي اتخذه من سرقي الحرير (شقق الحرير الأبيض) لمتانته وقوته، وصنع له جناحين من الحرير أيضا يحملان جسمه إذا ما حركهما في الفضاء. وبعد أن أتم كل ما يحتاج إليه في محاولته تلك، وتأكد من أنه إذا حرك هذين الجناحين، فإنهما سيحملانه ليطير في الجو، أعلن للملأ أنه يريد أن ي طير في الفضاء، وأن طيرانه سيكون من الرصافة أعلى مدينة قرطبة، فاجتمع الناس هناك لمشاهدة هذا الطائر الآدمي الذي سيحلق في فضاء قرطبة. وصعد ابن فرناس بآلته الحريرية فوق مرتفع وحرك جناحيه وقفز في الجو، وطار في الفضاء مسافة بعيدة عن المكان الذي انطلق منه والناس ينظرون بدهشة وإعجاب. وعندما همَّ بالهبوط إلى الأرض أصيب في ظهره، فقد فاته أن الطائر عندما يهبط إنما يهبط على مؤخرته.
ولم يزل ابن فرناس يقدم إبداعاته واختراعاته حتى وافته المنية عام 273هـ / 887 م، عن عمر يناهز الثمانين عاما.
---------------------------------------------------------------------
الإسفزاري (000-480هـ /000 -1087م)
أبو حاتم المظفر بن إسماعيل الإسفزاري، عالم رياضي وفلكي وفيزيائي ومهندس اشتهر في القرن الخامس الهجري / الحادي عشر الميلادي. ولد في مدينة إسفزار وهي مدينة من نواحي سجستان من جهة هراة، وبها نشأ وترعرع.
درس الإسفزاري في مسقط رأسه العلوم الأساسية كبقية أبناء بلدته، ولكنه أظهر في فترة مبكرة اهتماما شديدا بالأمور الرياضية والهندسية. فلما بلغ من العمر ما يسمح له بالارتحال سافر الإسفزاري إلى بغداد ليستزيد علما.
وفي بغداد تتلمذ الإسفزاري على مؤلفات كبار العلماء فدرس مؤلفات بني موسى ، و الجزري ، ولكنه غلب عليه دراسة الكثافة النوعية ، و مركز الثقل ، حتى كانت معظم أعماله تنصب على الممارسات العملية دون النظرية. ولقد استطاع الإسفزاري بعد فترة من الزمن أن يعمل ميزانا يعرف به الغش والعيار. وقد نال هذا الميزان شهرة عالية حتى بلغ أمره خازن السلطان فكسره وفتت أجزاءه خوفا من ظهور خيانته في الخزانة، فسمع المظفر بهذا فمرض ومات أسفا.
عمل الإسفزاري الرصد للسلطان ملكشاه السلجوقي، واجتمع جماعة من أعيان المنجمين في عمله معه منهم عمر الخيام ، وميمون بن النجيب الواسطي وغيرهم. وكان بينه وبين الخيام مناظرات رياضية عديدة.
ترك الإسفزاري عددا من المؤلفات جلها في الرياضيات والهندسة منها: كتاب اختصار لأصول إقليدس ، وكتاب إرشاد ذوي العرفان إلى صناعة القبان ، وكتاب مقدمة في المساحة ، وكتاب اختصار كتاب الحيل لبني موسى أبناء شاكر.
---------------------------------------------------------------
الفارابي (260-339هـ / 873 -950م)
محمد بن محمد بن أوزلغ بن طرخان (الشريف) وكنيته أبو نصر، وقد عرف في الغرب باسم"الفارابيوس". ولقب في الشرق بالمعلم الثاني بعد أرسطو المعلم الأول. وهو ثاني الفلاسفة العلماء في الحضارة الإسلامية بعد الكندي
كان الفارابي فيلسوفا وباحثا نظريا موسوعيا في العلوم، كان عالما نظريا في علوم الحياة والموسيقى والفيزياء والكيمياء والرياضة والطب والفلك، ولم يكن ممارسا لها. وهو تركي العنصر والبيئة. وكان أبوه جنديا ويقال إنه كان من حرس الخليفة، وقد ولد بمدينة "وسيج" إحدى مدن إقليم فاراب أو "باراب" كما ينطقها الأتراك، وهي ولاية في حوض نهر "سيرداريا" في بلاد ما وراء النهر. وقد دخل الإسلام هذه الولاية في عهد السامانيين بعد غزو "نوح بن أزاد" لمدينة "أسيجاب" سنة 225هـ - 840م، قبل مولد الفارابي بخمسة وثلاثين عاما. وهي منطقة سبخة، لكن بها غياض ومزارع في غربي نهر سيرداريا، على مسافة فرسخين جنوبي مدينة "كدر" عاصمة إقليم فاراب الذي تسكنه قبائل تركية من أجناس الغزّ والخزلج.
