ملتقى الفيزيائيين العرب > قسم المنتديات العامة > منتدى الفيزياء العام | ||
الفيزياء وأحكام اللغة العربية ! |
الملاحظات |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
|||
|
|||
الفيزياء وأحكام اللغة العربية !
الفيزياء وأحكام اللغة العربية
تأليف / د. محمد كشاش - أستاذ بكلية الآداب – الجامعة اللبنانية [align=justify]تمهيد: اقتضت حياة العربي –القائمة على الترحال – أن يولي مظاهر الحياة الطبيعية جل اهتمامه، لأن الأرض و ما يختزن باطنها والسماء وما يجري فيها من أفلاك تمثلان دعائم الحياة وأركانـها وركائزها.فبالنجوم كانوا يهتدون(1)، ومن مدخرات الأرض كانوا يأكلون ويلبسون، ومن موجوداتها كانوا يقضون حوائجهم.نقلت المصادر صورة حياة العرب، جاء فيها:"…وأما أهل الوبر منهم قطان الصحارى وعمّار الفلوات وكانوا يعيشون من ألبان الإبل ولحومها وكانوا زمان النعجة ووقت التبدي يراعون جهات إيماض البروق ومنشأ السحاب وجلجلة الرعد فيؤمونها منتجعين لمنابت الكلأ ومرتادين لمواقع القطـر فيخيمون هناك ما ساعدهم الخصب وأمكنهم الرعي يقوّضون لطلب العشب وابتغاء المياه فلا يزالون في حل وترحال" (2) اضطرهم الواقع المعيشي- كما هو مبين- إلى الاهتمام بالنجوم وأحوالها والحرارة والبرودة والجفاف والرطوبة، وهي من متطلبات حياتهم، هداهم إليها حسهم الطبيعي وملاحظتهم، يدل على ذلك مثلهم السائر: أخطأ نَوْءُك (3)، فضلاً عن عنايتهم بالظاهرتين الطبيعيتين "المد" و"الجزر"، ورصدهم لهما.(4) كل هذه المباحث كانت بداية الفكر الفيزيائـي العربي، والذي يرجح أن يكون من أوائل العلوم العقلية عند العرب. واستمر إيلاء العرب الأصول الفيزيائية الاهتمـام الوافي في حياتهم، وبخاصة فتحهم البلاد، يشدهم إلى ذلك معرفة أحوالها الطبيعية، وخصائصها المناخية وغيرهما. نقل المسعودي أن عمر بن الخطاب كتب إلى حكيم من حكماء العصر بعد فتحهم البلاد، قال: "إنا أُناسٌ عرب، وقد فتح الله علينا البلاد، ونريد أن نتبوأ الأرض ونسكن البلاد والأمصار، فصف لي المدن وأهويتها ومساكنها، وما تؤثره التربة والأهوية في سكانها" (5). ونما اهتمام العرب بالفيزياء في العصور التالية للإسلام، حتى اعتبر من علومهم التي اهتدوا إليها بفطرهم. وهذا ظاهر في تقسيمهم للعلوم، يوم أخذوا يرسمون قواعد الثقافة، وأصول الفكر. ذكر ابن خلدون: "أن العلوم التي يخوض فيها البشر ويتداولونها في الأمصار، تحصيلاً وتعليماً، هي على صنفين: صنف طبيعي للإنسان يهتدي إليه بفكره، وصنف نقلي يأخذه عمن وضعه. والأول هي العلوم الحكمية الفلسفية، وهي التي يمكن للإنسان أن يقف عليها بطبيعة فكره، يهتدي بمداركه البشرية إلى موضوعاتها ومسائلها وأنحاء براهينها ووجوه تعليمها، حتى يفقه نظره وبحثه على الصواب من الخطأ فيها… "(6). وغذّت حركة الترجمة والنقل الفكر العربي بـزاد من العلوم الطبيعية، مما أثرى عقول العلماء، ورفدهم بأصول ومبادئ فيزيائية، انعكفوا على دراستها وتصويب خطئها وإزالة غامضها، نتيجة أخذهم بالمبدأ التجريبي .(7) أثبتت المصادر أن أبا جعفر المنصور بعث إلى ملك الروم يسأله أن يرسل إليه بكتب التعليم مترجمة، فبعث إليه بكتاب أوقليدس وبعض كتب الطبيعيات، فقرأها المسلمون، واطلعوا على ما فيها (8). و نضجت الطبيعيات (الفيزياء)، نظراً لعنايتهم بها، ولطول اشتغالهم بأصولها، يُبرر ذلك تحديدهم لمباحثها، على نحو قولهم: "الطبيعيات وهو علم يبحث عن الجسم من جهة ما يلحقه من الحركة والسكون، فينظر في الأجسام السماوية والعنصرية، وما يتولد عنها من إنسان وحيوان ونبات ومعدن، وما يتكون في الأرض من العيون والزلازل، وفي الجو من السحاب والبخار والرعد والبرق والصواعق وغير ذلك"(9) وبعد التطور الفكري الذي أصابوه، والتغير الاجتماعي(10) الذي عايشوه، اضطروا إلى وضع أحكام وقواعد يضبطون بها لغتهم، ويصونون ألسنتهم من الزلل. انتدب جماعة من العلماء (11) أنفسهم لهذه المهمة، يشدهم إلى ذلك بالإضافة إلى العاملين المتقدمين- نظرتهم إلى العربية نظرة جلال وقدسية من جهة، يصدقه قول الشاعر:[من الكامل]. النحو يَبْسُطُ من لسان الألكَنِ ... والمرء تُكْرِمه إذا لم يلحن وإذا طلبت من العلوم أجلها ...فأجلها منها مُقِيمُ الألسن (12).[/align] ====================== [align=justify] (1) يصدقه قول الله تعالى: (وعلامات وبالنجم هو يهتدون) سورة النحل، الآية 16. (2) صاعد الأندلسي: طبقات الأمم، تحقيق حياة العيد بو علوان، دار الطليعة، ببيروت، ط1، 1985م، ص114. (3) أبو الفضل الميداني: مجمع الأمثال، حققه وفصله… محمد محي الدين عبد الحميد، مطبعة السنة المحمدية، 1373هـ- 1955م، ج1 ص 247، وفيه:النّوْء: النجم يطلع ويسقط فيمطر، يقال: مُطِرْنا بنوء: كذا. (4) ينظر المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار المعرفة، بيروت، 1403هـ-1982م، ج1 ص113-117. (5) المسعودي: مروج الذهب، ج2، ص61. (6) ابن خلدون: المقدمة، دار الكتاب اللبناني ومكتبة المدرسة، بيروت، ط2، 1982م، ص779. (7) كان علماء المسلمين- رغم نزعتهم الفكرية- أقل قوة في التجريد من اليونان، لكنهم عوضوا عن ذلك يميلهم الشديد إلى التجربة. وقد بين التقدم العلمي اللاحق أهمية هذا الميل. يراجع، كلود كاهن: تاريخ العرب والشعوب الإسلامية، نقله إلى العربية د.بدر الدين القاسم، دار الحقيقة، ببروت، ط1403هـ- 1983م، ص227. (8) ابن خلدون: المقدمة، ص892. (9) ابن خلدون: المقدمة، ص916. (10) كدخول عناصر غير عربية إلى المجتمع، وما جرّ إلى الألسنة من الوهن والعجمة، ينظر أمثلة ذلك، السيوطي: الأخبار المروية في سبب وضع العربية- ضمن رسائل في الفقه واللغة- تحقيق د. عبد الله الجبوري، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط1،1982م، ص168 (11) منهم أبو الأسود الدؤلي ونصر بن عاصم وعبد الرحمن بن هرمز، يراجع، الزبيدي: طبقات النحويين واللغويين، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ، دار المعارف، القاهرة، ط2،1984م، ص11. (12) المبرد: الكامل في اللغة والأدب، مؤسسة المعارف، بيروت، لا تا،ج1 ص248.[/align] |
