ملتقى الفيزيائيين العرب > قسم المنتديات الفيزيائية الخاصة > استراحـــة أعضاء ملتقى الفيزيائيين العرب. | ||
هذا الكون ؟ |
الملاحظات |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
|||
|
|||
![]() هذا الكون ؟ طالما كان المطلق حلم يدغدغ جميع العقول منذ فجر الفلسفة حتى اليوم , لكن الحقيقة الأكيدة تبقى في أن كونُنا هو صنيع حواسِّنا فحواسَّ الإنسان هي مُكتشفة هذا الكون , وعقل الإنسان هو وحده الذي يروده بفكره , وحياة هذا الإنسان ومضة ليست شيئاً في عمر الزمن , لكن هذه الومضة هي سر , وإن لغة الكلام لا تصحُّ أبداً لأن تجول في هذه الأمور , فالموضوع الذي نخوض فيه فوق متناولها , فلا يمكن للكلمات المشحونة بالصور الحسيّة أن تعبر عما يعلو على الحس ويسمو إلى التجريد , وهل بمستطاع اللغة أن تترجم لنا احدى سيمفونيات بيتهوفن , أو عبير الياسمين ولونه الأبيض أو طعم العسل . فكما أن اللون لا وجود له إذا لم توجد عين تميّزه , و زقزقة العصافير في يوم ربيعي دافيء لا وجود لها لولا وجود أذن تسمعها , وشذا الياسمين لا عبقاً له لولا وجود أنف مرهف الإحساس , فكذلك الدقيقة والساعة ليستا شيئاً إذا لم تكونا اشارة إلى حادثة , وكما أن المكان ليس غير نظام الأشياء المادية فكذلك الزمان ليس غير نظام الحوادث , ففكرتي الزمان والمكان هما من صنع العقل وليستا من بديهة الإستِبطان , فقد نشأتا بنشأة العقل البشري ونضجتا بنضوجه , وبالمقابل فإن الطبيعة تجهل كل شيء عن زمان بكل حوادثه ومكان بكل عناصره نظن أنهما من خصائصها , وأنهما ينتسبان إليها بالمعنى المطلق , لكنهما في حقيقة الأمر من خصائصنا نحن وينتسبان إلينا نحن , وليس لهما أي معنى خارجاً عمّا نُحس أو نقيس , لأن كلاً منّا ( الإنسان والطبيعة ) يشقُّ طريقه في متصل رُباعي الأبعاد ويصطنع كونه وينحِت زمانه ومكانه على نحوهِ الخاصّ به , فلو كَبِر حجم العالم ألفي ضعفٍ عن حجمه الحالي مثلاً فإنه يظلّ يبدو لنا كما هو , وسوف لن تقودنا حواسُّنا للإحساس بأيّ فرق , لأن جميع الأطوال والمقاييس الحسّية تكبر بهذه النسبة أيضاً . إن الزمان والمكان بدلاً من أن يكشفا لنا الحقيقة - إذا كان ثمة حقيقة - يسدلان عليها الحجب والستائر التي نُسجت بأيدينا , وإنه لشيء غريب حقاً ألا نستطيع تصور الكون عارياً عن الزمان والمكان , مثلما لا نستطيع رؤية بعض الميكروبات بالمجهر من غير أن نصبغها , ولا أن نقفز في الهواء من دون أن يؤلمنا سقوطنا على الأرض فالأشياء في ذاتها لا شكل لها ولا طعم , ولا لون ولا حجم , ولا طول ولا عرض , ولا نظامٌ يسود فيها ولا اختلال يتهددُها , فما هذه إلا معانٍِ حسيّة يضفيها الإنسان على زمكانٍ مجهولٍ وكونٍ لا يدري من أمرهِ شيئاً ليؤصِّل حقيقته ويؤكّد وجوده ويفرض ذاته على ما هو من صنع يديه واختراعِ وهمهِ وأحاسيسهِ ليحيله أدواتٍ له , تساعده على قهر خوفه من غياب الحقيقة وجبروت الواقع . لقد اتسعت شُقة الخلاف بين عالَم الظواهر وعالَم الحقائق , فكلما أسفرت الطبيعة عن وجهها وتخلت عن سر من أسرارها , وكلما شاع النظام في الفوضى ودبت الوحدة في التنوع , والبساطة في التعقيد , كلما زاد الإنسان إمعاناً في التجريد والبعد عن عالم