وارتحل الفارابي في سن ناضجة من هذه البيئة طلبا لمَواطن الثقافة في عصره، بمدينة حران ثم بمدينة بغداد وكانت مكتبة الإسكندرية قد انتقلت إلى حران بعد أن مكثت مائة وأربعين عاما في أنطاكية، وكان ذلك في خلافة المتوكل (232-247هـ / 874 -861م)، وكانت حران قد أصبحت بهذا الانتقال وريثة للثقافة اليونانية. وفي حران تلقى الفارابي أطرافا من علوم الأوائل على يد يوحنا بن هيلان، وكان عالما متعمقا في المنطق فقرأ عليه الفارابي المنطق.
ثم ارتحل الفارابي مع رؤساء مدرسة حران إلى بغداد ومن بينهم ثابت بن قرة ، في خلافة المعتضد (279-289هـ / 892 -902م)، وانضم إلى حلقة أبي بشر متى بن يونس. وكان واسع الاطلاع على فلسفة أرسطو، ويحتل مركز الصدارة ببغداد في دراسة المنطق، كما كان مترجما غزير الإنتاج، لكنه كان سقيم العبارة، وكان لذلك أثره على عبارة الفارابي.
ومع مهارة الفارابي في العلوم الحكمية وتفوقه على أستاذه بشر بن متى فلم تبرز مكانته في بغداد، ولذلك انتقل إلى بلاط سيف الدولة الحمداني بمدينة حلب عام330هـ - 942م. واستظل برعاية هذا الأمير العربي الممتاز الذي رعى صفوة من أهل العلم والأدب.
وظل الفارابي يتنقل بين حلب و دمشق ويطيل المقام في دمشق، فبها حدائق وبساتين وينابيع، وتحيط بها غوطة دمشق، وكان هذا الجو خير إطار لمزاج الفارابي المفكر المتأمل.
وقد ذكر ابن خلكان أن أبا نصر الفارابي قد أقام بمصر زمنا، قطع به إقامته في بغداد، وأنه أتم في مصر تأليف كتابيه السياسة المدنية و المدينة الفاضلة .
ويذكر أن الفارابي كان زري الملبس، يلبس أحيانا قلنسوة بلقاء ، وأنه كان منكبا على التحصيل، لا يحفل بأمر مكسب أو مسكن، ويعيش بأربعة دراهم في كل يوم أجراها عليه سيف الدولة الحمداني من بيت المال، ولم يقبل الفارابي سواها في كل يوم لقناعته.
وكان الفارابي يؤثر الوحدة، ولا يجالس الناس، وكانت إقامته بدمشق دائما عند مكان يجتمع فيه الماء والخضرة، وعنده كان يؤلف كتبه، ويلجأ إليه المشتغلون بعلمه من تلاميذه. وربما لهذا السبب كانت طريقته في التأليف، فقد كانت أكثر مؤلفاته فصولا وتعاليق مملاة، وقد وجد بعضها متناثرا ومبتورا.
وتسجل طريقة أسفار الفارابي البيان التالي:
ارتحل الفارابي من بغداد في نهاية عام 330هـ -941م ووصل إلى حلب في نهاية العام نفسه. ثم ارتحل إلى دمشق عام 331هـ، وغشي بلاط سيف الدولة من عام 334هـ -945م إلى عام 336هـ -947م. ثم رحل إلى مصر عام 337هـ -948م وهو العام الذي كانت فيه دمشق تتبع سلطان مصر. ثم رحل الفارابي عائدا إلى دمشق عام 338هـ -949م.