#2
|
|||
|
|||
![]() [align=justify]انعكست مبادئ الفيزياء في كثير من قواعد العربية وتعليل أحكامها، وتسويغ قياسها. وهاكم جملة من المبادئ الفيزيائية التي انعكست في أحكام العربية:
1-قطبا المغنطيس المتماثلان يتنافران والمختلفان يتجاذبان (15) أرخت هذه المعادلة سدولها على مسائل شتى في النحو العربي، منها عدم تقدم خبر"إن" وأخواتها عليهن مطلقاً(16)، فلا يجوز القول: "قائم إن زيداً"، بل يجب أن يتأخر الخبر، فيقال: "إن زيداً قائم" والعلة أن الخبر قد يأتي فعلاً: (جملة فعلية)، وإن في طبيعتها حرف مشبه بالفعل ، فلو جاز تقدم الخبر لتعاقب فعلان في جملة، وكأن الفعلين قطبا مغناطيس متماثلان، فلا يتجاذبان بل يتنافران، ولا علة غير ذلك. وإيضاح القضية يكمن في تجويزهم تقدم أخبار كان وأخواتها عليها، (17) فتقول: "قائما كان زيدٌ و"إن" في حقيقة أمرها فرعٌ على كان، وكأن تعمل عمل الفعل، فتقدم الخبر عليها محمول على مفعول قدم على الفعل كما في قوله تعالى: "فريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون" (18)، فكيف جاز لكان ولم يجز لِ "إن" ؟! ولا علة سوى وجود علة التنافر وبخاصة إنَ، "كان" فعل ناقص، لا يرقى إلى الفعلية إلا في الدلالة على الزمن. وبكلمة إن الفعلية ضعيفة في "كان" وقوية في "إن "كأن "إن، قطب مغنطيس متماثل مع الخبر، فيتنافران. وعلى شاكلة هذه المسألة منع العلماء "اجتماع الأمثال"، لذلك فروا منها إلى القلب أو الحذف أو الفصل، ومن أمثلته قولهم في"دهدهتُ الحجر"، دهديتُ "قلبوا الهاء الأخيرة يـاء كراهة اجتماع الأمثال (19). ومنه أيضاً عدم دخول "الألف واللام" على المضاف، قال سيبويه: "واعلم أنه ليس في العربية مضاف يدخل عليه الألف واللام غير المضاف إلى المعرفة في باب الصفة المشبهة، وذلك في قولك: "هذا الحسن الوجه…"(20). وتفسيره أن المضاف يكتسب التعريف من المضاف إليه، ولو دخلته "الألف واللام" لاجتمعت عليه علامتا تعريف: الإضافة والألف واللام وهاتان العلامتان من أقطاب متجانسة، فتنتفران. أما جواز دخولها على المضاف في باب الصفة المشبهه فمبرر ذلك أن هذه الصفة غير محضة، أي لا تفيد الاسم تخصيصاً ولا تعريفاً (21).[/align] ====================== [align=justify](15) BERKELEY, Electricité et Magnétisme, Vol.2 P. 381. (16) ابن هشام: أوضح المسالك إلى ألفيه ابن مالـك، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الجيل، بيروت، ط5،1399هـ-1979م، ج1 ص332. (17) ينظر السيوطي: همع الهوامع، تحقيق وشرح د. عبد العال سالم مكرم، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1413هـ-1992م، ج2 ص160. (18) سورة البقرة، الآية 87. (19) يراجع السيوطي: الأشباه والنظائر في النحو، راجعه وقدم له د. فايز ترحيني، دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، 1404هـ- 1984م ج1 ص40. (20) سيبويه: الكتاب، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط3، 1408هـ-1988م، ج1، ص199-200. (21) يراجع، ابن عقيل: شرح ابن عقيل، تحقيق محيي الدين عبد الحميد، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، ط14/1385هـ- 1965م، ج2، ص44.[/align] |
#3
|
|||
|
|||
![]() [align=justify]2- الطاقة الكامنة تتناسب طرداً مع وزن الجسم:
احتسب الفيزيائيون الطاقة وفق المعادلة التالية: الطاقة الكامنة=ق (وزن الجسم)×ف (المسافة العمودية)(22) وفيها يظهر تناسب الطاقة طرداً مع وزن الجسم. وقد رعى علماء العربية القاعدة المذكورة، فكانت الطاقة تقابل المعنى الكامن في المادة اللغوية، ووزن الجسم يقابل بناء المادة، وكلما ازدادت حروف الكلمة (وزنها)) ازداد معناها. تتجلى هذه الحقيقة في فصل عقده ابن جني في خصائصه أسماه: "باب في قـوة اللفظ لقوة المعنى "جاء فيه: "هذا فصل من العربية حسن، منه قولهم: خَشُن واخشوشن فمعنى خشُن دون اخشوشن، لما فيه من تكرير العين وزيادة الواو. ومنه قول عمر (رضي الله عنه):اخشوشنوا وتمعددوا : أي اصلبوا وتناهوا في الخُشْنَة. وكذلك قولهم: أعشب المكان، فإذا أرادوا كثرة العشب فيه قالوا: اعشوشب. ومثله حلا واحلولى وخلُق واخلولق، وغدن واغدودن. ومثله باب فعل وافتعل، نحو قدر واقتدر. فاقتدر أقوى معنى من قولهم: قدر"(23). وينطبق هذا المبدأ أيضاً على بنية الجملة كما ينطبق على بنية الكلمة، فزيادة الألفاظ في الجملة تتناسب طرداً مع زيادة المعاني. وقد تنبه علماء العربية إلى هذا القانون الفيزيائي ورعوه في أحكامهم، يشهد لذلك مساءلة