الخبرة , سعياً منه دؤوباً لا يعرف الكلل والملل للوصول إلى الحقيقة , حقيقة هذا الكون وحقيقة هذا الوجود . لقد كانت ضريبةُ العلم باهظةً , فلا يوجد أي شبه بين صورة الشجرة التي نحسّها وذات الشجرة التي تصفها لنا الميكانيكا الموجيّة , بين قبّة السماء المتلألئة في الليل وبين زمكان أينشتاين القاحل الهزيل الذي حلَّ محل المكان الإقليدي لحواسّنا , لقد دفعنا ثمن العلم غالياً عندما أردنا التحرر من ضوضاء حواسّنا , ففرّقنا بين عالَم الظاهر وعالَم الحقيقة - إن صحّ وجود هذا الأخير - ومهما تقدمت كشوف الفيزياء وضرب العلم في التجريد فلن يتخلى الإنسان عن كونِ حواسّهِ ( الكون الذي صنعته له حواسّه ) , ولن يستمرئ غير هذا الكون , لأن فيه قوام وجوده , فشتّان بين عالمِ لا يُحَسّ ولا يُدرَك , عالمِ لا لون له ولا طعم ولا صوت ولا رائحة , وعالمٍ كله رُواء وجمال . يقول هيغل " إن الوجود والعدم شيء واحد " , الآن أفهم هذا الكلام في أن الوجود الذي نحسه الوجود الذي نتغلغل فيه ويتغلغل فينا يخفي وراءه وجوداً آخراً لا ندري به لأننا لا نحسه لكننا نسميه العدم , فحياة الظلال والخداع على علة معنى كلمة خداع أغنى ألف مرة من حياة الحقيقة , وفيها يكمن معنا الوجود , وأما عالَم الحقيقة فهو فقير شاحب هزيل لامعنى له على الإطلاق , فمهما أمعن الفلاسفة والعلماء في الغض من شأن عالَم الظواهر , فعالَم الظواهر يظلّ عالَم النور والجمال وعالَم الصور والألوان , عالَم السماء الزرقاء والورود والعشب الأخضر الريّان , عالَم الواقع الذي نسمع فيه خرير الماء وزقزقة العصافير , ونتأمّل فيه بتنفس الصبح وشروق الشمس ومس النسيم , وبكلمة واحدة إن عالَم الظلال والظواهر يعدل ألف مرة عالم الحقيقة , لأن الظلال والظواهر معانِ خلعها الإنسان على مالا معنى له ليتمتع بكل معنى . ولئن كان عالَم العلم والحقائق يُبحر بعيداً عن عالَم الحس , فلا يغضنّ ذلك من قيمته , لأنه في مقابل ذلك قد ظفر بأعظم الإنتصارات العلمية التي عرفها التاريخ , وهذه الإنتصارات لا بد أن ندفع ثمنها , ولحسن الحظ أن هذا الثمن كان نظرياً أكثر منه عملياً حتى الآن , ولذلك فلا تثريب علينا مادام الثمن قليلاً , وليكن العالَم ما طاب له أن يكون , فإذا كان العلم لا يقول لنا شيئاً عن حقائق الأشياء - إذا كان لها من حقائق - فهو قد نجح نجاحاً كبيراً في تحديد علاقاتنا بهذه الأشياء , وعلاقاتها بعضها مع بعض ووصف الحوادث المتمخضة عنها , فماذا نريد بعد ذلك ؟ فنحن وكما يقول بوهر" نمثل رواية الوجود الكبرى ونشهد فصولها في آن واحد " , فالإنسان هو سر الأسرار وأحجية الأحاجي , ولن نفهم الكون قبل أن نفهم الإنسان , والنتيجة الحتمية التي لا مناصَّ من الإفضاء إليها في نهاية الأمر هي أن الأكمة لا تخفي وراءها شيء , وأن الإنسان هو بطل هذه الرواية وفيه يكمن الكون وبه ينعقد السر , وإذا كان علم النّفس لا يزال طفلاً يحبو , فلا يتوقعنّ أحدُ أن تبوح لنا الفيزياء الذريّة وعلم الفلك قريباً بكلمة السر , فإذا فهمنا الإنسان فهمنا الكون , ففي الإنسان وحده كلمة السر ! . |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
انواع عرض الموضوع |
![]() |
![]() |
![]() |
|
|