وتوفي الفارابي في العام التالي في شهر رجب 339هـ -ديسمبر 950م. وكان ذلك حين أغارت على دمشق عصابة لصوص من مدينة عسقلان على الساحل الجنوبي من فلسطين، وهاجمت هذه العصابة فيمن هاجمتهم أبا نصر الفارابي، ودار بين المهاجمين والمدافعين عن الفارابي قتال قتل فيه أبو نصر الفارابي، ونقل جثمانه إلى دمشق في برد شهر يناير، وصلى سيف الدولة الحمداني على جثمانه مع عدد من خواصه. ودفن الفارابي بظاهر دمشق، خارج سورها عند الباب الصغير، وقد جاوز الثمانين من عمره.
ومن أهم إنجازات الفارابي أنه كان أول من وضع نواة أو منهجا لدائرة معارف إنسانية وعلومها في عصره، وذلك في كتابه إحصاء العلوم وأنه أول مَن تكلم عن نظرية العقد الاجتماعي وسبق بذلك المفكر الفرنسي "جان جاك روسو" (ت 1192هـ -1778م) بعدة قرون، وذلك في معرض حديثه عن الروابط الاج تماعية في المجتمعات الإنسانية، وعندما عدد الروابط الاجتماعية المشتركة فقال: "والتشابه بالخلق والشيم الطبيعية في اللسان واللغة، والاشتراك في المنزل، ثم الاشتراك في المساكن والمدن، ثم الاشتراك في الصقع ، وأعلى هذه الروابط كلها العدالة". كما بحث في المجتمع السياسي ونشوء الدولة ونظامها من وجهة نظر حياتية فلسفية وأخلاقية وأودع ذلك كله في كتابه: المدينة الفاضلة .
وقد سجل مؤرخو الموسيقى أن الفارابي قد طور آلة القانون الموسيقية. وأنه أول مَن قدم وصفا لآلة الرباب الموسيقية ذات الوتر الواحد، والوترين المتساويين في الغلظة، وأنه أول مَن عرف صناعة الموسيقى ومصطلح الموسيقى، وأنه قد وضع بعض المصطلحات الموسيقية وأسماء الأصوات التي لا تزال تستعمل إلى اليوم.
وقد ذكر الفارابي نظرية في الجاذبية الأرضية سبق بها العالم نيوتن بألف عام مما أدهش علماء الغرب وجعلهم يتساءلون عن سر هذا التشابه بين آراء الفارابي ونيوتن.
ويعد الفارابي أول مَن عرف علاقة الرياضيات بالموسيقى. ومن هذه العلاقة كانت بوادر علم اللوغاريتمات وقد أكد ذلك العلماء الغربيون. وربما كان هذا هو السر الذي يكمن في اهتمام الفارابي بالموسيقى ومبادئ النغم والإيقاع ويظهر ذلك في كتابه الموسيقى الكبير .
وقد ألف الفارابي العديد من الكتب والرسائل خلال حياته وأسفاره، فقد ذكر مؤرخو العلوم أنه ألف أكثر من مائة مؤلف. ألف في المنطق خمسا وعشرين رسالة، وكتب أحد عشر شرحا على منطق أرسطو، وسبعة شروح أخرى على سائر مؤلفات أرسطو. ووضع أربعة مداخل لفلسفة أرسطو، وخمسة مداخل للفلسفة عامة، وعشر رسائل دفاعا عن أرسطو وأفلاطون وبطليموس وإقليدس. وخمسة عشر كتابا في ما وراء الطبيعة، وسبعة كتب في الموسيقى وفن الشعر، وستة كتب في الأخلاق والسياسة، وثلاثة كتب في علم النفس.
كما وضع تصنيفا للعلوم في كتابه: إحصاء العلوم وترتيبها والتعريف بأغراضها.
ومعظم كتب الفارابي ورسائله وشروحه مفقودة، وبعضها لا يوجد إلا في ترجمات عبرية، ومن كتبه في علوم الحياة: المدينة الفاضلة . تحصيل السعادة . سياسة المدينة . أصل العلوم . ومن أهم رسائله في علوم الحياة: علم النفس . الحكمة . فصوص الحكمة . أسماء العقل .
ولعل من أهم كتبه: الموسيقى الكبير وله في الموسي قى أيضا كتب منها: المدخل إلى صناعة الموسيقى ، الموسيقى . وله في الفيزياء: المقالات الرفيعة في أصول علم الطبيعة . وله في الطب: فصل في الطب ، علم المزاج والأوزان . المبادئ التي بها قوام الأجسام والأمراض . وله في الرياضيات: المدخل إلى الهندسة الوهمية . الأسرار الطبيعية في دقائق الأشكال الهندسية . وله في الفلك: كتاب: تعليق في النجوم . مقالة: الجهة التي يصح عليها القول في أحكام النجوم . وقد رفض الفارابي صناعة التنجيم، وأظهر فساد علم أحكام النجوم في رسائل ومن أهمها رسالته العلمية: "النكت فيما لا يصح من أحكام النجوم" .