الفيلسوف الفارابي النحوي المبرد، قـال: "إني أجد في كلام العرب حشواً، يقولون: عبد الله قائم وإن عبد الله قائم وإن عبد الله لقائم والمعنى واحد، فأجابه المبرد: بل المعاني مختلفة. فـ"عبد الله قائم" إخبار عن قيامه، و"إن عبد الله قائم" جواب عن سؤال سائل" وإن عبد الله لقائم" جواب عن إنكار منكر(24) وهكذا اختلفت الدلالة باختلاف بنية الجملة(25). ونزولا عند المعاني المختلفة التي تفرضها زيادة الألفاظ في الجملة، رسم البلاغيون معالم لغوية في تأدية الخبر، وفيها:"ينبغي أن يُقتصر من التركيب على قدر الحاجة، فإن كان خالي الذهن من الحُكم والتردد فيه استغني عن مؤكدات الحكم، وإن كان متردداً فيه طالبا له حَسُن تقويته بمؤكد، وإن كان منكراً وجب توكيده بحسب الإنكار.. ويسمى الضرب الأول ابتدائياً، والثاني طلبياً والثالث إنكارياً. (26)[/align] ====================== [align=justify](22) T. Becherrawy : Cours De physique Generale (Mécanique). 1984, p : 98 et p : 354. (23) ابن جني: الخصائص، حققه محمد علي النجار، دار الهدى، بيروت، لا تا، ج3 ص 264. (24) القزويني: الإيضاح في علوم البلاغة، شرح وتعليق وتنقيح د. محمد عبد المنعم خفاجي، دار الكتاب اللبناني، بيروت،ط5، 1400هـ- 1980م، ج1، ص93. (25) لحظ علماء العربية ما يترتب على زيادة اللفظ- أحيانا من زيادة المعنى حسناً. قال الثعالبي:هي من سنن العرب كما تقول: زيدّ ليث إنما شبهته بليث في شجاعته فإذا قال زيد كالليث الغضبان فقد زاد المعنى حسناً وكسا الكلام رونقاً. الثعالبي:فقه اللغة وأسرار العربية، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، لا تا، ص254. (26) القزويني: التلخيص في علوم البلاغة، ضبطه وشرحه عبد الرحمن البرقوقي، دار الكتاب العربي، بيروت، لا تا، ص41-42.[/align] |
#4
|
|||
|
|||
![]() [align=justify][align=center]3- الثقل والخفة:[/align]
الثقل في العربية صدى لوزن الجسم الذي يظهر نتيجة ما يحتاج من قوة لتحركه، ويرمز إليها بالمعادلة: ق (القوة)=ك (كمية المادة)×(المعدل الزمني للتغير)(27). انعكست هذه الحقيقة في العربية من خلال تمييز العلماء بين اللفظ الثقيل والخفيف، وقد وضعوا معياراً توصلوا فيه إلى معرفة الثقيل من الخفيف، قالوا: "الثقل والخفة يعرفان من طريق المعنى لا من طريق اللفظ. فالخفيف من الكلمات ما قلت مدلولاته ولوازمه، والثقيل ما كثر ذلك فيه، فخفة الاسم أنه يدل على مسمى واحد ولا يلزمه غيره في تحقق معناه، كلفظة "رَجُل" فإن معناها ومسماها الذكر من بني آدم، والفرس هو الحيوان الصهال، ولا يقترن بذلك زمان ولا غيره، ومعنى ثقل الفعل أن مدلولاته ولوازمه كثيرة، فمدلولاته الحدث والزمان، ولوازمه الفاعل والمفعول والتصرف وغير ذلك (28). وقانون الخفة والثقل في العربية- كما هو ملاحظ- يتماشى طرداً مع مصطلح "القوة" عند الفيزيائيين، لأن القوة عندهم تناسب طرداً مع ثقل الجسم ووزنه. وعلى ضوء المعيار المذكور ميزوا بين الاسم والصفة في الثقل، حين اعتبروا الاسم أخف من الصفة، لأن الصفة ثقلت بالاشتقاق وبالحاجة إلى الموصوف وتتحمل الضمير (29)، وميزوا أيضاً بين الحركة الإعرابية والبنائية من جهة ثانية، فكانت المثقلة بالمعنـى ثقيلة، والخفيفة منه خفيفة. قال الشريف الجرجاني: "الحركة الإعرابية مع كونها طارئة أقوى من البنائية الدائمة، لأن الإعرابية علم لمعان معتورة يتميز بعضها عن بعض ، فالإخلال بها يفضي إلى التباس المعاني وفوات ما هو الغرض الأصلي من وضع الألفاظ وهيئتها، أعني الإبانة عما في الضمير".[/align] ====================== [align=justify](27) T. Becherrawy ,cours de Phsique Generale (Mécanique) P. 96. (28) العكبري: مسائل خلافية في النحو، حققه وقدم له د. محمد خير الحلواني، منشورات دار المأمون، دمشق، ط2،لا تا، ص111-112. (29) السيوطي: الأشباه والنظائر في النحو، ص81.[/align] |
#5
|
|||
|
|||
![]() [align=justify][align=center]4- طرق انتقال الحرارة:[/align]
تنتقل الحرارة عادة من الأجسام التي حرارتها أعلى إلى الأجسام التي تكون حراراتها أقل. ويتم الانتقال بطرق ثلاث، هي الإيصال (Conduction)، والحمل (Convection) والإشعاع (Radiation) (30)، وبانتقال الحرارة إلى جسم تقوى فعاليته وترتفع وتـيرة عمله. ومثلما تنتقل الحرارة إلى الأجسام، تنتقل الحرارة إلى الأفعال، فيتعدى اللازم، ويتم ذلك عبر الطرق التالية: وهي "الهمزة وتثقيل الحشو وحرف الجر تتصل ثلاثتها بغير المتعدي فتصيره متعدياً وبالمتعدي إلى مفعول واحد فتصيره ذا مفعولين، نحو قولك: أذهبته وفرحته وخرجت به وأحفرته بئراً، وعلمته القرآن وغصبت عليه الضيعة وتتصل الهمزة بالمتعدي إلى اثنين فتنقله إلى ثلاثة نحو أعلمت " (31). وبهذا تنتقل حرارة العمل الإعرابي إلى الفعل عبـر طـرق شبيهة بالطرق التي أقرها علم الفيزيـاء. وقد ينتقل العمل الإعرابي إلى الفعل بطـرق تشبه الحمل (Convection) في الفيزياء إلى حد ما. وهذا الانتقال يسمى في العربية "التضمين"، وحقيقته: "إشراب معـنى فعل لفعل ليعامل معاملته. وبعبارة أخرى: هو أن يحمل اللفظ معنى غير الذي يستحقه بغير آلة ظاهرة (32). من شواهده قوله تعالى: "ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سَفِهَ نَفْسَه"(33)، فإن الفعل "سفه" لازم، وقد تعدى إلى "نفسه" لتضمنه الفعل" أهلك". (34) وتجلى المبدأ الفيزيائي في صفحة النحو العربي عندما استعملوا مصطلح "الحمل" في كثير من قضايا النحو ومسائله. من أمثلته: "حمل الجر على النصب في باب ما لا ينصرف، كما حمل النصب على الجر في باب جمع المؤنت السالم، وفي التثنية والجمع المذكر السالم…(35) ومنه أيضاً حمل الشيء على نظيره" (36)، و"الحمل على أحسن القبيحين"(37). وتبدو فعالية نقل الحرارة الفيزيائية في العمل الإعرابي واضحة في قضية "مطل الحركات ومطل الحروف"، وبه تتمدد الحروف والحركات كما تتمدد المعادن نتيجة الحرارة. قال ابن جني : "وإذا فعلت العرب ذلك أنشأت عن الحركة الحرف من جنسها، فتنشئ بعد الفتحة الألف، وبعد الكسرة الياء وبعد الضمة الواو"(38)، وقالوا في مطل الحروف: "والحروف الممطولة هي الحروف اللينة المصوتة. وهـي الألف والياء والواو. اعلم أن هذه الحروف أين وقعت، وكيف وجدت (بعد أن تكون سواكن يتبعن بعضهن غير مدغمات) ففيها امتداد ولين"(39). وفي وصف ظاهرة "المطل" "شبه إلى حد بعيد في وصف الفيزيائـي لتمدد الأجسام الصلبة، يؤديه قول ابن جني: "ففيها امتداد ولين"، واستعمال "امتداد و"لين" صفات فيزيائية، ومصطلحات فيه.[/align] ====================== [align=justify](30) Y . Rocard Thermodynamique (31) 2 nd edition, P. 303 et P.508, et P. 235. (32) الزمخشري: المفصل في علم العربية، شرح أبياته السيد محمد بدر الدين النعساني، دار الجيل، بيروت، لا تا، ص257. (33) أبو البقاء الكفوي: الكليات، قابله على نسخة خطية وأعده للطبع…د. عدنان درويش وآخرون، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، ط2،1982، ق2، ص24. (34) سورة البقرة، الآية130. (35) وقيل معنى (سفه) جهل وضيع فتعدى فنصب "نفسه". يراجع، مكي بن أبي طالب القيسي: مشكل إعراب القرآن، تحقيق د. حاتم صالح الضامن، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2،1405هـ- 1985م، ق1، ص111. (36) ابن أبي الربيع: البسيط في شرح جمل الزجاجي، تحقيق ودراسة د. عياد الثبيتي، دار الغرب الإسلامي، بيـروت، ط1، 1407هـ 1986م،السفر 1، ص198-199، 200-211. (37) من شواهده الجمع "حُدَّاث" في حديث فاطمة "رضي" أنها جاءت إلى النبي (ص) فوجدت عنده حُدَّاثاً، أي جماعة يتحدثون، وهو جمع على غير قياس، حملا على نظيره، نحو سامر وسُمّار؛ فإن السمار المتحدثون". يراجع ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث و الأثر، تحقيق طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمد الطناحي، المكتبة العلمية، بيروت، لا تا، ج1 ص350. (38) يراجع، ابن جني: الخصائص، ج1، ص212. (39) ينظر، ابن جني: الخصائص، ج3 ص121.[/align] |
#6
|
|||
|
|||
![]() [align=center]5- القوة (Force) والشغل (Work) وأثرهما:[/align] [align=justify]عندما يحرك جسم معين، تستعمل قوة لتؤثر عليه، ولا يمكن تحريكه بدون قوة. ومن آثار القوة السحب (PULL) والدفع (Push)(40). انعكس مبدأ القوة وآثارها المتمثل بالشغل (Work )في النحو بشكل عامل ومعمول، فلا يوجد عمل إعرابي (Work) من دون عامل (قوة Force). برز هذا المبدأ بوضوح في تعريفهم الإعراب: "الإعراب أثر ظـاهر أو مقدر يجلبه العامل في آخر الاسم المتمكن والفعل المضارع "(41). جدّ العلماء في استخراج العوامل وصنفوها، وجعلوها أنواعاً ما بين لفظي وغير لفظي. قال الجرجاني: " والكلمات المعربة على ضربين: أحدهما ما ليس له عامل ظاهر لفظي، وهو على ثلاثة أضرب، الأول والثاني المبتدأ والخبر، كقولك: زيدٌ منطلقٌ فإنهما مرفوعان وليس معهما عامل ظاهر لفظي، وإنما رفعا بالابتداء… والثالث الفعل المضارع في حال الرفع فإنك إذا قلت: يضربُ مرفوعاً من غير رافع ظاهر. والضرب الثاني ما كان له عامل ظاهر لفظي، كالمجرور بالباء في "بزيدٍ" والمجزوم في "لم يضرب" بلم (42). وكما حدد علماء الفيزياء آثار القوة العاملة بالسحب أو الجر والدفع، كذلك كانت آثار العامل النحوي الرفع والنصب والجر والجزم، لأن "… كل ما رفع أو نصب أو جر أو جزم سمي عاملاً، والعوامل ثلاثة أنواع أحدها أن يكون من الأفعال والثاني أن يكون من الحروف والثالث أن يكون من الأسماء" (43). ويبدو الترابط بين النحو والفيزياء على أشده، حين تتطابق المصطلحات(44) بين العلمين. فآثار القوة "السحب" أو الجر" و"الرفع"، وآثار العامل النحوي "الرفع"، وآثار العامل النحوي "الرفع" و"النصب" و"الجزم" و"الجر أو الخفض". والشغل في الفيزياء يزداد طرداً مع القوة والمسافة التي يتحركها الجسم، يظهر ذلك من خلال المعادلة الرياضية: ش(الشغل) =ق (القوة المؤثرة على الجسم)×ف (المسافة التي يتحركها الجسم) (45) وقياساً على المعادلة تختلف كمية القوة، وينعكس هذا في كمية الشغل. والأمر نفسه مراعى في الأصول النحوية، فهناك العامل القوي والعامل الضعيف، وقد لخصها ابن الأنباري، بقوله: "وعوامل الأسماء أقوى من عوامل الأفعال"(45)، لاعتبار أن أصل العمل للأفعال بدليل أن كل فعل لا بد له من فاعل(46). وافترض وجود العامل والمعمول في العملية الميكانيكية الإعرابية بعض الأصول، منها "المعمول لا يقع إلا حيث العامل، ورتبة العمل قبل رتبة المعمول"(47)… وسواهما.[/align] ====================== [align=justify](40) يراجع، ابن جني: الخصائص، ج3 ص124. (41) M. T. Chehabeddine , N. Dandach, A. Haidar : Mecanique ,u.1(منشر وات الجامعة اللبنانية)، P :101-99. (42) ابن هشام: شرح شذور الذهب، تحقيق محمد محيـي الدين عبد الحميد، المكتبة التجارية الكبرى، مصر، ط10، 1385هـ- 1965م،ص33. (43) عبد القاهر الجرجاني: كتاب الجمل في النحو، شرح ودراسة وتحقيق يسري عبد الغني عبد الله، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1410هـ- 1990، ص57-58. (44) يراجع، عبد القاهر الجرجاني: كتاب الجمل في النحو، ص58. (45) للمصطلحات خصوصية لغوية، إذ هي أوعية العلم وحافظة له، وفيها الدلالة عليه، ومن هنا لاحظ المستشرق فايل (Weil) أن الفراء يؤسس مذهباً نحوياً خاصاً، لأنه كان يستعمل إصطلاحات جديدة غير التي يستعملها النحاة البصريون… يراجع، د. مهدي المخزومي: مدرسة الكوفة ومنهجها في دراسة اللغة والنحو، شركة مكتبة ومطبعة البابي الحلبي، مصر، ط2، 1377هـ- 1985م، ص 354. (46) T. Becherrawy : Cours de Physique General (Mécanique) ,P 150. (47) ابن الأنباري: الإنصاف في مسائل الخلاف، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر، لا.ب، لا تا، ج2، ص558.[/align] |
#7
|
|||
|
|||
![]() 6- قانون الشدة واللين في الأصوات:
[align=justify]يقصد بالصوت –من الناحية الفيزيائية- الأمواج الصوتية، والموجة تحتوي على تضاعف وتخلخل، وبما أن الأمواج يختلف بعضها عن بعض من حيث السعة (Amplitude) والتردد (Frequency)، فإن الأصوات يختلف بعضها عن بعض تبعا لذلك (48). برز هذا المبدأ في الأصوات اللغوية، حين ميز العلماء بين الأصوات من حيث السعة والتردد، يهديهم إلى ذلك مخرج الحرف الذي يحدث الصوت. ذكر ابن جني أقسامها، قال: "اعلم أن للحروف في اختلاف أجناسها انقسامات، فمن ذلك انقسامها في الجهر والهمس، وهي على ضربين: مجهور ومهموس… فمعنى المجهور أنه حرف أشبع الاعتماد في موضعه، ومَنَع النفَسَ أن يجري معه حتى ينقضي الاعتماد ويجري الصوت… وللحروف انقسام آخر إلى الشدة والرخاوة وما بينهما… ومعنى الشديد أنه الحرف الذي يمنع الصوت من أن يجري فيه، ألا ترى أنك لو قلت: الحق والشط، ثم رمت مدّ صوتك في القاف والطاء لكان ذلك ممتنعاً… والرخو هو الذي يجري فيه الصوت ألا ترى أنك تقول: المس والرش والشح، ونحو ذلك فتجد الصوت جارياً مع السين والشين والحاء…"(49). وتتناسب شدة الصوت طرداً مع كثافة مادة الوسط الذي يجري فيه، فشدة الصوت في المواد الصلبة كالحديد أعلى منها في الغازات ومعظم السوائل… ولهذا كان الصوت الشديد في المادة اللغوية يحمل في طياته الحدث الشديد، وقد برز ذلك جلياً في مواد العربية. ذكر ابن جني في باب "إمساس الألفاظ أشباه المعاني"، "وأما مقابلة الألفاظ بما يشاكلها من الأحداث فباب عظيم واسع، ونهج مُتْلَئِبّ عند عارفيه مأموم. وذلك أنهم كثيراً ما يجعلون أصوات الحروف على سمت الأحداث المعبر بها عنها، فيعدلونها بها ويحتذونها عليها… من ذلك قولهم: خضم وقضم. فالخضم لأكل الرطب، كالبطيخ، والقضم للصلب اليابس، نحو قضمت الدابة شعيرها ونحو ذلك، فاختاروا الخاء لرخاوتـها للرطب والقاف لصلابتها لليابس، حَذْواً لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث"(50). ويحدث أحياناً تحول صوتي في بنية اللفظة، فلا يستطيعون تفسيره تفسيرا لغوياً مقنعاً، من أمثلته "قلبهم الحروف عن جهاتها ليكون الثاني أخف من الأول، نحو : ميعاد ولم يقولوا موعاد…(51) وعلة ذلك أنه أمر فيزيائي، لا يخضع لقاعدة نحوية، بل لظروف طبيعية معينة من جوار صوتي وتنبير وغيرهما (52).[/align] ====================== ([align=justify]48) السيوطي: همع الهوامع، ج2، ص109. (49) ينظر ابن الأنباري: الأنصاف في مسائل الخـلاف، ج1، ص68. (50) T. Becherrawy cours De Physique General ( Mécanique) P. 150. (51) ابن جني: سر صناعة الإعراب، دراسة وتحقيق د. حسن هنداوي، دار القلم، دمشق، ط1، 1405هـ-1985م، ج1، ص60-61. (52) يراجع ابن جني، الخصائص، ج2، ط 2 ص157-158.[/align] |
#8
|
|||
|
|||
![]() [align=center]7-خواص المادة وخصائصها:[/align]
[align=justify]لحظ علماء الفيزياء والكيمياء في أصولهم خواص المادة(53)، كالشكل واللون والسخونة والحجم والرائحة… وقد حُمل هذا النهج إلى اللغة والنحو العربيين، فجاءت في مصنفاتهم خواص للمادة اللغوية في عملها الإعرابي. من أمثلته ما نُقل في الخواص التي لظن وأخواتها: "لهذه الأفعال خواص لا يشاركها فيها غيرها من الأفعال المتعدية، منها أن مفعوليها مبتدأ وخبر في الأصل، ومنها أنه لا يجوز الاقتصار على أحد مفعوليها…"(54). ومنه أيضا سردهم خصائص الفعل وغيره، لنظرتهم إليه نظرة فيزيائي إلى مادته. جاء في باب نواسخ الابتداء:و"تختص كان بأمور، منها جواز زيادتها بشرطين، ومنها أنها تحذف "(55). وسلكوا في معرفة موادهم والتأكيد على عملها الإعرابي مسلك الفيزيائيين ، من خلال تعرضها لاختيارات تُسْتَقرى على ضوئها حقيقتها. من أدلة ذلك تمييز النحاة الفعل اللازم من المتعدي بإدخالهم "الهاء" (ضمير نصب) عليه، فإن صح معه فهو متعدٍ وإلاّ فهو لازم، فاعفوا أنفسهم من مغبة الوقوع في الزلل والحيرة والخَطْل. قال ابن مالك: [من الرجز] عَلاَمَةُ الفِعْلِ المُعَدَّى أَنْ تَصِلْ "ها" غَير مَصْدَرٍ بِهِ نَحْوَ عَمِلْ (56). وشرحه ابن عقيل: "وعلامة الفعل المتعدي أن تتصل به هاء تعود على غير المصدر، وهي هاء المفعول به، نحو: الباب أغلقته" (57). ومن هذا القبيل ذكرهم خصائص الفعل التي يتميز بها عن غيره من أقسام الكلمة قال الزمخشري: "الفعل ما دل على اقتران حدث بزمان ومن خصائصه صحة دخول "قد" وحرفي الاستفهام والجوازم ولحوق المتصل البارز من الضمائر وتاء التأنيث ساكنة نحو قولك: قد فعل وقد يفعل وسيفعل وسوف يفعل ولم يفعل وفعلتُ ويفعلن وافعلي وفعلَتْ " (58).