وما تبقى من مؤلفاته المنطقية والفلسفية وشروحه لأرسطو جعل منه مفكرا إسلاميا ملقبا بالمعلم الثاني وكان له أثر كبير في الفكر الأوربي والفكر العربي ومنها: الحروف . الألفاظ المستعملة في المنطق . القياس . التحليل . الأمكنة المغلطة . الجدل . العبارة ، المقولات . الفصول الخمسة لإيساغوجي . البرهان .
--------------------------------------------------------------
أبو الصلت (460-529هـ / 1068 -1135م)
أمية بن عبد العزيز ابن أبي الصلت، عالم رياضي ومهندس اشتهر في القرنين الخامس والسادس الهجريين / الحادي عشر الميلادي. ولد عام في بلدة دانية، وهي قصبة الناحية الشمالية الشرقية من كورة القفت، من شرقي الأندلس.
نشأ أبو الصلت في الأندلس، وتعلم كبقية علماء عصره العلوم الأساسية، فحصل من معرفة الأدب ما لم يدركه غيره، وكان أوحد عصره في العلم الرياضي، متقنا لعلم الموسيقى والضرب على العود، وفي غيرها من العلوم.
وعندما بلغ أبو الصلت الخمسين من عمره غادر الأندلس إلى مصر في عام 510هـ / 1116 م. حيث نزل الإسكندرية وأقام مدة. وفيها ذاع صيته لدى بني أمية الذين قدروه حق قدره وقربوه في مجالسهم.
وفي يوم وصل إلى الإسكندرية مركب حمولته من النحاس فغرق قريبا من الميناء، ولم تكن هناك حيلة لتخليص المركب لطول المسافة في عمق البحر. ففكر أبو الصلت في أمره وأجال النظر في هذا المعنى حتى توصل إلى رأي بشأنه، ثم إنه اجتمع بالأفضل ابن أمير الجيوش ملك الإسكندرية وأنبأه أنه قادر إن تهيأ له جميع ما يحتاج إليه من الآلات أن يرفع المركب من قعر البحر، ويجعله على وجه الماء مع ما فيه من الثقل. فتعجب من قوله وفرح به، وسأله أن يفعل ذلك.
ثم أعطاه جميع ما طلبه من الآلات وأنفق في سبيل ذلك جملة من المال. ولما تهيأت وضعها في مركب عظيم على موازاة المركب الذي قد غرق، وأرسى إليه حبالا مبرمة من الإبريسم ، وأمر قوما لهم خبرة في البحر أن يغوصوا ويوثقوا ربط الحبال بالمركب الغارق. وكان أبو الصلت قد صنع آلات بأشكال هندسية لرفع الأثقال في المركب الذي هم فيه. وأمر الجماعة بما يفعلونه في تلك الآلات. ولم يزل شأنهم ذلك والحبال الإبريسم ترتفع إليهم أولا فأولا وتنطوي على دواليب بين أيديهم حتى بان لهم المركب الذي كان قد غرق، وارتفع إلى قريب من سطح الماء. ثم عند ذلك انقطعت الحبال الإبريسم، وهبط المركب راجعا إلى قعر البحر.
ولقد أدى ذلك الأمر إلى أن غضب عليه الملك لما غرمه من الآلات ولضياع ذلك دون فائدة ، وأمر بحبسه . وبقي أبو الصلت في السجن مدة إلى أن شفع فيه بعض الأعيان وأطلق. وبعد أن خرج أبو الصلت من السجن، عاد إلى وطنه في الأندلس حيث قضى هناك بقية عمره، وتوفي في المهدية عام 529هـ / 1135 م.
ترك أبو الصلت عددا من المؤلفات مختلفة الموضوعات منها: الرسالة المصرية ألفها لأبي الطاهر بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس، ورسالة في الموسيقى ، وكتاب في الهندسة ، وكتاب الانتصار لحنين بن إسحاق على بن رضوان ، وكتاب حديقة الأدب ، وكتاب تقويم منطق الذهن .
المصدر موقع الإسلام ...........مع تمنياتي لكم بالتوفيق