[/align] ====================== [align=justify](53) ينظر ابن فارس: الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها، حققه وقدم له مصطفى الشويمي، مؤسسة أ. بدران للطباعة والنشر،بيروت،1383هـ-1964م، ص43. (54) (52) F. De Saussure ,cours de linguistique Géneral, Publié Par charles Bally et Albert Sechehaye Paris , 1967, P :199. (55) ينظر، (56) C.S.G. PHILIPPS and R.J.P. Williams , traduit par V. HERAULT : Chimie minérale, DUNOD, 1971, T : 2,P :389-392, & T.W. Graham Solomons : ORGANIC Chemistry, John Wiley & Sons, New York, .3 ed edition , P : 860-862. (57) يراجع، السيوطي:الأشباه والنظائر في النحو،ج2، ص80. (58) ينظر، ابن هشام: أوضح المسالك إلى ألفيه ابن مالك، ج1، ص 255-260.[/align] |
#9
|
|||
|
|||
![]() [align=center]بعد البيان الحجة والبرهان:[/align]
[align=justify]ما تقدم، نماذج سقناها، لأنها تجسد رواسب الفيزياء، إن في تعليل الحكم الذي تحمله، أو في تسويغ السلوك اللغوي الذي تنتحيه . وهي ظواهر لغوية تعكس جليا أصول الفيزياء ومبادئها. وعليه لم يمكـن قولنا بالترابط بين الفيزياء وأحكام اللغة من باب الحدس والتخمين، بل من باب الواقع واليقين، يشد أزر ما نقرره جملة أدلة، منها: 1. نظر النحاة واللغويون إلى اللغة نظرة عقلية مادية، لم يفرقوا بينها وبين الوقائع الطبيعية. فالظواهـر اللغوية لا تختلف عندهم عن ظواهر الحياة المادية، لذلك أخضعوها لأحكام العقل ومعاييره. فقد وازنوا بين العامل النحوي والعامل الحسي الطبيعي كالنار والماء وسواهما. يدعم ذلك قول البصريين في العامـل: "إنما قلنا إن العامل هو الابتداء وإن الابتداء هو التعري من العوامل اللفظية لأن العوامل في هذه الصناعة ليست مؤثرة حسية كالإحراق للنار والإغراق للماء والقطع للسيف" (64). ولجأوا أيضاً إلى الأحكام المنطقية العقلية في تفسير الظواهر النحوية. من أمثلته حجة البصريين في عامل نصب المفعول به، قالوا: "… إنما قلنا إن الناصب للمفعول هو الفعل دون الفاعل وذلك لأنا أجمعنا على أن الفعل له تأثير في العمل، أما الفاعل فلا تأثير له في العمل، لأنه اسم، والأصل في الأسماء أن لا تعمل، وهو باقٍ على أصله في الإسمية ، فوجب أن لا يكـون له تأثير في العمل، وإضافة ما لا تأثير له في العمل إلى ما له تأثير ينبغي أن يكون لا تأثير له" (65). 2. استعمل النحاة واللغويون الأساليب الفيزيائية في برهان قضية أو تأكيد حكم أو تفسير ظاهرة لغوية. وهذا الاستعمال يرجح انعكاس المبادئ الفيزيائية في أصول العربية. من براهين اللغويين ما لجأ إليه الخليل عند تقرير أثقل الحركات. روى السيوطي ذلك بقوله: " قال رجل للخليل: لا أجد بين الحركات فرقاً، فقال له الخليل: ما أقل ما يميز أفعاله ، أخبرني بأخف الأفعال عليك، فقال: لا أدري، قال أخف الأفعال عليك السمع لأنك لا تحتاج فيه إلى استعمال جارحة إنما تسمعه من الصوت وأنت تتكلف في إخراج الضمة إلى تحريك الشفتين مع إخراج الصوت، وفي تحريك الفتحة إلى تحريك وسط الفم مع إخراج الصوت، فما عمل فيه عضوان أثقل مما عمـل فيه عضو واحد" (66). وفي هذا التعليل يجد المرء نفسه أمام مختبر فيزيائي، تقرر الحقائق على ضوء النتيجة التي تحكيها المحصلة النهائية. وجملة القول إن برهان النحويين واللغويين يحمل روح العلم وأصوله. ولا ضَير بعد أن يقول ابن جني في ختام شرح قضية التقاء الساكنين: " وهذا برهان ملحق بالهندسي في الوضوح والبيان"(67)، مشيراً إلى روح العلم المتجسدة في أحكام العربية، ومنها كذلك الفيزياء، نَظَراً لحاجة الهندسة إلى الفيزياء. 3. أشار الجاحظ إشارة حية إلى مبدأ الفيزياء وغيره من العلوم الكامنة في العربية ومبادئها بحيث بات ولوج مسائل النحو العربي، والخوض في لججه يتوقف على الإلمام بمبادئ تلك العلوم، وإلا يعود الباحث بلا مغنم ولا ظفر. قال الجاحظ نقلاً عن الخليل: "لايصل أحد من علم النحو إلى ما يحتاج إليه حتى يتعلم ما لا يحتاج إليه "(68). والفيزياء في بادئ الأمر ، لا يحتاجها طالب العربية، ولكنها لما انعكست مبادئها في النحو العربي، باتت معرفتها ضربة لازم على مريد العربية. وترتب على ما سبق أن تحولت كتب النحـو في التراث العربي إلى موسوعة للعلوم والمعارف، تجاوزت بمدخراتها مسائل النحو إلى أصول العلوم الأخرى، يشفع ذلك ما روي عن الجرمي أنه كان يقول:" أنا منذ ثلاثين أفتي الناس في الفقه من كتاب سيبويه.قال : فحدثت به محمد بن يزيد على وجه التعجب والإنكار، فقال: أنا سمعت الجرمي يقول هذا- وأومـأ بيده إلى أذنيه-وذلك أن أبا عمرو الجرمي كان صاحب حديث، فلما علم كتاب سيبويه تفقه في الحديث إذ كان كتاب سيبويه منه النظر والتفتيش" (69). 4. اشتغل النحاة واللغويون بالعلوم الطبيعية وغيرها من العلوم البحتة، ولم تقتصر ثقافتهم على العربية. فالخليل بن أحمد الفراهيدي اشتغل بالحساب وأتقنه، "وكان سبب موته أنه قال : أريد أن أقرب نوعاً من الحساب تمضي به الجارية إلى البقال فلا يمكنه ظلمها…"(70). واستطاع الخليل بفكره الرياضي أن يستنبط " من العروض ومن علل النحو ما لم يستنبطه أحد، ولم يسبقه إلى مثله سابق"(71). وألمّ بعض النحـاة بالفلك ، وأسهموا في وضع مؤلفاته، منهم محمد بن حبيب الفرازي الذي كان "نحوياً ضابطاً جيد الخط أخذ عنه المازني… وهو مع ذلك عالم بالنجوم، وله القصيدة التي تقوم مقام زيجات المنجمين…" (72). وظهر أثر النحاة واللغويين في الطبيعيات من خلال تأليفهم في الأنواء ومظاهر الطبيعة الأخرى. فللأصمعي كتاب في "الأنواء" (73)، وآخر في النبات والشجر (74) وللنضر بن شميل (75) كتاب "الأنواء" وكذلك لمؤرّج السَّدوسي (76). وهي مواد تمتّ إلى الفيزياء بصلة وثيقة. ومن الطبيعي أن يستعمل العلمـاء ما أتقنوا من علوم وحذقوا من معارف في أثناء تقيدهم القواعد، وتحريرهم مسائل العربية. 5. قاسمت الفيزياءُ العربيةَ جانباً من موادها: فالأصوات مادة تشترك فيها كل من العربية والفيزياء ، لأن مستويات التحليل اللغوي تشمل الأصوات والصرف والنحو والمعجم (77). فمن البديهي أن يتبادل كل علم مع الآخر المنهج والأصل، نظراً للتشابه بينهما. ولا غرابة أن يطبق النحويون منهج الفيزيـاء في دراساتهم. ومن شواهده منهج ابن جني في تفسيره أقسام الحروف ومخارجها، قال: "…والإطباق: أن ترفع لسانك إلى الحنك الأعلى مطابقاً له، ولولا الإطباق لصارت الطاء دالاً، والصاد سيناً والظاء دالاً، ولخرجت الضاد من الكلام، لأنه ليس من موضعها شيء غيرها تزول الضاد إذا عدمت الإطباق " (78). 6. استفاد علم اللغة من العلوم الأخرى في أبحاثه اللغوية، ومن بينها الفيزياء، يؤازر ذلك قول أحد الدارسين: : "إن علم اللغة قد أصبح علماً مستقلاً ببحث اللغة ويستفيد من كل فروع المعرفة التي تنير جوانب مختلفة في بحث اللغة، فإلى جانب الإفادة من أجهزة القياس الصوتي والوسائل الإحصائية ونتائج علم التشريح وعلم وظائف الأعضاء وعلم فيزياء الصوت…"(79)، تركت كل هذه العلوم بصماتها في النحو واللغة العربيين، ومن بينها علم الفيزياء بلا شك. 7. بقيت معالم الفيزياء بادية للعيان في بناء القاعدة النحوية، فالقانون الفيزيائي الأساسي لا يمنع وجود قانون آخر بجانبه، يدل على ذلك ما جاء في أحكام "لم". نقل المرادي (80) في " الجنـي الداني" القاعدة فجاءت : لم حرف نفي له ثلاثة أقسام: الأول أن يكون جازماً، نحو "لم يلد ولم يولد" (81)، وهذا القسم هو مشهور، والثاني أن يكون ملغى لا عمل له، فيرتفع الفعل المضارع بعده،… والثالث أن يكون ناصباً للفعل… هكذا وجدت قاعدة أساسية، وقاعدة أخـرى تعارضها. وعليه يلاحظ أن القانون اللغوي يشبه قانون الجاذبية في الفيزياء … لكن وجود قانون ما لا يمنع وجود قانون آخر يعارضه في العمل. فقانون الجاذبية يقضي بأن الأجسام كلها تسقط نحـو مركز الأرض في خط شاقولي، لكن هذا لا يمنع أن نرى صفحة من الورق تنـزلق في خط متعرج، وأن نرى البالون يرتفع نحو الأعلى، إن القانون في اللغة كالقانون في الطبيعة، لا يمضي دون أن يصطدم بقوانين أخرى" (82). 8. سلك اللغويون في تقنين أحكام لغتهم مسلكاً يتصف بروح العلم ومنهجه (83). فقاموا أولاً بجمع المادة اللغوية من منابعها (84)، ثم درسوها، ملاحظين المتغيرات في السلوك اللغوي وصولاً إلى استنباط القاعدة ورسم النظرية. وفي هذا دليل على أن الفيزياء ومبادئها قد انعكست في اللغة ومبادئها. فالفيزياء مادة علمية، وكذلك حال اللغة التي لم تعد تختلف عن بقية العلوم. و"لقد كان لهذا العلم تاريخ لا يختلف في الحقيقة عن تاريخ بقية العلوم التي تقوم على الملاحظة والاستنباط كالجيولوجيا والكيمياء والفلك والطبيعية التي بناها النشاط العقلي في العصر الحديث على الملاحظة الضئيلة والاستنباط البدائي الذي تمّ في العصور الماضية" (85). وليس بغريب بعد أن يكون النحويون واللغويون قد استمدوا من العلوم الطبيعية (الفيزياء) الأدلة التي فسروا على هديها أحكامهم، وبخاصة بعد استعمالهم للأمثلة الطبيعية والأدلة الرياضية. ويقال بشيء من الاطمئنان إن "اللغة وضعت في جو من الوعي العقلي، والذهن الذي يختار ويفضل، فيستعمل أداة لمعنى، ثم يستغني عن غيرها من الأدوات، كما هو الشأن في الحياة التي يلاحظها العقل، ويخضعها لأساليبه وطرائقه…" (86). [align=center]تقويـم[/align] ما ذكر من أدلة تعتبر البيان، وفيها الحجة والبرهان على صدق فرضية التبادل بين علم الفيزياء وأصول اللغة والنحو من جهة تعليل الأحكام والاستدلال عليها. أمام هذه الإشكالية نقدم توجيهين، الأول تربوي يقضي بضرورة إلمام مدرس العربية وطالبها بأصول الفيزياء، حين يروم في مصادر النحو باحثاً فيه، ليحصل على بغيته بأيسر الطرق وأقل جهد. ولهذا قال شمر معقباً على قول الخليل: " لا يصل أحد من علم النحو إلى ما يحتاج إليه…": "إذا كان لا يتوصل إلى ما يحتاج إليه إلا بما لا يحتاج إليه فقد صار ما لا يحتاج إليه يحتاج إليه…"(87) . والثاني معرفي يؤكد أن الدرس النحوي درس علمي، يسير وفق منهاج العلوم وأصوله. ولا نخبط فيما نقول خبط عشواء أو صيد ظلماء، لأن هذا الأمر أثبتته الأدلة وعززته الشواهد. وقد لحظ علماء اللغة هذه القضية حين فصلوا الدراسات اللغوية عن الفلسفة، واعتبروها فرعاً من فروع المعرفة " هذه النظرة التاريخية وما يتصل بـها من فكرة التطور إلى الاهتمام الكبير بالمذهب الميكانيكي الفلسفي في ذلك العهد لم تجعل علم اللغة في انسجام مع العلوم الطبيعية فحسب، بل جعلته في حمايتها أيضاً وعلى الأخص علم الحياة من بين العلوم" (88). وعلى ضوء التوجيه الأول نقول مرشدين طلاب التخصص الجامعي، عليهم التأني في اختيار قسم العربية وعلومها فرعاً لاختصاصهم ، فلا يحسبوا –غافلين- أنهم اختاروا العربية لحذقهم في الأدب وميلهم له، مع فقدهم الاستعداد العلمي الفطري في تفكيرهم. وإن فعلوا ذلك خرجوا- على أغلب الظن- عاجزين عن الإلمام بقواعد لغتهم وهي لبّ اختصاصهم وقطب رحاه. والذي جرهم إلى هذا المأزق نظرتهم -كما هو شائع- إلى اللغة وعلومها على أنها حقل من حقول الأدب، وما دروا أن دراسة اللغة يجب أن ينظر إليها نظرة إلى علم طبيعي بقوانين ميكانيكية على نحو ما كان مفروضاً في قوانين الطبيعة. (89) واستناداً إلى الأمر الثاني نقول إن الدرس النحوي درس علمي تتجدد وسائله وتتطور بتطور الحضارة والتقدم التكنولوجي. وعليه فإن العزوف عن النحو العربي، واتهامه بالصعوبة ينبع من مبدأ عدم النظرة إليه نظرة علمية وفق ما ترتضيه مادته وأصوله ، فيأتي الإلمام به قاصراً قصور المنهج، مبتوراً بتر النظرة . إننا بحاجة إلى نظرة جديدة إلى اللغة وأحكامها ، نظرة فيها التعقل والتدبر، مع التسلح بالمنهج العلمي. فإن فعلنا ذلك حُلَّت كثير من مشاكلنا اللغوية. ونقول خاتمين إن النحو العربي علم كسائر العلوم، فيجب أن يعطى ما يستحق من الأهمية التي تعطى لبقية العلوم، من الاستعداد والعناية والمنهج وبذل الجهد، وإلا تكون بدايتنا قاصرة خاطئة… ننتظر بعدها المحصلة الخاطئة والحرمان من جني الثمار، والفوز بالخسران، يصدقه قول الشاعر :[من الوافر] إذا ضيَّعْتُ أَوَلَ كًلَّ أَمْرِ أَبَتْ أَعْجَازُهُ إلاّ التْوَاءَ (90)[/align] ====================== [align=justify](64) يقصد بالأمثلة الماضي والمضارع والأمر. (65) عبد القاهر الجرجاني: كتاب المفتاح في الصرف، حققـه وقدم له د. علي توفيق الحمد، مؤسسة الرسالة ودار الأمل، بيروت وإربد (الأردن)، ط1،1407هـ-1987م، ص65. (66) السيوطي: المزهر في علوم اللغة وأنواعها، شرحه وضبطه وصححه… محمد أحمد جاد المولى وآخرون، دار الجيل، بيروت، لا تا، مج1، ص346. (67) يراجع، السيوطي: همع الهوامع، ج5، ص81. (68) ينظر أبو بركات بن الأنباري: الإنصاف في مسائل الخلاف، ج1، ص46. (69) أبو بركات الأنباري: الإنصاف في مسائل الخلاف، ج1 ص80. (70) السيوطي: الأشباه والنظائر في النحو، ج1، ص 202. (71) ينظر ، ابن جني: الخصائص، ج1، ص60. (72) الجاحظ: الحيوان، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون، شركة مكتبة ومطبعة البابي الحلبي، مصر، ط 2، 1965م، مج 1، ص37-38. (73) الزبيدي: طبقات النحويين، ص75. (74) يراجع القفطي: إنباه الرواة على أنباه النحاة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط2، 1981م، ج1، ص346. (75) ينظر، الزبيدي: طبقات النحويين واللغويين ، ص47. (76) يراجع، ياقوت الحموي: معجم الأدباء، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 1988م، مج9، ج17، ص118. (77) القفطي: إنباه الرواة، ج2، ص202، والسيوطي: بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر بيروت، ط2، 1399هـ-1979م، مج2، ص113. (78) ابن النديم:الفهرست، دار المعرفة، بيروت، لا.ت، ص82. (79) ابن النديم: الفهرست ، ص77. (80) ابن النديم: الفهرست، ص71. (81) ماريو باي (Mario Pei): أسس علم اللغة، ترجمة د. أحمد مختار عمر، منشورات جامعة طرابلس (ليبيا)، كلية التربية، 1973م، ص43-44، وميشال زكريا: الألسنية (المبادئ والأعلام)، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، ط2،1402هـ-1983م، ص208. (82) ابن جني: سر صناعة الإعراب ، ج1، ص61. (83) د. محمود فهمي حجازي: علم اللغة العربية، وكالة المطبوعات، الكويت، لا تا، ص57. (84) المرادي: الجني الداني في حروف المعاني، تحقيق د. فخر الدين قباوة، المكتبة العربية، حلب، ط1، 1393هـ-1973م، ص266. (85) سورة الإخلاص، الآية 3. (86) 93.Marouzeau language, Paris,3rd edition,1950,p (87) المنهج العلمي يفترض الانطلاق من ملاحظة الأحداث والمعطيات اللغوية إلى الفرضيات ثم التأكد من صحة الافتراض للواقع اللغوي، فبناء نظرية قائمة على هذه الافتراضات، ينظر د. ميشال زكريا: الألسنية علم اللغة الحديث (المبادئ والأعلام)، ص141. (88) كان الخليل بن أحمد والكسائي يخرجان إلى بوادي الحجاز ونجد وتهامه، فيسمعون منهم اللغة ويكتبونها عنهم، حتى قيل: إن الكسائي أنفذ خمس عشرة قنينة حبراً في الكتابة عن العرب. يراجع، السيوطي: بغية الوعاة..، مج2، ص163. (89) W.D. Whitney Language and the study of language, London, 1880,P10. (90) د. محمد خير الحلواني: الخلاف النحوي، دار الأصمعـي ودار القلم العربي، حلب، لا.تا، ص285.[/align] |
#10
|
||||
|
||||
![]() ما شاء الله
شكرا لك يا ابو صالح على النقل |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|